قدر الله وما شاء فعل.. ولكل أجل كتاب.. ذهب عنا الموت اليوم بأخينا الأكبر، وزميلنا الموقر فضيلة القاضي أشريف المختار ولد باله أشريف رحمه الله تعالى، ولم يعش من الجزء الثالث من عمره إلا سنوات قليلة، فقد تقاعد من العمل نهاية سنة 2008، وهو الآن عند ربه خير منزول به.
لا ننازع الأمر مدبره، ونفوسنا مسلمة لما قضى الله، متسلية بالصبر، على ما فيها من حزن على فراق أخ مسلم ورع زاهد مستقيم قل نظيره..
لم أتعرف عن قرب على الفقيد أشريف المختار إلا سنة 2007 مع أني وإياه أبناء مدينة واحدة، ولي ببعض إخوته الكرام وأفراد بيته الشريف علاقات حميمة.
شغل المرحوم في النصف الثاني من سنة 2007 إلى الأشهر الأخيرة من سنة 2008 منصب المدعي العام لدى المحكمة العليا للمرة الثانية، وأنا نائب لوكيل الجمهورية.
كنت قبلها أسمع عن استقامته ونزاهته، وبعده عن الممارسات غير الأخلاقية، ومما علق بذهني مما سمعته عنه، وأنا في التكوين بالمدرسة الوطنية للإدارة من قاض ثقة أنه في المرة الأولى التي شغل فيها منصب المدعي العام منتصف التسعينيات، أقيل لمجرد كلمة قالها في مكتبه أمام شخص جيد التوصيل تعليقا على تعيين شخص في منصب عام، فحين أخبره الجليس باسم المعين، رد عليه مستفهما ” أهو الذي ملفه بين أيدينا”، وكان يشير إلى ملف متعلق بفساد، فأقيل بعدها مباشرة.
وكان أخوه وأخي الأكبر محمد الأمين، مد الله في عمره، ـ وهو عدل ثقة والقاضي في مسائل التعديل يحكم بعلمه الشخصي ـ حكى لي أنه أثناء شغل الفقيد لمناصب قضائية في قضاء الحكم ربما اضطر تحت بعض الضغوط فيوصيه على ملفات، لكن يكون الحكم فيها دائما لغير صالح الموصى به.
لما خبرته وأنا أعمل تحت إمرته، وجدت فيه بالمعاينة من خصال حمد القاضي فوق ما كنت سمعته، فدل علي قول القائل/ من البسيط:
كانت محادثة الركبان تخبرني <<>> عن جعفر ابن فلاح أحسن الخبر
حتى التقينا فلا ولله ما سمعت أذني <<>> بأحسن مما قد رأى بصري
يجمع القضاة، ومسائل إجماعهم قليلة، والمتقاضون وإجماعهم يكاد يكون مستحيلا، على استقامة أشريف المختار في القضاء منذ أن أبتلي به، وقد قال العلامة سيد عبد الله ولد الحاج إبراهيم في مراقي السعود:
وأقطع بصدق خبر التواتر<<>> وسو بين مسلم وكافر
خلال الفترة التي قضاها أشريف المختار مدعيا عاما، وعرفته فيها، رفض باستماتة أن يتصرف في أموال المصاريف الجنائية، والقانون يسند له الأمر بصرفها، وكان يقول ” فيما يخصني لا أريد أن آكل أوقية واحدة غير راتبي، وبالنسبة للآخرين فلن يأكلوها بتوقيع ولد باله”، وهذا التعفف منه عن ما لا بأس به حذرا مما به بأس صريح الورع.
لا يعني المنصب له أي شيء، فهو في جميع أحواله بسيط، ومتواضع، وزاهد في المظاهر، وحين يرشده أحد ليركب خلف السائق، أو يصطحب مرافقه الحرسي يعرض عن ذلك، ويرفضه، وكثيرا ما كرر أنه لم يعرف يوما السبب الذي عين على أساسه في أي منصب ولا السبب الذي حول بموجبه، ويؤكد دائما أنه لم يطلب قط وظيفة محددة، ولم يسع إلى تحويل من أخرى، ويقول” تركت لهم ما عندهم ليتركوا لي ما عندي”.
طبع على كره الظلم، وله غضبة تأخذه، ينتفض أثناءها، إذا أحس من إجراءات في أي ملف شائبة ظلم أو تحيز، أو تجاوز لقواعد وقيم العدل.
يرجع بسرعة عن أي قرار، أو رأي مهما كان، وحتى لو كان مصدره تعليمات، إذا تنبه أو نبهه أحد إلى مخالفتها للقانون أو قيم العدل، أو إذا كان فيه ميل أو انحراف.
يستمع بإصغاء وانتباه لجميع الآراء، ويدور مع الصواب مهما كانت رتبة قائله، ويشرك الجميع في المناقشات، ويحرص على اتخاذ القرارات بأعضاء فريقه.
يدرس الملفات ورقة ورقة، لا يتجاوز شيئا، ويقرأ جميع ما يرد إليه، وما يكتب له، وإن كان الكاتب مسهبا مثلي في التقارير والمذكرات، ويحرر بيده، مع أن تكوينه الأصلي باللغة الفرنسية، إلا أنه أنسجم مع القضاء المعرب دون صعوبة.
يؤمن بالقضاء المستقل، ويدافع عن استقلاليته بجرأة وصراحة، في أي مجلس مهما كان، وله مواقف صريحة في دورات المجلس الأعلى للقضاء، وفي جلسات أخرى، مرة وإثر محاكمة انتهت بتبرئة بعض المتهمين استدعي مع بعض أعضاء فريقه إلى اجتماع، وحين أحيل إليه الكلام، قال إن الأمر لا يستدعي مثل هذا الاجتماع فالمحكمة عالجت الملف باستقلالية، ومن كان يريد استقلالية القضاء فهي هكذا، وليس أمامه إلا الطعون القانونية، ومن يريد طريقا آخر فعليه “بلي آذان القضاة، كما كان يقع وليس بواسطة ولد باله، الذي لا يصلح لذلك”، كان كلامه مفحما وتكفل بنهاية سعيدة للاجتماع.
حين يقتنع بسلامة أية إجراءات جارية في ملف ما يدافع عنها إلى النهاية، وإن خالفت هوى توجهات أخرى، حدث لي ذلك معه مرات، ولولا التحفظ الذي لا يخرج القاضي من سلطانه وإن كان معارا لأوردت نماذج من ذلك.
لا يتدخل بشكل شخصي في الملفات، ولا يتوسط لقرابته ومعارفه، ولا يستغل منصبه في أي أمر يعنيه، وراجعني في فترة توليه منصب المدعي العام بعض من أفراد أسرته في قضايا تخصهم علمت منهم أنهم يخفون عنه ترددهم على القضاء، لأنه يقول لهم دائما “من عنده منكم الحق فالقضاء أمامه ولا يمر بي، ومن هو ظالم فلا قرب الله قرابته”.
يتمتع الفقيد أشريف باله بجدية نادرة، فهو مواظب على أوقات الدوام، ويزيد عليها، حريص على الظهور الدائم بالزي المدني، ويحمل أعضاء النيابة العامة على ذلك.
ورغم صرامته، وجديته، ووقاره الذي يزيده الشيب في الرأس واللحية الكثة الحسنة في الوجه، فإنه مع ذلك على خلق، يسع الجميع، ولا يخلو من ظرافة وطرافة، تأتي في بعض الأحيان في التعبير بحركات الأعضاء أثناء الكلام، وأحيانا تأتي من خلال قاموس ألفاظه الذي يستخدم، لن أنس عبارته ” وَيْكْرَهْ”، ولا عبارة ” أخاه” التي يواجه بها أي أمر غير مفيد، شكا إليه يوما زميل سخونة المكاتب في الصيف دون تكييف، وطلب منه السعي من أجل تكييف المكاتب، فرد عليه خروجا عن السياق “أَنْتَ بَعْدْ أَمْحَميكْ ألا مَتَنْ عَكْدَتْ ذِ الشرويط…وَسعْهَ عنك مَتْ”.
لم يكن أي هم مهما كان ليشغل السيد المدعي العام أشريف باله عن صلاة الجماعة، فدائما ما يكون على وضوء، أو يتوضأ ثم ينصرف من كل شغل، ويغادر إلى جامع ابن عباس لأداء صلاة الظهر، ويؤجل أي اجتماع أو جلسة قد تتصادف مع وقت الصلاة، وفي الأوقات الأخرى، إن تبحث عنه تلقه في الجامع الكبير [ الجامع السعودي] أو في الطريق منه أو إليه، حيث مقر سكنه غير بعيد، ولا شأن له بغير العمل في المكتب أو الصلاة في المسجد، ويسعه المنزل بين هذا وذاك.
ليست له أية عداوات أو خلافات مع أي طرف كان، ولم يدخل من أمر القضاة إلا ما كان جامعا موحدا، ولا يضمر شرا لأحد، ولا يخفي عنك انطباعه تجاهك، ولا ما يسمعه عنك، ولم يعاقب قاضيا من مرؤوسيه، وكان تقييمه لهم سنته متوسطا عدلا.
بعد التقاعد تفرغ الفقيد للمنزل والصلاة في الجامع السعودي، ولم يشأ العودة إلى القضاء من باب المحاماة كما فعل كثير من متقاعدي القضاة، مع أنه لا يملك من متاع الدنيا شيئا فالمنزل الذي يسكنه ملك للدولة، وموضوع تحت تصرفه منها.
لقيته بعد تقاعده مرات، كانت كلها في المسجد، وقابلني دائما ببشاشته وطلاقة وجهه التي أعرف، وكانت رؤيتي الأخيرة له في الجامع السعودي، وقد أدركت معه الركعة الأخيرة من صلاة المغرب، وهو إمام الصلاة، ولم ألقه لأنه أنصرف قبل منصرفي.
لا شك أنه من أمارات صلاح الرجل أن من بواكيه جماعة المسجد، وأن يحضر جنازته العلماء من أماكن متفرقة في المدينة حرصا على حضور الصلاة عليه، ويذكره المصلون بخير، وليس من المصادفة أن يقرأ إمام الجامع في الركعة الأولى من آخر صلاة فجر يُحضر إليها بجسمه مسجى قبل الصلاة عليه بسورة الفجر، وخاتمتها <<يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فأدخلي في عبادي وأدخلي جنتي >>، وفي الركعة الأخيرة بسورة التين، ومن آياتها << إلا اللذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهموا أجر غير ممنون>>، نحسبه من هؤلاء، ومن قضاة الجنة، ولا نزكي على الله أحدا.
رحم الله أشريف المختار، وهو يُنزل ” البعلاتية”، مع والده الذي توفي ساجدا، وله فيها نظراء من الصلحاء والفضلاء، ورجال الدولة المستقيمين.
اللهم جازه جزاء المقسطين، وأنزله منزلتهم على منابر النور عن يمينك، وكلتا يديك يمين، كما أخرج مسلم من حديث عبد الله ابن عمرو بن العاص: << المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا>>.
اللهم آته ثواب تعلق قلبه بالمساجد، الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه البخاري من حديثه << سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عدل، وشاب نشأ في طاعة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه>>.
اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، وأغفر لنا وله، والهم أبناءه وأهله، وكل أفراد بيت الشرف الذي ينتمي إليه الصبر على المصاب فيه، فإنه كبير.