أعلن فجر اليوم الأحد، في العاصمة الموريتانية نواكشوط، عن وفاة العلامة الموريتاني الدكتور محمد المختار ولد اباه، رئيس جامعة نواكشوط العصرية ورئيس فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في موريتانيا، وأحد رواد جيل تأسيس الدولة الموريتانية الحديثة.
اشتهر الفقيد بترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية، والتي تصنف على أنها من أفضل الترجمات، كما ترك خلفه قرابة خمسين تأليفًا في علوم القرآن والحديث والسيرة، وأصول الدين والفقه وأصوله، بالإضافة إلى اللغة والشعر، كانت إثراء للمكتبة الموريتانية.
ومؤخرًا أصدر مذكراته في كتاب حمل عنوان “رحلتي مع الحياة”، تطرق فيه للبيئة التي ولد فيها وتربى، ومساره العلمي والمهني، بالإضافة إلى شذرات من مساره السياسي، وعلاقاته بالعديد من قادة العالم ومثقفيه وشخصياته البارزة.
المسار
ولد العلامة محمد المختار ولد اباه عام 1924، في مقاطعة بوتلميت، في واحد من بيوت العلم المعروفة في موريتانيا، ودرس في المحظرة علوم الدين واللغة، قبل أن يبدأ رحلة كفاحه من أجل التعليم العصري، حيث نال شهادة الباكالوريا في شعبة الآداب من مدينة سينلوي، عاصمة إقليم موريتانيا خلال حقبة الاستعمار الفرنسي.
توجه الراحل إلى المغرب حيث نال شهادة الليصانص في الآداب العربية والحضارة من جامعة محمد الخامس بمدينة الرباط، ومنها توجه إلى باريس حيث حصل على شهادة المتريز في الآداب من جامعة السوربون، ثم شهادة الدكتوراه من نفس الجامعة.
ويعد الراحل من جيل موريتانيا الأول الذي ناضل وكافح ضد المستعمر الفرنسي، وأحد رواد جيل التأسيس وبناة الدولة الموريتانية الحديثة، إذ كان عضوًا في أول حكومة يشكلها الراحل المختار ولد داداه، سنة 1957، وتقلد العديد من المناصب البارزة وطنيًا ودوليًا، إذ عين وزيرًا للصحة والسكان، ثم نائبًا لرئيس الجمعية الوطنية ورئيسًا للجنة العلاقات الخارجية.
وكان ولد اباه من المدافعين عن ضرورة “رد الاعتبار” للغة العربية واستعادة مكانتها ومكانة الثقافة الإسلامية، وقدم في ذلك الإطار مقترحات تدخل في صلب إصلاح النظام التعليمي الموريتاني.
وكانت مساهمته كبيرة في إصلاح منظومة التعليم الموريتانية، إذ تقلد العديد من المناصب المرتبطة بالقطاع، منها وزير التربية الوطنية والمفتش العام للتعليم، كما أسندت له إدارة مدرسة تكوين المعلمين سنة 1967، وإدارة مدرسة التعليم العليا ما بين 1970 و1978، كما كان ضمن اللجنة التي عهد إليها بمهمة إصلاح التعليم في موريتانيا في الفترة من 1967 إلى 1973.
وترأس الدكتور محمد المختار ولد اباه مجلس جائزة شنقيط حين تأسيسها سنة 2000، وهي الجائزة التي تهدف إلى تشجيع المساهمين في تعميق البحوث العلمية في مجالات الدراسات الإسلامية والعلمية والأدبية.
خارجيًا سبق أن كان الراحل مستشارًا ثقافيًا لليونسكو، وكان أيضًا الممثل الإقليمي لليونسكو في المغرب العربي، ثم الأمين العام المساعد لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
ونظرًا لمكانته العلمية، سبق وأن عين رئيسًا للجامعة الإسلامية في النيجر، كما عين أستاذًا بدار الحديث الحسنية في الرباط بالمغرب، وأستاذًا بمعهد محمد السادس للدراسات القرآنية في الرباط.
وكان عضوًا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وفي مجمع اللغة العربية بالسودان، وفي مؤسسة آل البيت بالأردن، وأخيرًا كان عضو المجلس الأعلى لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بالمملكة المغربية.
التأليف
بالإضافة إلى ترجمته لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية، له عدة مؤلفات في علوم القرآن من أبرزها “تاريخ القراءات في المشرق والمغرب” و”ملامح قراءة أهل المدينة”، و”حلقات في مقرإ الإمام نافع”.
وألف حوالي عشر كتب في علوم الحديث والسيرة النبوية، من أبرزها “تاريخ علوم الحديث الشريف في المشرق والمغرب”، و”لغات الرسل” و”على طريق الإسلام” وهو ديوان شعري باللغة الفرنسية في مدح النبي صلى الله عليه وسلم.
كما أن له مؤلفات عديدة في أصول الدين والفقه وأصوله، منها كتابه “تاريخ أصول الدين”، وكتابه الشهير “أصول التشريع وتطور المذهب المالكي في موريتانيا”، بالإضافة إلى كتابه “لمحة عن أصول الشوكاني”.
واهتم الراحل باللغة والشعر، فترك مؤلفات عديدة من أهمها “الشعر والشعراء في موريتانيا” و”تاريخ النحو العربي في المشرق والمغرب”، و”رحلة مع الشعر العربي” و”نماذج من أغراض الشعر الشنقيطي القديم”.
كما ترجم إلى العربية نماذج من الشعر الفرنسي ووضعها في كتاب تحت عنوان “ترجمة قصائد وشعراء من فرنسا”، كما ألف كتابا باللغة الفرنسية عنوانه “مقدمة عن تاريخ الأدب الموريتاني”.
التكريم
في شهر مارس من العام الماضي، وشح الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني، الدكتور محمد المختار ولد اباه “عرفانا لجهوده في خدمة الدولة الموريتانية وتراثها الثقافي والعلمي”، وفق ما أعلن وزير الشؤون الإسلامية والتعليم الأصلي الداه ولد أعمر طالب.
وقال حينها الوزير إن ولد اباه الذي “جمع بين الأصالة والمعاصرة سيبقى مصدر إلهام للمحظرة الشنقيطية”، وأضاف: “اتحف الدكتور محمد المختار ولد اباه المكتبات الإسلامية بروائع الكتب فكانت له بصمات كبيرة في هذا المجال”.
وكان الراحل قد تفرغ مطلع الألفية الثالثة للعمل الأكاديمي، فأسس جامعة شنقيط العصرية عام 2006، التي تعد أول جامعة مختصة في العلوم الإسلامية والاجتماعية في موريتانيا، وهي جامعة أهلية ذات طابع إسلامي تسعى إلى تكوين الإنسان الصالح من حيث استقامته وسلوكه، والباحث الجاد ذي العطاء المتميز من حيث معلوماته ومنهجه.
وتسعى جامعة شنقيط العصرية إلى تقديم تكوين نظري وتطبيقي عميق ومتميز بالأصالة في المضامين والتجديد في بناء المناهج وفي طرق ووسائل التكوين والبحث.
كما تعلن الجامعة أن من أهدافها تكوين جيل من المثقفين المتخصصين الذين يمتلكون إلى جانب التكوين المتين في العلوم الشرعية واللغة العربية، قدرات على التواصل بلغات أجنبية وخبرات في مجال ممارسة البحث العلمي والارتقاء به، خدمة للثقافة العربية والإسلامية في موريتانيا وضمانا لإشعاعها في المحيط الإقليمي والدولي بما تحمله من قيم أصيلة ومبادئ سامية.
الرحيل
نُقل الراحل زوال أمس السبت، إلى المركز الوطني لأمراض القلب إثر وعكة صحية مفاجئة، وفور إعلان الوفاة، قال وزير الصحة المختار ولد داهي، إنه زار الفقيد خلال تلقيه العلاج في المركز الوطني لأمراض القلب بنواكشوط، بأوامر من الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني للاطمئنان عليه.
الوزير كتب على الفيسبوك: “زرته صحبة مدير ديوان رئيس الجمهورية إسماعيل ولد الشيخ أحمد ومدير المركز الوطني لأمراض القلب، بتكليف من رئيس فخامة الجمهورية للاطمئنان على حالته الصحية، والتشاور مع الأطباء والأهل فيما يلزم”.
وأضاف: “استقبلنا بوجه وضاء ورد تحية الرئيس بأحسن منها، وطمأننا على وضعه الصحي”.