يتأففون من مراوح السقف وغياب الصلاحيات,
يتنحنحون على كراس دوارة
فيخف إليهم متطوعون بالسكر الفضي والزنجبيل
وفي ملفاتهم تجف السدود وتفر القرى
أمام جباة فائقي الدهاء.
***
وحيثما ثقفوا مركبا ليتامى خلعوه;
ولما أشاح صاحبه بوجهه عنه
قال له: ألم أقل لك أنك لن تطيق معي صبرا.
“وصول الغرباء”/ أمجد ناصر، لندن 1989
في إحدى مسرحيات الفرقة الموريتانية الساخرة (شي إلوح إفشي) قدمت فريقا من الخبراء الغربيين غارقين في عملية تنقيب عن الثروات التي يزخر بها جوف الأراضي الموريتانية.. في حالة إعياء من الحفر والتنقيب.. ليستدعي الصحافة في أحد أحياء العاصمة، حيث خاطب كبيرهم الحضور قائلا: “لم نعثر لاعلى النفط ولا حتى الكبريت…”، وأضاف، لكننا اكتشفنا أنه في هذا الحي كانت توجد شوارع وأرصفة، وساحات عمومية، ورياض أطفال، ومعاهد موسيقية، ودور للسينما…” يحكي هذا المقطع الساخر إلى أي مدى تراجعت الدولة في موريتانيا منذ 1978 من القرن الماضي عن تأدية وظائفها التقليدية، بعد أن “أقرت” صرف الميزانيات في جيوب الموظفين المسؤولين عن تسييرها! هكذا تحالف الجفاف ونهم الموظفين ليعلن عن بداية عهد من “الفساد” المالي والسياسي، تجذر ليؤسس ل”ثقافة” النهب، التي أنجبت أجيالا تسللت إلى الوظيفة العمومية عبر التحالفات القبلية والولاءات الزبونية، التي عطلت مشروع الدولة، وعبثت بامتهان العمران في “بلاد السيبة”.
لكن التحول السياسي الذي عرفت موريتانيا مؤخرا شرع جادا في مواجهة هذا الطوفان الذي دنس شرف الرجال ومرغ هيبة النساء، وجعل “المؤسسات” مجرد “خواتم” تباع في الخردوات التي انتشرت بالعاصمة لتبييض أموال المشاريع العمومية…
..قبل “الجيوب”!
في الثقافة الشعبية اعتبر فرسان السيف واللوح بهذا “المنكب البرزخي” الثروة “مدنسة” لنبل الروح، لذا اعتمدت كملك مشترك تتقاسمه الجماعة مع الضيف وعابر السبيل.. تجسدت هذه المرجعية عبر مسلكيات الملبس، الذي لم تلحق به “الجيوب” إلا بعد مجيء المستعمر، بحكم إهمالها ـ عمدا ـ من طرف المصمم الأول!
وقد كانت النخبة المؤسسة للدولة الموريتانية، تعيب على أفرادها “امتلاك” الثروة التي بدأت تتراكم بحكم العمل الوظيفي، مما جعل أول رئيس لموريتانيا الراحل المختار ولد داداه يتدخل ل”خلق” طبقة مالية استفادت من قروض وامتيازات الدولة، التي جلبت لها “تهكم” الأهالي المتمسكين بنمط وأسلوب “النبل” الأول!
لكن تداول الثروة سرعان ما أقر أساليب ومسلكيات جديدة انعكست بصفة أكثر وضوحا على النسيج الاجتماعي للشعب الموريتاني الذي كان قد بدأ للتو رحلة اكتشاف المدينة، التي أودعها عصاه بعد أن تعودت الهش على القطيع، وولعه بتقصي رحلة المراعي!
كانت الدولة الفتية حريصة على ترسيخ مفاهيم التسيير الإداري، ويقظة من خلال اللجوء إلى أساليبه “الردعية” كل ماحدث تجاوز من طرف الموظفين! إذ اقتيد “أشراف” تطاولوا على مبالغ ـ كانت رمزية في بعض الأحيان ـ أمام القضاء، لينالوا عقابهم قبل أن يشمت بهم المجتمع، الذي فهم للتو أن “سوء التسيير” لا يعدوا كونه سرقة لمال الغير!
وتكاد ترجع مختلف البحوث والدراسات التي تناولت الإطاحة بالرئيس الراحل ولد داداه أسبابها، إلى نية هذا الأخير ـ التي كان قد كشف عنها لبعض مقربيه ـ إلى مسائلة بعض المسؤولين العسكريين والمدنيين الضالعين في التحايل على مبالغ مالية ضخمة كانت قد خصصت لنفقات “حرب الصحراء” مطلع السبعينيات من القرن الماضي!
ثقافة الفساد!
محاولة من الأنظمة العسكرية المتعاقبة على السلطة آنذاك ل”شرعية” ممارستها، لجأت إلى منطق “الغنيمة” الذي يقر تقاسم المسؤولين الحكوميين لميزانيات ومناصب قطاعاتهم مع بني جلدتهم، لتفتح الوظيفة العمومية أمام الرعاة وأميي الأرياف، المتعطشين لرفاه السيارات الفاخرة والفيلاهات الفسيحة والموائد المتخمة، مقابل طاعة الأهالي والقطيع للسلطة المركزية، كجزء من “كتشها” الذي حل محل الدولة بمؤسساتها التي سلبت هيبتها ونخبها التي امتلأت بها السجون!
فقد النظام التربوي مصداقيته، وطفق يقذف بأجيال متتالية تعتبر الاستيلاء على المال العام “بطولة” وتوظيف أبناء العمومة من الأميين “نفوذا”…
تعطلت المراكز الصحية والمستشفيات، أمام قدرة القبيلة على جمع الأموال الضرورية لمحظوظيها الراغبين في العلاج بالخارج!
سلمت السفارات للتجار المضاربين بمنح الطلاب من الأموال الصعبة، ليختفي علم البلد ورموزه من جميع المحافل الدولية!
انضافت أوراق الحالة المدنية وأسلحة الجيش الثقيلة منها والخفيفة إلى معروضات الأسواق التي غذت اقتصادا إجراميا، عجز من الناحية الاجتماعية عن خلق فرص للعمل، ولا حتى مداخيل جبائية للخزانة العمومية!
ساعد على “استتباب” هذا “السراب” الاقتصادي، تغذية السوق بعائدات المضاربات العقارية الخارجة على النسق العمراني للعاصمة، وتبييض أموال المساعدات الأجنبية من العملات الصعبة دون مرورها بالبنك المركزي، حيث كشف تقرير لصندوق النقد الولي سنة 1999 عن سيطرة عشر عائلات على أكثر من 72 بالمئة من الناتج الوطني الخام!
أشرف على تنفيذ سيناريو ـ النهب، الذي عرف عصره الذهبي أثناء حكم ولد الطائع (1984/2005)، لفيف من الإداريين والسياسيين، الذين أخذوا أسماء شهرتهم من نوعية الصفقات والتمويلات والأراضي التي استولوا عليها دون أبسط مسائلة.
..هدمت الأصنام!
تبقى أحاديث الصالونات، وتعاليقها الموغلة في السخافة السطحية، أكبر “تأثيرا” على الرأي العام حيال فهم وتناول غالبية القضايا العامة! لذا لايخلوا اجتماع لموظفين كسولين خلال جلسات الشاي التي لاتنتهي، ولا “بقالين” من رواد حياتنا الاقتصادية، ولا “متقاعدين” من قادة الأحزاب السياسية، أو “متسولين” من أصحاب الهيئات غير الحكومية، ولا حتى عاطلين عن عمل لم يكتسبوا بعد الكفائة الملائمة لممارسته، لاتخلوا هذه المجالس بوصفها “حلقات” توجيه الرأي العام، من بعض السذاجات الأخلاقية، والحماقات السياسية، والقرزمات الاقتصادية، و”المصاريف” الشعرية، والخزعبلات الفكرية.. التي يمتطيها كل متطفل على الشأن العام ليقحم نفسه في أمور يتسلى بعجزه عن فهمها!
صحيح أن التداول الفوضوي للثروة المغذية للاقتصاد الإجرامي قد انحسر، وبالتالي انهارت معالم “السراب” الاقتصادي الذي “أبدع” نظام ولد الطائع، عبر المضاربات العقارية وتبييض أموال المساعدات الأجنبية والمخدرات والأسلحة، التي مكنت من “تلجيم” أفواه التجار والموظفين السامين والوجهاء، كوقود “لإبروباكانديا” الإنجازات الوهمية والاكتفاء الغذائي العاجز عن سد رمق الفقراء، والغطاء الصحي المهزوم أمام الحمى، والسيطرة الأمنية التي يهددها محترفو السلاح الأبيض في الأحياء الشعبية للعاصمة، والتمدرس المجهل لأجيال عدة، والتكافل الاجتماعي المفكك لأسر الأرياف والمدن.. كانت السلطات العمومية توفق دائما في حبك خطابها المغالط عبر تزوير المعطيات الاقتصادية للبلاد، واهمة جائع “كوبني” ومريض “الركيز” بأن العز الذي يرفل فيه أبنائهم من أكلة المال العام “بتفرغ زينة” في طريقه إليهم ليقلب واقعهم المأساوي بعصا سحرية إلى جنان أبدية!
لقد اخترق الفساد في موريتانيا الأجيال والحقب باعتباره “وسيلة ” للثراء بوصفه “الطموح” الوحيد المتاح لأجيال سئمت تطاول المخنث، وقذع المومس العمياء، وجبروت الجاهل.. المنعشين الحقيقيين لبلاط يوزع بسخاء الأعلاف مقابل لعق حذاء “مجنون” لم يعد يعنيه من أمور شعبه غير إهانة الأرواح بعد أن مثل بالأجساد عقودا تعد بالقرون!
لنمضي، بعيدا عن “تهافت” رسل النميمة والوشاية،من المتسلين بعجزهم عن فهم مضامين الإصلاح، والاكتفاء ب”تنمية” البطون من “مال” و “جاه” كبلته ضوابط الشفافية، وحتميات التنمية الحقيقية! الآن وقد هدمت “أصنام” وقطعت رؤوس “أينعت” فطال انتظار قطافها..ربما يفقه “التلاميذ” المتفوقون لمدارس الفساد، أن تطبيق القانون لم يعد مقتصرا على سارق قنينة الغاز بأحد الأحياء الشعبية المثقلة بتراكم عقود النهب والوعود الكاذبة من صناعة الحكومات المتعاقبة.
عبد الله حرمة الله