رغم مرور أربعة عشر عاماً على رحيل الفنانة ديمي بنت آب، ماتزال أغانيها تصدح في كل بيت وسيارة، إذ لم يستطع الموريتانيون نسيانها، فهي ما زالت حاضرة بقوة في الذاكرة الجمعية.
في مثل هذا اليوم من عام 2011، فُجع الموريتانيون برحيل ديمي بنت آب، إثر وعكة صحية مفاجئة ألمّت بها في المملكة المغربية. كان ذلك اليوم حزيناً، اتشح فيه محبو الفنانة بالسواد، غير مصدقين أن أيقونة الفن الموريتاني وسفيرة البلاد إلى الخارج قد غادرت دون وداع.
لكن رحيلها لم يَمحُ صورتها من الأذهان؛ فمازال صوتها حاضراً، وهي تتلمس آلة “آردين” وتعزف نوتات الموسيقية الخالدة، فتُهيج مشاعر مستمعيها الذين يصغون إليها بخشوع.
لا يمكن المرور عبر الأسواق الموريتانية دون أن تصادف أنغام ديمي منبعثة من مكبر صوت أو مذياع، كما أن السفر لا يحلو لدى كثيرين دون الاستماع لأشرطتها، سواءً تلك التي سجلتها مع الفنان الخليفة أو سَدُوم.
رغم الغياب، مازالت ديمي حاضرة في تفاصيل الحياة اليومية للموريتانيين، في أفراحهم وأسفارهم وغربتهم، وماتزال أشرطتها من بين الأكثر تداولاً في البلاد.
كما أنها تحتفظ بجمهور واسع من مختلف الفئات العمرية، فشهرتها الفنية طاغية، ومازالت تتربع على عرش الأغنية الموريتانية.
فنانة بالوراثة
ولدت الراحلة عام 1958 في بلدة الرشيد بولاية تگانت وسط موريتانيا، وهي ابنة الفنان الكبير سيداتي ولد آب، الذي ذاع صيته في فترة الاستقلال، فليس من المصادفة أن تأسر ديمي القلوب بصوتها منذ طفولتها؛ فقد ورثت موهبة والدها، وغنت للاستقلال والعلم والنشيد، تماماً كما عزف سيداتي النشيد الوطني على آلة “تدينيت”.
وقالت في مقابلة عام 1989: “كنت أستمتع بالغناء منذ أن بدأت أعي ما حولي. من طفولتي رافقت عائلتي، وعندما بلغت حوالي 10 سنوات، علمتني أمي عزف الآردين.”
في ثمانينيات القرن الماضي، بدأ الجمهور الموريتاني يتعرف على ديمي ويكتشف موهبتها، فكانت حاضرة في حفلاتهم، ومثّلت بلادها في المهرجانات الإقليمية والدولية.
منحت ديمي ألقاباً عدة، أبرزها “أيقونة الفن الموريتاني”، وغنت للوطن والاستقلال، وشاركت في حفلات أقيمت على شرف قادة وزعماء خلال زياراتهم لموريتانيا، التي كانت تقدم أمامهم جوهرتها الفنية النفيسة، المعبّرة عن وجهها الحضاري داخلياً وخارجياً.
ديمي العالمية
وصل صوت ديمي إلى العالمية من خلال مشاركتها في مهرجانات دولية عدة، حيث نال حضورها الفني القوي إعجاب الجمهور والنخبة الفنية على حد سواء. من بين أبرز معجبيها العازف الأسطوري علي فاركا توريه من مالي، والعازف الماهر للكور توماني دياباتيه، بالإضافة إلى النجم السنغالي يوسو ندور، الذين عبروا عن رغبتهم في التعاون معها انذاك.
مزجت أغاني ديمي بين روح الموسيقى في شمال وغرب أفريقيا، حيث دمجت ببراعة بين المقامات العربية والارتجال الحر، متماهية مع أصداء آلات غرب أفريقيا التقليدية.
هذا الأسلوب الفريد منحها جمهورًا واسعًا ليس في شمال أفريقيا فحسب، بل امتد إلى مالي، حيث أثار صوتها إعجاب العازف الأسطوري علي فاركا توريه لدرجة أنه أوصى شركة التسجيل البريطانية World Circuit بالتعاون معها، فاستضافتها في جولة فنية بالمملكة المتحدة في ربيع عام 1989.
رافقها في هذه الجولة زوجها خليفة ولد ايده، المغني وعازف آلة التيدينيت التقليدية، وابنتها فيروز التي شاركت بالغناء الخلفي والعزف على الإيقاع. خلال إقامتها في بريطانيا، سجلت ديمي أول ألبوم لها على الأراضي البريطانية بعنوان “موسيقى موريتانيا المورية”، الذي صدر عام 1990 عبر World Circuit، وُوصف بأنه أول تسجيل راقٍ للموسيقى المورية من الجمهورية الإسلامية الموريتانية. تميز الألبوم بصوت ديمي القوي والجليل، سواء بدعم الآلات التقليدية أو الغيتار الكهربائي الذي عزفه زوجها، كما ظهر ذلك بوضوح في أغنيتها الشهيرة “موريتانيا، بلدي الحبيب” التي تحمل نكهة البلوز الصحراوي الساحرة.
في عام 1992، أطلقت ألبومًا أكثر تقليدية عبر شركة Auvidis الفرنسية، وقامت بجولتين أوروبيتين خلال أوائل التسعينيات، لتصل إلى الولايات المتحدة لأول مرة في 1994.
عاد صدى ديمي إلى بريطانيا عام 2006 عبر مشاركتها في مهرجان ووماد، رغم تعثرها مع سلطات الهجرة التي منعت دخول بعض أعضاء فرقتها. إلا أن أدائها ظل حيًا ونابضًا، وسجلت خلال هذه الزيارة مواد جديدة لشركة World Circuit، لكنها لم تُنشر بسبب غياب كامل فرقها.
في نفس العام، أصدرت World Circuit أول تسجيل استوديو جديد لها منذ أكثر من عشر سنوات، بعنوان “Song 4″، بالتعاون مع موسيقيي الفلامنكو في مدريد. جاء هذا المقطع ضمن ألبوم احتفالي بمرور 20 عامًا على تأسيس الشركة، إلى جانب تسجيلات نجمين بارزين مثل علي فاركا توريه وBuena Vista Social Club، ليذكّر الجميع بقوة وصخب صوت ديمي البلوزي المميز.
وسبق أن وصف مدير World Circuit، ديمي بأنها “مغنية استثنائية ذات شخصية متواضعة، تتمتع بروح فكاهية عالية، محبوبة من جمهور مخلص. أتذكر خلال جلسات مدريد كيف طلبت مني أن أزور فندقها لأخذ كيس نسيته، كان مملوءًا بأساور ذهبية ومجوهرات أهدى لها إياها معجبوها.”
صوت لا يعوض
في كل ذكرى لرحيل الفنانة، تضج مواقع التواصل الاجتماعي بتأبين ديمي، ويتحسر الموريتانيون على غيابها جيلاً بعد جيل.
ذلك الشاب، وهو في غربته البعيدة، ينشر مقطعاً من إحدى أغانيها، يراها الركن الذي تأوي إليه الروح لتعيش بسلام، ويكتب: “حين أسمع ديمي، يعود الوطن إلى قلبي”.
أما تلك السيدة، فتشارك مقطعاً من ثنائيتها التاريخية مع الفنان الخليفة أو سَدُوم، وتعلق: “لم تُنجب موريتانيا صوتاً مثلك منذ رحيلك… كنتِ وحدك الأغنية التي لا تُنسى”.
الجميع يتعلق بها، يستعيدون ملامحها ومحاسنها وإنسانيتها.
ما زاد من حب الجمهور لها هو تواضعها وإنسانيتها، فقد كانت تتأثر بالحالات الإنسانية وتتبرع بسخاء للمحتاجين، ويجمع كل من عرفها على جودها وكرمها.
فكان منزلها قبلة للفقراء، وبابها مفتوحاً لكل محتاج، لم تكن فنانة فقط، بل كانت قلباً نابضاً بالرحمة، صادقة مع الناس، ومع الفن، ومع الوطن.