يستغرب التونسيون القادمون إلى موريتانيا الشقيقة شروط أمر الزّواج في هذه البلاد وخاصة الشرط ” بأن لا سابقة ولا لاحقة وإلا فأمرها بيدها أو بيد وليها”(1) وقد يفاجأ الإخوة الموريتانيون إذا علموا بأمر الصّداق القيرواني نسبة إلى مدينة القيروان العاصمة الإسلامية في البلاد التونسية فهو يشترط شروطا تشترطها المرأة أو وليها على الزّوج نجدها مضمنة في كلّ صداق قيرواني وهي :” طاع الزّوج المذكور لزوجه المذكورة بالجعل التحريمي على عادة نساء القيروان.”
فلم يكن يخلو صداق قيرواني قبل استقلال البلاد التونسية في 20 مارس 1956 واعتماد مجلّة الأحوال الشخصية(2) من هذه الجملة التي تفرض على الزّوج قبول هذا الشرط والالتزام بالتقيّد به إزاء زوجته. ويعني “الجعل التحريمي على عادة نساء القيروان” أن لا يتزوّج الزوج ولا يتسّرى على زوجته.
وقد وُجِدَ هذا الجعل مفصّلا في صداق آخر كما يلي: “طاع الزّوج المذكور لزوجه المذكورة تضمنا لمسّرتها واستجلابا لمودّتها ولا يتسرّى ولا يتخذ أمّ ولد… فإن فعل ذلك أو شيئا منه بغير إذنها ودون رضاها فهي طالق وأشهد على نفسه بذلك.”(3)
وبين عادات الزّواج والأعراس التقليدية في البلاد الموريتانية والبلاد التونسية تشابه كبير من حيث مراسم الخطوبة والمواسم والإملاك والصّداق والمهور والإطعام والزّينة والعوائد والهدايا والحياء بين الأصهار و”الأنساب” وحتى تقاليد عقد الخيط كان معمولا بها في البلدين بصورة متشابهة. إذ من تقاليد المجتمع الموريتاني عقد الخيط، فعندما تولد بنت لعائلة شريفة أو ذات رحم يعقد خيط في رجلها تعقده من لها ولد كفؤ لتلك البنت كخطبة وعود بها، وترسل إلى أم البنت في أيام الأعياد تحفة أو مصحفا أو كتابا أو حليا نفيسا… (4)
وسنقصر حديثنا في هذا المجال خاصة على الشرط في الزّواج الشنقيطي الذي يحمي المرأة من الضرّة وبأن لا يفعل بها ما يزري بالمروءة وإلاّ فأمرها بيدها أو بيد وليها.
ومن الصّعب جدّا أن يجيبك مثقف أو جامعي موريتاني جازما حول عصر ظهور هذا الشرط في العلاقة الزّوجية في بلاد شنقيط. فهل هذا الشرط سابق للدعوة الإسلامية أم ظهر بعدها؟ ويرجّح البعض أنّها عادة قديمة سابقة لظهور الإسلام في هذه الرّبوع ووقع التعامل معها إذ فرضت نفسها واستمرّت بحكم المكانة المتميزة للمرأة في الأسرة والمجتمع البيضاني عامّة.
أماّ عن الشّرط في الصّداق القيرواني فيقول الدّكتور أحمد الطويلي: “أنّه وليد عادة قديمة من عادات القيروان، والعمل بهذه العادة لا يخالف الشّرع ويتماشى مع روح الشريعة السّمحة.” (5)
ولعلّ أقدم رواية بلغتنا عن مثل هذا الصّداق هي قصّة زواج الخليفة العبّاسي أبي جعفر المنصور(6) “بأروى” أمّ موسى القيروانية بالصّداق القيرواني. إذ كان الخلفاء والأمراء العبّاسيون يطلبون نساء القيروان للزّواج كسلامة البربرية أمّ أبي جعفر عبد الله بن محمّد بن علي بن عبد الله بن عباس، وقراطيس أمّ أبي جعفر هارون الواثق بن المعتصم، وقتول أم أبي منصور محمّد القاهر بن المعتضد وغيرهم من ملوك الشرق وامرائه.
يقول المؤرخ التونسي الشهير حسن حسني عبد الوهاب في كتابه “شهيرات التونسيات” (7):” ولمّا كبر أبو جعفر المنصور وترعرع، اقتفى خطى أخويه الكبيرين إبراهيم المعروف بالإمام وأبي العبّاس الذي اشتهر فيما بعد بالسّفاح فجرى مجراهما في دعوى استحقاق الخلافة. فأذكت الدّولة الأموية العيون عليه وأوعزت إلى العمال والأعوان أن يتبعوه وأن يتعرفوا ما يكون منه وأن يقبضوا عليه إذا لزم الأمر، فكان هو وأهل بيته يختفون ما استطاعوا. وفي أوائل العقد الثالث من القرن الثاني للهجرة، قصد أبو جعفر المنصور إفريقية لما بينه وبينها من رحم وأشجّة التماس النجاة من طلب بني أميّة له وحلّ ضيفا عزيزا على منصور بن يزيد الحميري أحد كبار التجار بمدينة القيروان وفي أثناء مقامه عنده شهد أبو جعفر المنصور إبنته “أروى” فبهرت بصره وخلبت لبّه فخطبها من أبيها وتزوّجها وتعلق بها أكبر التعلّق طول حياته وقد اشترط لها أبوها في عقد زواجها ألاّ يتزوّج أبو جعفر غيرها وألاّ يتخذ السّراري معها فإن تسرّى عليها كان طلاقها بيدها كما جرت بذلك عادة أهل القيروان من عهد قديم.
وكانت أنباء دعوة إخوته وآل بيته تصل إليه في القيروان، وعاد أبو جعفر المنصور بزوجته “أروى” مختفيا إلى الكوفة حتى ظفرت الدّعوة العباسية بمناصرة
أبي مسلم الخراساني وسقطت دولة بني أميّة وآلت الخلافة إلى عبد الله السفّاح سنة 132هـ وكان الأخ الأكبر لأبي جعفر فلما مات استندت إليه الخلافة سنة 136هـ وفي بادئة أمره أنشأ مدينة بغداد التي سميت أوّل ما سميت: مدينة المنصور وابتنى لنفسه قصرا سمّاه “قصر الخلد” وأسكن فيه زوجته “أروى” وبنيه وذويه.
وقد وفّى المنصور لزوجته ما كان قد عاهدها عليه في عقدة الزّواج فلم يتخذ له زوجا سواها ولم تكن له سراري معها طول حياتها. وقد ولد له منها جعفر أكبر أولاده ومات في حياة أبيه وهو والد “الزّبيدة” التي تزوجها هارون الرّشيد، وابن ثان هو محمد المهدي الذي صارت إليه الخلافة.
وجاء في كتاب “معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان” لابن الدّباغ وابن ناجي في ترجمة القاضي أبي كريب جميل بن كريب المعارفي أنّه سُمّي قاضيا سنة 132هـ، وأنّه يوم جلس في الجامع جاءه خادم لامرأة الأمير وكانت قد اشترطت عليه أنّه متى تسرّى عليها كان أمرها بيدها وأثبت الخادم وكالة عند القاضي الذي بادر بدعوة الأمير مع الخادم فجلس الأمير بين يديه فسأله القاضي عن القضيّة فأقرّ الأمير بالتسرّي والشرط فأمره القاضي بأن لا يقربها وأشهد من حضر أنّ أمرها بيدها إن شاءت أقامت وإن شاءت طلّقت نفسها. فرفع الأمير يده إلى السّماء وقال: الحمد لله الذي رأيت قاضيا يحكم فيّ بالحقّ.
وفي كتب التاريخ والتراجم أمثلة أخرى كثيرة في هذا المجال ولعلّ أطرفها قصّة الإمام أبي القاسم البرزلي(8) مع زوجته التي أبت أن ترحل معه إلى تونس من القيروان واشترطت عليه أن يجعل بيدها حقّ الطلاق إذا تزوّج عليها بتونس حرصا منها على سلامة الزّواج وضمان السعادة في البيت إذ كانت المرأة تقاسي من الضرّة والسّرايا. وقد التجأ البرزلي إلى حيلة فقهية لضمان نقض شرط زوجته إذ قدّر له أن تزوج بثانية بتونس فأخرجت زوجته ما بيدها وقدّم هو ما بيده لمن له القضاء من أصحابه فأبطلوا ما بيدها.
وتذكر بعض الدّراسات أنّ هذا الصّنف من الزّواج على الطريقة القيروانية عرف أيضا في بلاد الأندلس (9).
ونشر المرحوم محمد البهلي النيّال مقالة عنوانها:” قصّة الصّداق القيرواني ومنزلته في التاريخ والفقه” في مجلّة الندوة التونسية العدد 4 السنة 2 جوان 1954 بيّن فيها كيف كان فقهاء السّلف يؤكدون عرقلة تعدّد الزّوجات ويؤكّدون الاكتفاء بواحدة(10).
وقد اجتهد القضاة والمفتون منذ تأسيس القيروان في التوفيق بين النظريات الفقهية وبين العادات المحليّة المتنوعة لتحقيق المصلحة العامّة للمسلمين.
وبالإضافة إلى الشرط الأصلي في الصّداق القيرواني أو الزّواج في موريتانيا الشقيقة والمتمثل في أن لا سابقة ولا لاحقة وإلاّ فأمرها بيدها، يمكن أن نجد شروطا أخرى مثل أن لا يغيب عنها زوجها أكثر من أربعة أشهر وأن يحترمها ويحترم أهلها ولوحظت بعض الشروط الأخرى المستحدثة مثل شرط مواصلة الدّراسة والشغل، كما عُثر على بعض عقود الزّواج القديمة بمدينة القيروان بالإضافة إلى الشرط الأساسي، تنصّ على شرط أن يسكن الزوج بزوجته مع أبيها بموضع كذا ولا ينقلها إلاّ برضاها. كلّ ذلك مدّة الزوجية بينهما. واشترطت امرأة أخرى على زوجها إخدامها بخادم مدّة الزوجية وأقرّ الزّوج أنّه ممّن يستطيع ذلك وأنّ ماله يسعه وأَشهد بذلك.
ويقول الدكتور أحمد الطويلي أنّ صداق جدّه ينص على ما يلي:” وبعد تمام العقد وانبرامه، طاع الزّوج المذكور لزوجه بالجعل التحريمي على عادة نساء القيروان وأن لا يكلفها طحن مؤنتها بيدها بل يستأجر لها على ذلك طوعا تاما .”
كما ينصّ الصّداق القيرواني غالبا على الهدية بالإضافة إلى المهر الذي يصرف مقدّمه عند كتابة العقد ومؤخّره عند البناء أو بعده(11).
ويدلّ الشرط التحريمي في الصّداق القيرواني والزوّاج بموريتانيا الشقيقة على مكانة المرأة الاجتماعية والحضارية المتميزة. وقد انطلق الفقهاء القيروانيون من الواقع الاجتماعي ليبرروا الصّداق القيرواني واعتبروه مصدرا من مصادر التشريع الإسلامي لذلك صمد عبر العصور وكان من أسس مجلّة الأحوال الشخصية التونسية الصادرة في 13 أوت 1956 خاصة منها ما يتعلّق بمنـع تعدّد
الزوجات منعا باتا ومنع التزويج القصري ووضع حدّ للتطليق العشوائي. ونقحت هذه المجلّة خاصة بالقانون عدد 74 الصادر سنة 1993 القاضي بالتعاون بين الزوجين على تسيير شؤون الأسرة ممّا يدعم سلامتها وهي ضمان سلامة المجتمع. :”إذ أنّ نهوض المرأة في الأسرة ضمان لنهوض الوطن.” (12)
==========================
الهوامش :
(1) عن كتاب “حياة موريتانيا” الجزء الثاني للمختار بن حامد. ط الدّار العربية للكتاب. تونس سنة 1990 ص182.
(2) صدرت في 13 أوت 1956.
(3) عن كتاب “الصّداق القيرواني” للدكتور أحمد الطويلي ط أولى 2007، ص15.
(4) عن “حياة موريتانيا” للمختار بن حامد، الجزء الثاني ص 182.
(5) عن كتاب “الصّداق القيرواني” للدكتور أحمد الطويلي ط أولى 2007، ص13.
(6) الخليفة العبّاسي الثاني (136/158هـ- 754/775م).
7 الطبعة الرّابعة. منشورات مكتبة المنار تونس. ص 28-29-30.
8 ) هو أبو القاسم بن أحمد البرزلي (ت 844هـ/1440م) إمام مالكي خطيب تونسي له “جامع مسائل الأحكام ممّا نزل من القضايا بالمفتين والحكّام” (عن المنجد في الاعلام ص125).
9 (9) عن مقال بعنوان “Vivre à Kairouan au passé et au présent ” ص 74 من مجلّة El legado andalousi 10 ème année. N°38 ; Dossier Spécial : Kairouan capitale islamique (2009).
10 (10) عن كتاب “الصّداق القيرواني” للدكتور أحمد الطويلي ص 27-28-29.
(11) نفس المرجع ص 15-16.
(12) عن مقال للدّكتور أحمد الطويلي” الصّداق القيرواني” المنطلقات الاجتماعية والأبعاد الحضارية. جريدة “الحرية” الخميس 14 جانفي 2010.
المصادر والمراجع:
1– حياة موريتانيا للمختار بن حامد. الجزء الثاني. الدار العربية للكتاب، تونس سنة 1990.
2– موريتانيا الحديثة – غابرها- حاضرها أو العرب البيض في إفريقيا السّوداء تاريخهم- أصلهم- عروبتهم- أحوالهم. تأليف محمد يوسف مقلد. ط- دار الكتاب اللّبناني للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، جوان 1960.
3– معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان لابن الدّباغ وابن ناجي. ط- المطبعة العربية التونسية سنة 1320هـ. ج1 ص167-168.
4– شهيرات التونسيات: بحث تاريخي أدبي في حياة النّساء النوابغ بالقطر التونسي من الفتح الإسلامي إلى الزمان الحاضر لحسن حسني عبد الوهاب. الطبعة الرّابعة. منشورات مكتبة المنار تونس. ديسمبر 1965.
5– الدّولة الصنهاجية: تاريخ إفريقية في عهد بني زيري من القرن 10 إلى القرن 12م نقله إلى العربية حمادي السّاحلي. الجزء الثاني، ط دار الغرب الإسلامي. الطبعة الأولى 1992.
6– تاريخ إفريقية في العهد الحفصي من القرن 13 إلى نهاية القرن 15م لروبار برنشفيك. نقله إلى العربية حمّادي الساحلي. دار الغرب الإسلامي، الجزء الثاني، الطبعة الأولى 1988.
7– دور القيروان في تأصيل المذهب المالكي ونشره. منشورات وزارة الشؤون الدينية. تونس 2010.
8– المنجد في اللّغة والأعلام. الطبعة الثالثة والعشرون ومعه المنجد في الأعلام الطبعة التاسعة سنة 1976.
9– مقال: الصّداق القيرواني: المنطلقات الاجتماعية والأبعاد الحضارية للدّكتور أحمد الطويلي. جريدة “الحرية” الخميس 14 جانفي 2010. تونس.
10- Art et coutumes des Maures
Odette du Puigaudeau
Présentation par Monique Vérité
Préface de Théodore Monod
Postface par Ahmed Baba Miské
Ibis Press. Paris 2002
11- El legado andalousi N°38 10 ème année. Dossier spécial : Kairouan Capitale de la culture islamique (2009).