قبل قرون كانت قوافل الملح تعبر صحراء تيرس، قادمة من حواضر المغرب والجزائر، متجهة نحو حوض نهر النيجر، مرورا بحواضر الصحراء، اختفت هذه القوافل مع وصول الاستعمار الذي سك طريقه الخاصة للربط بين مستعمراته في الشمال والجنوب، كانت تمر عبر «بئر أم اغرين»، حيث شيد المستعمر قلعته الشهيرة «قلعة ترينكي».
«بير أم اغرين» التي تنام بين مرتفعات تيرس الغنية بالموارد الطبيعية، لم ترضخ يوما للمستعمر الفرنسي، وأصبحت بعد الاستقلال أحد المواقع المتقدمة للجيش الموريتاني، وحولت قلعة الاستعمار إلى قاعدة عسكرية موريتانية، فيما انشغل سكان «البير» بمعركتهم الخاصة لتحقيق التنمية.
«صحراء ميديا» زارت المدينة الثانية الأهم في منطقة الشمال الموريتاني، بعد العاصمة ازويرات، لتعيد اكتشاف مدينة كانت في يوم من الأيام ملتقى طرق القوافل في الصحراء الكبرى، وأصبحت اليوم بوابة المغرب والجزائر نحو موريتانيا وأفريقيا.
الطريق الوعر !
غادرنا مدينة «ازويرات» بعد صلاة الفجر، ونحنُ ندرك أن أمامنا أزيد من 300 كيلومتر لنقطعها عبر طريق صحراوي غير معبد، ووسط درجات حرارة مرتفعة، وتضاريس تتنوع من منطقة لأخرى، فكانت عينة من صحراء تيرس مترامية الأطراف.
بعد أن تجاوزنا منتصف الطريق، تراءت لنا نتوءات صخرية سوداء، إنها «كديات الريش» كما يسميها السكان المحليون، لأنها تشبه ريش الحمام، بالقرب منها بيتٌ متواضع تسمى مجازًا بـ «مطعم»، يقدم الشاي لجميع العابرين.. كانت فرصة لاستراحة خاطفة.
بعد ساعات عديدة قضتها سيارتنا تنهب الطريق الصحراوي، وبعد الزوال، بدت من بعيد «كدية أم اغرين»، التي تسمت بها المدينة، ويعلوها نتوء صخري شبيه بالقرن ومنه جاءت التسمية، على حد قول مرافق محلي هو دليلنا.
غير بعيد من «الكدية» يشيد سد لتخزين مياه الأمطار، وهو أحد المشاريع التي يراهن عليها السكان لحل أزمة العطش في المدينة التي تقع في أقصى شمال شرقي موريتانيا، غير بعيد من الحدود.
قبل دخول المدينة، مررنا بجوار «سجن بير أم أغرين»، الذي اشتهر في السنوات الأخيرة، حين كان منفى لجميع المتهمين بالفساد من موظفي الدولة، فكرة لا يرتاح لها السكان، حين تكون مدينتهم سجنا لنفي المغضوب عليهم، وهم الذين يحلمون بأن تكون مدينتهم «قطب جذب اقتصادي».
العزلة التامة
الوصول إلى «البير»، كما يسميها سكانها، يبعث في النفس قدرا من الارتياح بعد ساعات من السفر الشاق، ولكنه يجعل أسئلة كثيرة تقفز إلى الذهن، فكيف لمدينة بهذا الحجم وهذه الأهمية أن تبقى معزولة بعد ستة عقود من الاستقلال.
عمدة المدينة السالمة بنت سيد ولد علوات، تؤكد أن أكبر مشكلة تعاني منها المدينة هي «العزلة»، وتضيف: «المشكل الأساس الذي تعاني منه المدينة، هو العزلة، حيث تقع في منطقة حدودية وعرة». وتضيف العمدة بقدر كبير من التفاؤل: «فك العزلة عن المقاطعة، سيساهم في تحويلها إلى قطب اقتصادي هام».
تدافع العمدة عن وجهة نظرها بالقول إن المقاطعة «عرفت انتعاشا اقتصاديا هاما خلال السنتين الماضيتين، بفضل تزايد أنشطة التنقيب عن الذهب، والصناعات المرتبطة به».
وتؤكد أن أنشطة التنقيب «انعكست إيجابا على سكان المدينة، وساهمت في امتصاص البطالة، وجلب العديد من اليد العاملة والمنقبين من مختلف أنحاء البلاد».
وسط الجائحة
بنت علوات، وهي وجه سياسي معروف من أبناء المدينة، شغلت منصب عضو مجلس الشيوخ عن المقاطعة ثم عمدة البلدية، تقول إنها تخوض منذ سنوات معركة تحقيق التنمية في مدينة تبعدُ قرابة 1200 كيلومتر عن العاصمة نواكشوط، كواحدة من أكثر مدن البلاد بعدًا عن المركز، ما يطرح تحديات تنموية كبيرة، خاصة بعد جائحة «كوفيد 19» وما خلفته من تداعيات.
تقول العمدة المنضوية في صفوف حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم، إن «السيد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، حقق خلال العامين الماضيين، إنجازات كبيرة لم تسبقه في بير أم اغرين، منها التأمين الصحي الذي بدأ تنفيذه من طرف وزارة المرأة ومندوبية تآزر، والمستشفى الذي تم تجهيزه بشكل تام، فتحقق بذلك حلم كبير كان يراود سكان بير أم اغرين».
وتضيف العمدة أنه على المستوى الاجتماعي في البلدية، حصلت مئات الأسر على معونات نقدية وغذائية من طرف مندوبية (تآزر)، كما حصلت التعاونيات النسوية على دعم من مفوضية الأمن الغذائي ووزارة المرأة، ومن صندوق الإيداع والتنمية (CDD).
ولكن سكان «بير أم اغرين» يتحدثون عن نواقص في توزيع المعونات على الأسر المحتاجة، وهو ما لم تنفه العمدة، وأوضحت: «بالفعل، بقي لدينا الكثير من الأسر المحتاجة لم تحصل على معونات، لأنها لم تسجل لدى مندوبية تآزر في الإحصاء الأول، ونحن نطالب بتسجيلها من جديد».
كما تستفيد البلدية من دعم بعض الهيئات الخيرية، إذ تؤكد العمدة أنها «طلبت من جمعية خيرية إماراتية، أن تدعم البنية التحتية في بير أم اغرين، فشيدت أربعة فصول دراسية للابتدائية، وأربعة آبار ونصبت عليها خزانات وألواح طاقة شمسية، كما منحت مولدا كهربائيا».
التنقيب والتهريب
خلال السنوات الأخيرة توجه عشرات آلاف الموريتانيين نحو التنقيب التقليدي عن الذهب، ومؤخرا استقطبت منطقة الشكات أغلب المنقبين، وهي تتبع إداريا لمقاطعة بير أم اغرين، رغم أن المنقبين كانوا ينقلون الذهب في البداية نحو عاصمة الولاية ازويرات.
خلق الذهب صراعا محليا سرعان ما أخذ طابعا سياسيا، ولكن عمدة بير أم اغرين تؤكد أنها «عملت عبر السلم الإداري، على ترخيص منطقة صناعية في بير أم اغرين، ووضعنا فيها عشرين آلة لطحن حجارة الذهب، مع الالتزام التام بالحفاظ على البيئية».
وأضافت العمدة أن «نشاط التنقيب عن الذهب، مكن من امتصاص البطالة في صفوف أبناء المقاطعة، فبدل الانخراط في التهريب والمخدرات، وأمور أخرى تضر بأمن الوطن، أصبحت هذه المطاحن توفر لهم دخلا يمكنهم من الصرف على عائلاتهم والعيش بكرامة».
ولكن استخراج الذهب بوسائل بدائية، يطرح أزمة تهريبه لبيعه في الأسواق السوداء، وهي معضلة كبيرة جعلت من الصعب تقدير حجم الذهب المستخرج، فيما تقول العمدة إن السلطات أصدرت تعليمات لجميع المنقبين، والعاملين في مطاحن الحجارة، ببيع الذهب حصرا لممثل البنك المركزي الموريتاني.
إلا أن بعض التقارير تؤكد أن هذه التعليمات لا يتم الالتزام بها، في ظل نشاط شبكات تهريب الذهب.
يدافع سيداتي ولد ميمي، وهو خبير بيئي وناشط سياسي، عن نشاط التعدين الأهلي في بير أم اغرين، ويقول إن «مردوديته الاقتصادية المباشرة على المدينة، لا تحصى ولا تعد».
ويؤكد في حديثه مع «صحراء ميديا» أن مطاحن الحجارة المشبعة بالذهب مكن من تشغيل «شباب كانوا عاطلين عن العمل، ولا يملكون أي مؤهلات علمية، وكانوا مرشحين للانزلاق نحو متاهات الأمراض الاجتماعية المختلفة، مثل التهريب والمخدرات».
ويضيف الخبير البيئي أن المطاحن «أقيمت على تربة صلبة، في مكان معاكس لاتجاه الرياح، وبالتالي لا تشكل أي خطر على المدينة، كما تتم معالجة مخلفات الطحن في موقع على بعد أكثر من مائة كيلومتر».
العطش !
رغم الانتعاش الاقتصادي الذي أحدثه التنقيب الأهلي عن الذهب، إلا أن أزمة نقص المياه الصالحة للشرب تهدد مقاطعة بير أم اغرين بالعطش، وتجعلها منطقة طاردة.
تقول العمدة: «يوجد لدينا الكثير من الماء، ولكنه مرتفع الملوحة، والماء الصالح للشرب قليل جدا، إن لم يكن غير موجود أصلا، لذا فإنه من الملح تشييد محطة لتحلية المياه في المدينة».
تضيف العمدة أن «هذا الطلب موجه إلى السيد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، الذي سبق أن استجاب لنا حين طرحنا عليه أزمة الكهرباء، فأرسل على الفور مولدا كهربائيا زود أحياء من المدينة بالكهرباء».
طرحت أفكار كثيرة لتجاوز أزمة المياه، من أبرزها حبس مياه الأمطار، من خلال ردم في أحد الأودية القريبة من بير أم اغرين، أنشئ قبل أكثر من خمس سنوات، يمكن السكان من زراعة الخضروات وسقاية مواشيهم وإبلهم، هذا إن كانت التساقطات المطرية وفيرة، على حد تعبير الناشط الشبابي الناه ولد الداه.
ولكن ما يراهن عليه السكان هو مشروع تشييد «محطة لتحلية المياه» في المدينة، مطلب رفعته عمدة البلدية إلى الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني.