التعديلات الدستورية الأخيرة في موريتانيا ستغير ملامح العاصمة نواكشوط، فالمبنى الذي يتخذه مجلس الشيوخ مقراً له منذ بداية التعددية السياسية في البلاد عام 1992، سيتم هدمه وتشييد نصب “الجندي المجهول” في الساحة التي ستحمل اسم “ساحة المقاومة”، بينما سيلحق جزء كبير منها بالحيز الترابي للقصر الرئاسي.
عندما تأكدنا من هذه المعلومة من مصادر رسمية، توجهنا إلى بوابة المبنى، سألنا عنصر الحرس المداوم عن مستقبل المبنى بعد اعتماد المجلس الدستوري لنتائج الاستفتاء الشعبي التي تلغي مجلس الشيوخ، كان رجلاً متعباً ومتوتراً، أمسك بالبوابة الحديدية وكأنه يريد التأكد من أنها مغلقة، رد علينا من وراء القضبان: “لا أدري، لا أدري”، قلنا له: “سمعنا أنهم سيهدمون المبنى، هل سمعت ذلك؟”، رد بانفعال: “لم أسمع أي شيء”.
كان الرجل صادقاً في جوابه الأخير، فقد صدمته المعلومة التي قدمناها له مغلفة على شكل سؤال، من الواضح أنه منذ سنوات وهو يحرس المبنى، لقد خلقت هذه السنوات رابطة قوية بينه والمبنى، وأحس أن كل شيء سينهار في غضون أيام، ولكن في النهاية لن يكون الأمر أكبر مما سبق من هدم مباني رافقت مرحلة تأسيس الدولة، ورأى كثيرون في إهمالها واختفائها قتلاً لمرحلة مهمة من تاريخ البلد.
موريتانيا الجديدة
موريتانيا الجديدة، أو الجمهورية الثالثة، من ضمن أسماء عديدة قدمها أنصار نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز، ليصفوا بها المرحلة التي تستعد البلاد للعبور نحوها، مرحلة تحف العلم الوطني فيها طاقية حمراء، ويزداد النشيد الوطني بأبيات شعرية من قريحة 37 شاعراً وشاعرة.
“الجمهورية” الجديدة التي قدمها الرئيس بانفعال في مهرجاناته خلال الحملة الانتخابية الأخيرة، ستشيد على أنقاض مجلس الشيوخ، ذلك المبنى الذي قال الوزير الناطق باسم الحكومة إنه “لم يعد له وجود منذ هذه اللحظة”، أي منذ أن بت المجلس الدستوري في نتائج الاستفتاء، ولكن الوزير أضاف: “بناية المجلس وممتلكاته وتجهيزاته أصبحت في عهدة الدولة”.
اللافت في تاريخ هذا المبنى أنه كان دوماً يحضر في اللحظات والمحطات الحاسمة من تاريخ البلد، ولعله اليوم يجدد هذا الموعد مع التاريخ، حين أسقط 33 شيخاً من داخله التعديلات الدستورية، في لقطة لم تكن معهودة في موريتانيا، أن يقول “الشيوخ” كلمة “لا” في وجه الرئيس، ولكنه عاد ليهدم البيت فوق رؤوسهم.
لسنوات طويلة كان مبنى مجلس الشيوخ واحداً من أقل المباني إثارة للانتباه في العاصمة، وأبعدها عن الأضواء التي يسرقها منه القصر الرئاسي والبنك المركزي، وظل دوماً يدير ظهره للمحتجين أمام القصر، بل إن شابين موريتانيين قد أضرما النار في جسديهما على بعد أمتار قليلة من بوابته، ولكنه ظل حينها يغط في نومه العميق.
تغير الوضع منذ شهر مارس الماضي، فقد تحول ذلك “البيت الأحمر” إلى جمرة ملتهبة في حلق القصر الرئاسي، وأصبح قبلة للصحفيين الباحثين عن تفاصيل الصراع بين السلطة والمعارضة، لقد تحول إلى ساحة للفعل المعارض للرئيس، ولأول مرة ألقيت قنابل الغاز المسيل للدموع عند بوابته، في واحدة من أقرب الاحتجاجات “العنيفة” من بوابات القصر الرئاسي.
تاريخ المبنى
في إطار بحثنا عن تاريخ المبنى الذي احتضن لعقود مجلس الشيوخ، الغرفة العليا في البرلمان الموريتاني، التقينا بعدد من الباحثين والسياسيين وسكان نواكشوط القدماء، تفاجأ أغلبهم من اهتمامنا بالمبنى، وكيف نعمل على إعداد قصة عنه، في حين تلاشت خلال السنوات الأخيرة مباني أخرى عديدة، أكثر منه أهمية، ولم يلفت ذلك انتباهكم؛ لم تكن لدينا إجابة على هذا التساؤل.
يقول أحد الباحثين التقيناه في مكتبته الخاصة، إنه من الراجح أن المبنى تم تشييده عام 1963، ولكن خلال عملية بحث مضنية بين رفوف مكتبته، عثر على صورة التقطت عام 1962 لمدينة نواكشوط يظهر فيها المبنى، إلا أن الصورة لم تحدد الدور الذي كان يلعبه المبنى في تلك الفترة المهمة من تأسيس الدولة؛ ويقول الباحث إن أول ما يتذكره هو أن المبنى كان مقراً للجمعية الوطنية.
في نفس الصورة ظهرت “المدرسة رقم 8″، التي شيدت قبل الاستقلال على أنها نواة لمشروع جامعة نواكشوط، واحتضنت في البداية “الجمعية التأسيسية”، وعلى مقاعد هذه المدرسة كتب أول دستور للبلاد، وجرى حفل الاستقلال من على مدرج كان منصوباً في ساحتها، وتم رفع العلم الوطني من أمامها.
تقع “المدرسة رقم 8” إلى الخلف من مبنى المجموعة الحضرية الآن، وقد تحولت إلى خراب بسبب الإهمال، على الرغم من أن قراراً صدر في شهر مارس 1978 ينص على حمايتها بوصفها جزء من التاريخ الثقافي والسياسي لمدينة نواكشوط، رفقة مجموعة أخرى من المباني التي تلاشت أو ضاعت، أو تم بيعها وهدمها لتشييد أسواق جديدة.
انتقلت الجمعية الوطنية من “المدرسة رقم 8” إلى المبنى الحالي لمجلس الشيوخ، مطلع ستينيات القرن الماضي، وتم تشييد “فندق النواب” على الناحية الأخرى من “شارع الاستقلال”، ولكن منذ سنوات قليلة اختفى الفندق الذي كان يقيم فيه النواب خلال الدورات البرلمانية، وبعض كبار المسؤولين، لقد تحول إلى جناح من البنك المركزي.
قرارات تاريخية
خلال الفترة التي قضاها المبنى مقراً للجمعية الوطنية، كان شاهداً على محطات مهمة من تشييد الدولة الموريتانية وصراعاتها السياسية مع بداية إرهاصات الحركة السياسية في البلاد وتشكل الساحة، كما شهدت جدران المبنى على النضال والبحث الدؤوب عن الاستقلال الاقتصادي والثقافي والإداري عن المستعمر الفرنسي.
على المنصة الخشبية التي تقع في صدر الغرفة الرئيسية للمبنى، وقف الراحل المختار ولد داداه، يوم 28 نوفمبر 1974، ليعلن تأميم شركة “ميفارما”، وتحويلها إلى الشركة الوطنية للصناعة والمناجم “سنيم”، قاطعا خطوة كبيرة نحو الاستقلال الاقتصادي لموريتانيا، وملبياً مطلباً جوهرياً لدى أغلب الحركات السياسية في تلك الفترة.
كما أنه من نفس المبنى، وفي نفس الغرفة التي لم تتغير ملامحها كثيراً حتى اليوم، أعلن الرئيس المؤسس قبل ذلك بعام واحد (1973) إطلاق “الأوقية”، أول عملة وطنية خاصة بموريتانيا، وهو تتويج لقرار الخروج من جلباب “الفرنك الفرنسي” الذي كانت ترتديه دول “أفريقيا الغربية”.
قرارات كثيرة كان لها أثرها البالغ في موريتانيا التي نعرفها اليوم، تمت دراستها والتخطيط لها، وإعلانها بشكل رسمي بين تلك الجدران، ومن على تلك المقاعد الخشبية الحمراء.
الحقبة العسكرية
بعد انقلاب 1978 الذي أطاح بنظام الراحل المختار ولد داداه، وأدخل موريتانيا في مرحلة جديدة من عدم الاستقرار السياسي، كان المبنى حاضراً بقوة في تفاصيل المشهد السياسي وصناعة القرار، خاصة بعد إعلان حالة الطوارئ وفرض الأحكام العرفية، وبالتالي حل الجمعية الوطنية التي كانت تتخذ من المبنى مقراً لها.
اتخذ العسكريون من المبنى في البداية مقراً لرئاسة الوزراء، بسبب قربه من القصر الرئاسي، وقد عمل في مكاتبه كل من سيد أحمد ولد ابنيجاره ومعاوية ولد سيد أحمد الطائع، اثنان من أشهر رؤساء الحكومات في موريتانيا، وواحد منهما حكم موريتانيا بعد ذلك طيلة عقدين من الزمن.
بعد ذلك قرر العسكريون تحويل رئاسة الوزراء إلى مبنى كانت قد شيدته الشركة الوطنية للصناعة والمناجم “سنيم”، على أن يكون مقرها في نواكشوط، وبرر النظام العسكري القرار بأن الشركة لا تحتاج لمقر كبير الحجم في العاصمة، فأغلب أنشطتها في ازويرات ونواذيبو، وبالتالي أصبح مبنى “سنيم” هو مقر رئاسة الوزراء وظل كذلك لسنوات عديدة.
لم يكن من المألوف أن يبقى المبنى شاغراً، فبعد خروج رئاسة الوزراء منه، أصبح مقراً للأمانة الدائمة للجنة العسكرية للخلاص الوطني، الممسكة بمقاليد الحكم في موريتانيا، وهي التي بقيت فيه حتى التعددية السياسية عندما أصبح مقراً لمجلس الشيوخ، الغرفة العليا في البرلمان.
الموت البطيء
خلال الحديث مع أحد سكان نواكشوط القدماء، قال لنا إنه من المفارقات أن المبنى الحالي لمجلس الشيوخ كان يفصله شارعان عن القصر الرئاسي، ولكن التوسع الدائم لمحيط القصر ابتلع هذين الشارعين، شارع أبو بكر الصديق وشارع عبدولاي، القادمان من ملتقى الطرق المقابل للسفارة الفرنسية.
وتقدم تفسيرات عديدة لإغلاق هذين الشارعين وإخلاء الساحات الفاصلة ما بين القصر ومجلس الشيوخ، من أبرزها القلق الأمني الذي أعقب فترة الانقلابات وعدم الاستقرار السياسي بعد الإطاحة بنظام الرئيس المختار ولد داداه، بالإضافة إلى تشييد الحدائق الواسعة والفسيحة للقصر خلال حكم الرئيس ولد الطائع.
لقد كان يوصف مبنى مجلس الشيوخ بأنه الأقرب للقصر، وهو أمر حمل دلالة سياسية خاصة، فالدستور يشير إلى أن رئيس مجلس الشيوخ هو من ينوب عن الرئيس في حالات معينة من أبرزها العجز أو الاستقالة، وبالتالي قد يكون قصر المسافة نحو القصر شيء مفهوم.
ولكن رجلاً وحيداً هو من سبق أن قطع هذه المسافة، إنه الراحل با امباري، الذي غادر مكتبه في مجلس الشيوخ نحو مكتب الرئيس ذات مساء ساخن من مساءات عام 2009، عندما كانت البلاد تغلي فوق نار انقلاب 2008 الذي قاده الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز.
سيختفي مبنى مجلس الشيوخ، وستختفي معه المسافة الفاصلة بين الرئيس ونائبه، وربما تتغير الكثير من الأمور، إلا أن الشيء الوحيد الثابت هو أن تلك الحجارة الحمراء التي شيد منها المبنى، كانت شاهدة على مرحلة مهمة من تاريخ تأسيس الدولة، وفي تكسيرها هدم لذاكرة مدينة، يقول أحد الباحثين الذين يحسون بمرارة هدم معالم المدينة.
يضيف الباحث بشيء من الأسف: “لقد اختفت جميع الشوارع التي عرفناها قديماً، كما تم هدم بلوكات والمدارس، كل هذا من أجل تشييد أسواق، للأسف مدينة نواكشوط التي عرفناها يتم قتلها ببطء، لأن قتل الذاكرة قتل للمستقبل”.