من بعيد تتراءى أعمدة الدخان وهي تنساب في الفضاء بشكل لولبي، ضباب يميل للسواد يخيم على المكان، آخر ما ابتكرته الخبرة البشرية لفتح الشهية، الشحوم تحترق فوق نار تبدأ هادئة، ما تلبث أن يضيف لهيبها رونقا سحريا خاصا على المكان، يفسر في بعض الأحيان ولع الفرس قديما بالنار.
مشهد يفرض على القادم رأيا، حتى ولو كان مخالفا لأجندته، نادرا ما يستطيع الفكاك من تبنيه.
هنا مجرد دقائق ويحين وقت صلاة المغرب، على بعد مسافة لا تقل في كثير الأحيان عن 250 كلم على طريق يأخذ منك فيه التركيز آخر كتلة طاقة لديك.، إنها مدينة ألاك، كما تتراءى وقت الأصيل، قرص الشمس في اللحظات الأخيرة من احتفاليته الجنائزية.
الأسماء المتغيرة
يحكي التاريخ في سجلاته أن ضابط البحرية الرائد بورل، أوفدته الحكومة الفرنسية، في أواخر القرن التاسع عشر إلى المناطق الغربية من الأراضي الموريتانية، في إطار رحلاتها الاستكشافية الممهدة لدخول ” أرض البيظان“، كما كانت تسمى قديما.
زار منطقة لبراكنه، وسجل إعجابه … لكنه لم يكن يدرك أنه بلفته الأنظار في تقريره عن الرحلة، إلى القيمة الاقتصادية للبحيرة الموجودة في المنطقة، سيكون قد وجه التاريخ الشخصي لسكان الأرض المستهدفة، نحو واحدة من أهم لحظاتهم الخاصة التي ميزتهم عبر الصحراء الممتدة من نهر السنغال حتى تخوم جمهورية أتشاد.
مر التاريخ من يومها بسرعة فائقة… تحول فيها المكان هنا، في رقصة الأسماء المتغيرة، تحولا كبيرا قبل أن يحط الرحال أخيرا في “عاصمة المشوي”.
كانت “لكديه” و”أكويبينه”، وحتى “ألاك”، النطق المحرف لكلمة “لاك” اللاتينية التي أبرزها الرائد بورل في تقريره، والذي كان له ربما الدور الحاسم في تغيير خارطة المكان على المستوى السياسي على الأقل..
بعدها بعشرات السنين، أحتفل “الموريتانيون” في مؤتمر ألاك 1958 ، معلنين للعالم انطلاقة “الحلم” باستعادة الأرض “المستهدفة”، لكنهم لم يضعوا في الحسبان أنه في الاحتفالية، تم وضع حجر الأساس أيضا، عن غير قصد، للاسم الجديد للمدينة : “عاصمة المشوي“.
إسم سينتظر، بدوره، لسنوات أخرى عديدة، حتى يأخذ مكانه في قصة الأسماء.
هنا بالضبط، في لحظة هامشية من التاريخ، وفي غفلة من الجميع، سيحتفل شخص بسيط، ، في ركن قصي من ولاية اترارزة بعرق جبينه على إيقاع إيحاءات أول احتفال بالحلم.، ألم يتم اختيار المدينة على اعتبار مركزيتها وسط البلاد ؟
هي اليوم كذلك، ملتقى طرق التجارة والثقافة، وحتى البشر، إنها دروس التاريخ، يقرأها أمي خرج إلى الوجود من دون كبير استقبال…!
“من يمكنه أن يمر من هنا من دون أن يتذوق مشوي ألاك!” بفخر يقولها حمدي الذي زاول المهنة منذ ما يقارب العشرين سنة، ومازال في ريعان شبابه، الصدفة وحدها وضعته على الطريق أولا، قبل أن يصبح عاشقا للمهنة..
لم يكن من مواليد المنطقة، لكنه مر من هنا قبل سنوات عديدة، ولم يعد يذكر بالضبط ما هي وجهته، وما هو مبتغاه؟!
اقترح علي أحدهم العمل معه، فوافقت على الفور… وما هي إلا شهور، حتى أحسست برغبة عارمة في امتلاك المحل.
مضت سنوات وتحقق له ما أراد.. لديه الآن أربعة موظفين دائمين.. “ولا أتمنى اليوم الذي تحدوهم فيه الرغبة بخلافتي في المكان..” يضيف ضاحكا!!
بعفويته وبراءته البشوشة المصحوبة بقليل من”الخبث الماكر”، يشرف حمدي على كل شيء بنفسه، ولربما عن قصد تسمعه يوبخ عماله، وهو يرسل رسالة مفادها “انتم الضيوف.. لا تقلقوا فأنا موجود وراء كل شيء أراقب وأكمل النقص” حتى ولو كان هذا النقص هو الروائح الكريهة المنبعثة من مكان الذبح القريب من محل الضيافة.
“كم من مرة رفعت الشكوى للبلدية”، يقول “لكنها لا تفقه إلا جباية الضرائب… لا عليكم، مع الصباح الباكر، سأشرف شخصيا على تنظيف المكان ولن تضايقكم الرائحة في طريق عودتكم القادمة، فقط تذكروا أني هنا في الخدمة، وخدمتكم أنتم فقط“!!!
يأتي الصباح ويغط حمدي في نوم عميق، لا يفيق منه إلا على ذبح جديد، ويوميات أخرى لها حكاياتها وطقوسها ، وقد لا يتذكر وعده إلا مع ضيوف آخرين، قاطعا على نفسه العهد معهم مرة أخرى أن يزيل فضلات الذبح المتراكمة، بنفسه، مع الصباح الآخر.
من خلال الضوء الخافت المنبعث من المكان.. تقرأ فوق الجباه، لذة المتعة لدى القوم..” مشوي رائع” ..”اعطني الخبز”.. “قم استيقظ”… “تفضل سيدي”… “ما اسمك؟ ، لتكن كأس الشاي الثانية، قليلة السكر”.. “هل البعوض موجود في هذه الفترة”… “سنواصل المسير بعد هذه الاستراحة“..
لا تكاد مفردات القاموس هنا تخرج هذه الدائرة، إلا بالقليل… والحركة هي عنوان المشهد…
سيارة قادمة، وأخرى تستعد للمغادرة، وعين حمدي على الجميع.. كرمه فوق المعتاد، وعند لحظة الحساب… ينزوي جانبا إلى غرفته وراء عريش الضيافة … يخاف من “العين”، ولكل شأن يغنيه…!
تحقق الحلم
قبل شهرين فقط، كان حمدي في إجازة لم تستغرق إلا شهرا واحدا، لكنها كانت مفعمة بالحياة… التقى بجميع أفراد أسرته في ضواحي المذرذرة، والأهم هو التجربة الجديدة التي طالما حلم بها… تزوج من بنت قريته.
في هذه المرة لم يستطع اصطحاب شريكته الجديدة في الحياة، تفرض العادات هناك، أن تنتظر مع والديه لفترة من الزمن قد لا تكون طويلة، سيذهب إلى القرية بعد أشهر في مراسيم احتفالية جديدة للعودة بمريم إلى مكانها الجديد في ألاك.
“ستكون فخورة بالعمل الذي ينتظرها… كانت دوما تلح علي بتسريع الزواج حتى يتسنى لها أن تعيش في المدينة بما تقدمه من مزايا… سيتغير كل شيء، وسأكون سعيدا حقا بوجودها إلى جواري هنا…”
“لن أستغني عن أي من العمال، بل على العكس أفكر في توسيع المكان مما يحتم البحث عن عمال جدد، وهي مهمة ليست بالبسيطة… يندر أن تجد العامل المناسب في الزمن اليوم.“
في أوقات فراغه، وقليلة هي، ترى حمدي وقد أخرج مسواكه من جيبه، يخطوا خطوات متقاربة، قبل أن يجلس إلى جوار زميلة له في المهنة بالقرب من محله، يتهامسان، يضحك ضحكة، لا يستطيع فك ألغازها إلا من عاش مع الرجل لأيام متواصلة.
تقول له : “ستأتي مريم قريبا، ولن تكون شجاعا حينها، لتجلس هكذا..” يرد عليها ب”خبثه الماكر”: “حينها لا أريد منك إلا تدريبها على العمل…” !!!
تمر اللحظات، وتمر الأيام ، ويبقي حمدي سعيدا بأول حلم في المدينة… حلم حقق له حلما احتفل به مع أسرته.
غادر بورل، ورحلت معه فرنسا، وتحقق حلم أول حلم … حلم تفخر به ألاك، وتفخر أنها تضيف له مع الوقت لمسة خاصة، خاصة جدا بخصوصية “ساكنة هذه الأرض“.