محمد ناجي ولد أحمدو ــ نواكشوط
قبل عشرين عاما من الآن اجتمع “ناصريو موريتانيا” في حي بوحديده شرق العاصمة نواكشوط، وقرروا انشاء حزب سياسي ينقل عملهم من مرحلة الحركة إلى طور العمل السياسي الحزبي المنظم.
ولد حزب التحالف الشعبي التقدمي من رحم أحداث سبقت “اجتماع بو حديده”، من أبرزها ما يسمى في أدبيات الناصريين “انتفاضة ابريل”، حيث قضى اثنان من عناصر التنظيم في سجون نظام ولد هيداله، عندما بدأت شمس “المقدم” تدنو للغروب.
شعارات حمراء من قبيل “بالدم واللهيب يتم التعريب”.. خطتها أنامل الرفاق على حين غفلة من عسس أنظمة ما قبل وبعد العاشر من يوليو.. أزال العسكر الأظافر وعذبوا الرفاق.. لكن الدعوة إلى “التعريب” لم تخب جذوتها في قلوب وأفكار ناصريي موريتانيا.
بعد ثلاثين سنة من اصطباغ شوارع نواكشوط بالأحمر المنذر بتدفق الدماء واندلاع النيران في سبيل التعريب، خرج المكتب السياسي لحزب التحالف مساء الأحد الماضي على المراقبين ببيان يتبرأ من مشاركة الحزب في اجتماع دعا إلى الرفع من مكانة اللغة العربية، وإن لم يقبل البيان المزايدة على “مواقف الحزب” فيما يتعلق بالعربية.
ورغم أن الحزب لم يعد حزب الناصريين فقط، فقد انضمت إليه حركة الحر، التي أكدت مرات عديدة أنها تتقاسم مع الناصريين رؤاهم فيما يتعلق بالعروبة وأهميتها، وصرح رئيس الحزب مسعود ولد بلخير مرات “أنه عربي تجري العروبة في شرايينه”، وكان الحزب في مقدمة المطالبين بقطع العلاقات الموريتانية الإسرائيلية، وخرج رئيسه مرارا في مظاهرات داعمة للقضايا العربية، ومازال الحزب يعتمد في وثائقه على اللغة العربية كما جاء في بيانه.
أهي عبثية الأقدار تساءل فضوليون في العاصمة الموريتانية، أم أنه على المعارضة أن تناصب العداء لكل توجه سلطوي، أم يا ترى اللغة العربية التي يرفعها عزيز ووزيره الأول ولد محمد الاغظف هي فقط “كلمة حق أريد بها باطل” ليس إلا.. حار الجميع.
وهكذا قال بيان صادر من التحالف الشعبي التقدمي إن “مكتبه التنفيذي اجتمع يوم الأحد 14 مارس 2010 الساعة السادسة مساء، بغية استعراض الحالة السياسية العامة والأوضاع المقلقة التي أصبح البلد يعيشها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا”.
وأضاف أنه “اطلع المكتب خصوصا على بيان صادر عن مجموعة من الأحزاب وبعض الهيئات من بينها المرصد الوطني للدفاع عن اللغة العربية”.
وأكد أنه “من اللافت للانتباه أن يرد اسم التحالف الشعبي التقدمي ضمن قائمة تلك الأحزاب الموقعة على البيان والمنخرطة في فاعليات متصلة بموضوع البيان”. قبل ان يستغرب ما سماه “إقحام اسم الحزب في القائمة المذكورة”
ليعود فيذكر بـ”أن التحالف الشعبي التقدمي لا يقبل أن يزايد عليه في موقفه من اعتبار اللغة العربية هي اللغة الرسمية لهذا البلد العربي الإفريقي المسلم والدعوة إلى إحلالها المحل اللائق بها في النظام التربوي وفي الإدارة والعمل، ووثائق التحالف الشعبي التقدمي ومواقفه أقوى دليل على ذلك”.
واعتبر انه “ليس من خدمة العربية في شيء أن تقصى الحقوق الثقافية للمجموعات القومية غير العربية، والتي تملك حق المواطنة الكاملة والتمتع بخصوصياتها الثقافية، مما يحتم ترقية اللغات الوطنية الأخرى (البولارية، الولفية والسونينكية ). وإلى حين تطوير هذه اللغات تؤدي اللغة الفرنسية دور الربط والتواصل بين المجموعات الوطنية كما تبقى لغة انفتاح ثقافي وعلمي”.
ونفى “التحالف الشعبي التقدمي وجود أي شكل من أشكال التنسيق أو التنظيم مع الأحزاب الموقعة على البيان المذكور. وهو عضو في منسقية المعارضة؛ بينما الأحزاب الموقعة على البيان ذات خط سياسي مغاير ويبدو في بيانها تزكية للنهج الدعائي ؛ الذي يتعاطاه الوزير الأول مولاي ولد محمد الأغظف مستغلا في تخبطه ادعاء عناية جديدة باللغة العربية والهوية الوطنية دون أن ينطلق من نظرة جديدة وخطة مدروسة”.
المبرر على ما يبدو هو التموقع السياسي لا غير، حسب البيان.. والفرنسية هي ، حسب حزب ناصريي موريتانيا، “لغة التواصل في البلد حتى إشعار آخر”.
جدل.. عنوانه التعريب
عاد الحديث عن اللغة العربية ومكانتها إلى اهتمامات الساحة الاعلامية والمثقفين في موريتانيا، الذين انقسموا ما بين مطالب بأن يعود للغة العربية زخمها ورواءها في بلد بنى سمعته علماء ومؤلفون كانوا يتنفسون حب العربية، ومطالب ان لا يكون الاهتمام بالعربية على حساب اللغات الاخرى.. مقالات وسجالات حول التعريب، وترسيم يوم للغة العربية.. وخطب موحدة في مساجد موريتانيا يوم الجمعة تتناول أهمية اللغة العربية.
أهو توجه عروبي رسمي تنتهجه الحكومة الموريتانية، بعد ما قاله بعض المراقبين عن ارتماء لها في أحضان ما يسمى محور الممانعة، وزيارات الرئيس عزيز لايران وتركيا وتجميد العلاقات مع اسرائيل
قبل سنة، مرورا بزيارات عدد من المسؤولين رفيعي المستوى من ايران وتركيا وسوريا لنواكشوط.
أم أن الامر يدخل في سياق الحملات التي تعودنا عليها من قبيل محاربة السمنة والكتاب وما إلى ذلك، ثم لا تلبث أن تذهب أدراج النسيان، بمجرد أن تخفت حدة الاهتمام الرسمي.. يعلق أحد المحللين في نواكشوط.
وهكذا احتفلت موريتانيا في الاول من مارس باليوم العربي للغة العربية، وافتتحت فعاليات التخليد بحفل في قصر المؤتمرات برئاسة الوزير الاول مولاي ولد محمد لغظف، وتواصلت الانشطة الاخرى من ندوات ومحاضرات ومعارض للمخطوطات وزيارات لبعض المدارس في انواكشوط والقاء دروس حول أهمية اللغة العربية في كافة المدارس الاساسية، وتنظيم أماس شعرية، قبل أن تختتم بتخصيص خطب الجمعة الاولى من مارس لهذه المناسبة.
وكانت سجالات قد دارت بين عدد من المثقفين من اتجاهات سياسية مختلفة مؤخرا بمناسبة ذكرى أحداث 1966 التي كانت اللغة العربية حجر الزاوية فيها.
ويقول العروبيون إن “تحديات العصر والواقع الراهن للثقافة العربية الإسلامية -في الوطن العربي عامة وموريتانيا خاصة- تجعل مستقبل هذه اللغة مُقلِقًا، بفعل الظروف والتحولات التي تشهدها موريتانيا، وتبني البلاد سياسات إصلاحية تستجيب لرغبات المستثمرين الذي يحملون أجندة ثقافية وفكرية مختلفة، ويتبنون هوية مغايرة رافضة للغة العربية ومحاربة لها عمليا وواقعيًا، إضافة إلى تحديات العولمة والإنترنت الذي لقبه البعض بـ”مقبرة اللغات””.
فيما لا ينفي غالبية الفرانكفونيين أن للغة العربية الحق في أن تكون لها امتيازاتها لغة رسمية، لكن ليس على حساب اللغات والثقافات الوطنية الاخرى.
ورغم أن الدستور الموريتاني في20 يوليو 1991 بتعديله الذي قدم للاستفتاء في 25 يونيو 2006 ينص على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية، إلا أن الإدارة والأجهزة الرسمية بالدولة لا تزال تصر على استعمال اللغة الفرنسية في الوثائق والخطابات، والمراسلات الإدارية، والتعاملات الرسمية، حسب مراقبين.
ويرى القاضي أحمد سالم ولد مولاي اعل أنه من الخطأ أن نخصص يوما واحدا في السنة للغة العربية، بل الصواب عنده أن يكون الزمان كله زمان اللغة العربية.
ونشب جدال حاد بين قوميين عرب ويساريين على خلفية اقرار اليوم الوطني للغة العربية، حيث اعتبر الدكتور ديدي ولد السالك الاستاذ الجامعي العروبي التوجه أن تطبيق القرار لا يحتاج الا الى ارادة سياسية، حيث أن “الغالبية الساحقة” على حد تعبيره تتحدث اللغة العربية، واصفا بعض الحساسيات التي تشكل جزء من الطيف الديموغرافي لموريتانيا بالوافدة، مما اعتبره الكاتب اليساري جبريل جالو اقصاء ونوعا من الكراهية، مؤكدا أنه “لا يعارض الاهتمام باللغة العربية بصفتها جزء من الثقافة الموريتانية، لكنه يرفض أن تكون كل الثقافة الموريتانية”
جدال يعيد الى الاذهان الحوارات الساخنة في الستينات والسبعينات، أيام اكتست نواكشوط بحلة ارجوانية من شعارات من قبيل “بالدم واللهيب يتم التعريب”، وقبلها بيان التسعة عشر والاحداث التي تلته، لكن الفرق بين هذا وذاك هو أن جدالات الستينات والسبعينات تمت بطريقة عنيفة، في حين أن الحديث الحالي هو حوار فكري على صفحات مواقع الانترنت.
ويرد عديدون في نواكشوط ما يسمى بـ”الجدار اللغوي” الناتج عن افرازات “اصلاح التعليم” عام 1979، والذي قسم موريتانيا الى مجتمعين كل منهما يفكر بطريقة مغايرة تماما للاخر، ويتحدث بلغة مختلفة، مما يشكل تهديدا للوحدة الوطنية، يردونه إلى ما يسمونه “ارتجالية الأنظمة العسكرية” التي حكمت البلاد بعد العاشر من يوليو.
فيما يعتبر مربون أن “الإصلاح” الجديد المرسم عام 1999 لم يكن خيرا من سابقه، وإن وحد البرنامج عن طريقه، فقد فرض على غالبية الصغار أن تتلقى المواد العلمية والحساب بلغة ليست لغتها، مما يجعل فهمها واستيعابها للدروس ناقصا، وهو ما اعتبره حزب الصواب بعثي التوجه “مؤامرة على الهوية الموريتانية”، فيما لم يحز على رضى الموريتانيين الأفارقة الذين أصبحوا يتلقون كل المواد الأدبية باللغة العربية.
ومهما يكن فإن أصواتا من هنا وهناك تطالب بإعادة الاعتبار إلى اللغة العربية ورفع مستوى اللغات الوطنية وإدخالها في المنهاج التربوي، والحد من التركيز على الفرنسية والاستعاضة عنها بالانجليزية التي أصبحت لغة العلم والتقنية والتواصل في جميع أنحاء المعمورة.