والصلاة والسلام على رسول الله، وما توفيقي إلا بالله.
وبعد
فإنه لما ظهرت عشبة “التبغ” ووصلت لبلاد الإسلام، وشاع تناولها اختلفت فيها فتاوي الأئمة الأعلام، فمن مبيح يتمسك فيها بأصالة الحل، ومحرم يرى فيها من الضرر ما ينقل عن الأصل.
إلا أن خلاف الفقهاء في هذه المسألة ليس خلافا في فقه، وإنما هو خلاف في تحقيق مناط حكم، فإن من ثبت عنده ضرر التدخين لا يسعه إلا أن يفتي بالتحريم، ومن لم يثبت عنده الضرر تمسك فيه بأصالة الإذن والتحليل.
وكل ما ينقل عمن سبق من العلماء من إفتاء بتحريم أو تحليل فمرجعه إلى تحقيق الضرر أو نفيه، وإن كان بعضهم قد يتعلق بمناطات أخرى كنتن الرائحة والتفتير وإضاعة المال في غير نفع، وغير ذلك، لكنها في معظمها لا تخلو من ضعف، لذا أعرضنا عنها. وإنما المعتمد من ذلك هو الضرر.
والمرجع اليوم في إثبات الضرر إلى الأطباء، وأما الفقهاء فإنما يبنون أحكامهم على نتائج نظر الأطباء.
فإن أثبت الأطباء الضرر المتمحض حكم الفقهاء بالمنع، وإن حكموا بأنه نفع متمحض أفتى الفقهاء فيه بالإذن، وإن أثبتوا أن فيه نفعا وضررا كان نظر الفقهاء في الترجيح بين المفسدة والمصلحة.
والأطباء اليوم مجمعون على شدة ضرر التدخين، لا يختلفون في ذلك، فقد نادت بذلك تقارير منظمة الصحة العالمية وإعلاناتها، معتبرة هذا الفعل من أعظم أسباب الهلاك البشري في العالم، فقد نشرت على موقعها:
“حقائق رئيسية:
- التبغ يقتل نصف من يتعاطونه تقريبا.
- يودي التبغ كل عام بحياة ستة ملايين نسمة تقريبا، منهم أكثر من خمسة ملايين ممن يتعاطونه، وأكثر من 600000 من غير المدخنين المعرضين لدخانه، ويتوقع أن تبلغ الوفيات أكثر من ثمانية ملايين حالة وفاة بحلول 2030م.
- إن تعاطي التبغ من أكبر الأخطار الصحية العمومية التي شهدها العالم على مر التاريخ.
- يقضي شخص واحد نحبه كل ست ثوان تقريبا من جراء التبغ.
- التبغ تسبب في وفاة 100 مليون في القرن العشرين.
- إذا استمرت الاتجاهات السائدة حاليا فسيتسبب في وفاة نحو مليار في القرن الحادي والعشرين.
- التدخين اللاإرادي قاتل، وهو دخان التبغ غير المباشر الذي يملأ المطاعم والمكاتب وغيرهما من الأماكن المغلقة.
- يتسبب دخان التبغ في إصابة البالغين بأمراض قلبية وعائية وتنفسية خطيرة، بما في ذلك مرض القلب التاجي، وسرطان الرئة، ويتسبب في إصابة الرضع بالموت المفاجئ.
- في عام 2004م شكل الأطفال 28% من الوفيات الناجمة عن دخان التبغ غير المباشر”.
وقد ألف المتخصصون في أضراره على أجهزة الجسم وفي أمراضه التي يسببها، من ذلك كتاب: “التدخين بين الطب والدين”، للدكتور غازي عبد اللطيف موسى[[1]]url:#_ftn1 ، وقد تعرض فيه لبيان أضرار التدخين الصحية والمادية، ففصل وبين.
ثم خلص إلى أن التدخين يعتبر قتلا بطيئا للنفس، بل هو انتحار متعمد عن طريق تناول السموم الموجودة في السيجارة، مثل أول أكسيد الكربون، والنيكوتين التي تصل إلى دم المدخن. قال: وسموم الدخان وإن كانت قد تقضي على الحياة ببطء، إلا أن قضاءها على الحياة أمر محتوم لا مفر منه اهـ[[2]]url:#_ftn2 .
وأشير هنا إلى أن الضرر الذي هو مناط التحريم هو ألم القلب كما قال الأصوليون. فلا يتوقف التحريم على أن يبلغ الضرر بالإنسان الموت.
ففي الإبهاج شرح المنهاج للسبكي: واستدل على أن الأصل في المضار التحريم بما روى الدارقطني من قوله صلى الله عليه وسلم: “لا ضرر ولا ضرار”، قال النووي في الأذكار: حديث حسن، وجه الاحتجاج أن الحديث دال على نفي الضرر، وليس المراد نفي وقوعه ولا إمكانه، فدل على أنه لنفي الجواز، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في لفظ آخر للحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه: “من ضار أضر الله به”، وإن انتفى الجواز ثبت التحريم، وهو المدعى. والضرر ألم القلب كذا قاله الأصوليون، واستدلوا عليه بأن الضرب يسمى ضرارا، وكذا تفويت المنفعة والشتم والاستخفاف، فجعل اللفظ اسما للمشترك بين هذه الأمور، وهو ألم القلب دفعا للاشتراك، والذي قاله أهل اللغة: إن الضرر خلاف النفع، وهو أعم من هذه المقالة اهـ.
وقد نص الشاطبي في الموافقات أن حديث “لا ضرر ولا ضرار” وإن كان دليلا ظنيا فإنه داخل تحت أصل قطعي، قال: كل دليل شرعي إما أن يكون قطعيا أو ظنيا، فإن كان قطعيا فلا إشكال في اعتباره، وإن كان ظنيا فإما أن يرجع إلى أصل قطعي أو لا، فإن رجع إلى قطعي فهو معتبر أيضا.
ثم قال: ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: “لا ضرر ولا ضرار”؛ فإنه داخل تحت أصل قطعي في هذا المعنى، فإن الضرر والضرار مبثوث منعه في الشريعة كلها، في وقائع جزئيات، وقواعد كليات اهـ.
ولا يرد أن ضرر التدخين قد يكون متراخيا، وأن الذي يقتضي المنع إنما هو الضرر الفوري؛ لأن دليل تحريم الضرر لا يقتضي التفريق بين الضرر العاجل والآجل؛ لأن حديث “لا ضرر ولا ضرار في الإسلام” يعمهما، وذلك أن لفظ “لا ضرر” نكرة في سياق النفي مركبة مع حرف النفي، فهي نص في العموم، وعموم الأفراد يستلزم عموم الأزمنة، فيعم الضرر الحاصل في فور الاستعمال والمترقب في المستقبل.
وقد احتج مالك رحمه الله تعالى لثبوت الخيار بقليل البرص والجذام بكون عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذكر الخيار ولم يفرق بين القليل والكثير. ذكره في الميسر.
ونحوه للرجراجي في مناهج التحصيل وابن شاس في الجواهر، ففي مناهج التحصيل: سئل –أي مالك- عن قليل البرص، قال: ما سمعت إلا ما جاء في الحديث. وما فرق بين قليل ولا كثير اهـ.
ولم يفرق العلماء في التحريم بين سم ساعة وسم سنة، وفي الحديث: “ما زالت أكلة خيبر تعادني”. قال في فتح الباري: تعادني بتشديد الدال أي تعاودني، والعداد اهتياج الألم باللديغ، كلما مضت سنة من يوم لدغ هاج اهـ.
وللقرطبي في المفهم: وأمَّا بشر بن البراء فروي أنه مات من حينه. وقيل: بل لزمه وجعه ذلك، ثم توفي منه بعد سنة اهـ.
وفي كل ذلك دليل على أن ضرر السم قد يكون متراخيا، ولم يمنع ذلك من تحريمه.
ومما يؤكد أن الضرر الآجل مانع من الإذن كالعاجل، ما قرره أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات من أن المفتي لا بد من نظره في مآلات الأفعال قبل أن يجيب عن سؤالات السائلين، ففيها ما نصه: ” المسألة العاشرة: النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم مشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق، محمود الغب، جار على مقاصد الشريعة اهـ[[3]]url:#_ftn3 .
فهو صريح في أن المفسدة الآجلة معتبرة في نظر الشرع، يترتب عليها حكمها وإن لم تكن حاصلة في الحال.
فالقول بعد هذا بأن الضرر الآجل ليس كالفوري يحتاج لدليل خاص يصلح أن تعارض به الظواهر المتقدمة.
فإن قيل: دليل التخصيص أن الضرر المآلي ليس مقصورا على الدخان، بل هو في المطعومات كاللحم والسكر وغيرهما، فإجماع الأطباء على ضرر السكر مثلا مع إجماع المسلمين على إباحته قد يمنع اعتبار الضرر الآجل مناطا للتحريم.
فجوابه أن دعوى التخصيص بالقياس على ما فيه ضرر كاللحم والسكر ونحوهما مما قال الأطباء: إن فيه ضررا، وأجمع المسلمون على إباحته، ممنوعة، إذ هو قياس مع وجود الفارق؛ لأن ما ذكر من اللحم والسكر وغيرهما من المطعومات لها منافع كثيرة محققة وعامة، وتحتاج لها الأبدان، وتتضرر بسبب نقصانها، وذلك هو مقتضي الإذن، لأن الأصل في المنافع الإذن، لقوله تعالى: “خلق لكم ما في الأرض جميعا”، وليس في هذه المواد ضرر عاجل أو آجل على ذي بدن معتدل، ما لم يقع إفراط في التناول بحيث يؤدي إلى زيادة المادة في البدن، إذ ما زاد على قدر حاجة البدن يوجب للبدن الضرر.
نعم، قد يعرض لبعض الأبدان انحراف كزيادة السكر أو الدسومة في الدم مثلا، فتكون هذه المواد بالنسبة لهذه الأبدان ضارة، فيعرض لها التحريم لعروض مقتضيه. فسبب ضررها زيادتها في البدن على الحد المحتاج إليه، ولذلك فهي قد تنقص في بعض الأحيان في بدن هؤلاء، فيكون استعمالهم لها حينئذ نافعا لا ضارا، بل لا بد منه للبدن.
ولا كذلك التبغ، فإن النفع الذي هو مقتضي الإباحة مفقود فيه، والمحقق إنما هو الضرر، وهذا ما لا خلاف فيه اليوم بين الأطباء.
ففي كتاب “التدخين بين الطب والدين”: الدخان لا يحمل فائدة واحدة، بل هو كله ضرر اهـ[[4]]url:#_ftn4 .
فمن أراد التخصيص بقياس الدخان على المطعومات التي قد تضر بالأبدان فإنه يقدح في قياسه بقادح الفرق، وذلك بإبداء مختص بالأصل، وهو النفع الذي هو علة الإذن، فلا وجود له في الفرع، ومانع في الفرع وهو الضرر العام المحقق، وهو ليس في الأصل، وإثبات حكم الأصل في الفرع موقوف على ثبوت مقتضيه وانتفاء مانعه.
مع أن ضرر التدخين كثيرا ما يقع فوريا، ففي منشورات منظمة الصحة العالمية على موقعها: “يتسبب دخان التبغ غير المباشر في حدوث أكثر من 600000 وفاة مبكرة سنويا”.
وإذا كان هذا تأثير التدخين غير المباشر فما ذا سيكون ضرره بالنسبة للمتعاطين؟.
والحاصل أنه قد تقرر في الشرع أن الأصل في المنافع الإذن، وأن الأصل في المضار المنع، وأن ما اشتهر بين العلماء من خلاف في مسألة التدخين إنما هو خلاف في شهادة، فمن أجاز بنى فتواه على أنه لا ضرر في التدخين، وأن الأصل في مثل هذا الإباحة، ومن منع بنى حكمه على أنه لا نفع في التدخين أصلا، وإنما هو ضرر متمحض، وعليه فليس خلافهما خلافا في فقه، وإنما هو خلاف في شهادة، والخلاف في شهادة أن يكون قول كل من المختلفين مرتبا على حالة ينفي غيرها، ولو وافقه مخالفه على انفراد تلك الحالة لوافقه في الحكم.
ففي حاشية البناني ناقلا عن بعض شيوخه: الخلاف في شهادة يقال حيث يكون القول من كل منهما مرتبًا على إحدى الحالتين، وهو مع ذلك ينفي الأخرى، ومثلوا له بالمال المجعول في الفم اختلف في التطهير به، فإن كان هذا الخلاف من أجل أن القائل بالمنع يرى أنه ينضاف ولا بد، ولا يمكن بمجرد العادة عدم إضافته، والقائل بالجواز يري نقيض هذا، فهو خلاف في شهادة اهـ.
وبيان ذلك أن من أفتى بتحريم الدخان بنى فتواه على حالة موجبة للتحريم ينفي غيرها، وهي الضرر المتمحض، فهو لا يرى في التدخين غير هذا، ومن أباحه بنى فتواه على انتفاء الضرر، وهو ينفي غير هذا، فلو وافق كل منهما الآخر على الحالة التي رتب عليها حكمه لوافقه في الحكم.
وقد أشار ابن راشد القفصي في لباب اللباب إلى الفرق بين الخلاف الحقيقي والخلاف في شهادة بقوله: وما يقع من خلاف في إحدى الصور فالخلاف في سببية السبب أو شرطية الشرط أو مانعية المانع، وقد يتفق على سببية السبب وشرطية الشرط، ويختلف هل وقع ذلك في محل النزاع أو لا؟ وعن هذا يعبر ابن بشير بأن الخلاف في شهادة، وإذا تأملت ذلك ظهر لك سبب الاتفاق والاختلاف، فاحتفظ بهذا الأصل فإنه جيد جدا اهـ.
فالخلاف في سببية السبب أو شرطية الشرط أو مانعية المانع هو الخلاف الفقهي، وأما الخلاف في حصول ما اتفق على سببيته أو شرطيته أو مانعيته فهو الخلاف في شهادة.
وبما تقدم يظهر أنه لا خلاف حقيقيا بين من أفتى بالحلية ومن أفتى بالتحريم، وإنما الخلاف هل الضرر الذي هو مستند التحريم ثابت أم لا؟
وإذا كان المرجع في إثبات الضرر للأطباء فإنه لا خلاف بينهم اليوم في ثبوته كما علمت، وإذا انتفى خلافهم في ثبوت الضرر ارتفع خلاف الفقهاء في التحريم، إذ لا خلاف بين الفقهاء أن كل ضار ممنوع.
والعلم لله تعالى وحده، والعصمة في القول والفعل لمن لا نبي بعده.
كتبه محمد سعيد بن بدي.