تربة بنت عمّار
باحثة في شؤون المرأة وأستاذة جامعية
البريد الإلكتروني: [email protected]
رغم الاختلاف حول مصطلح الإبداع ودلالاته، إلا أن الإجماع يكاد يكون على أنه الخلق والإنشاء مع البراعة والجودة، ورغم ذلك فإنه صار يطلق على إنتاج امتاز بشيء من الرصانة والعلمية، وبما أنني هنا أحاول معالجة متواضعة لتجربة المرأة الموريتانية المعاصرة وأصل ذلك برؤية نقدية للظروف الاجتماعية المعاكسة لإنتاجها المتمثل في فنون الأدب وخاصة الشعر والسرد رغم أن هذا الأخير ما زال عندنا في خطواته الأولى، فإني سوف استعرض بعض النماذج من حضور المرأة في مجال الأدب لكي ألامس من خلال إنتاجها أنواع المعاناة التي طوقتها مستلهمة من خلال رسالتها أن المرأة رسم لها عن وعي صورة نمطية لتعبير لا يمكن أن تجتازها.
ولهذا فإن الشعر الذي ظل صنيعة رجالية عبر أطوار تاريخية طويلة وعندما حاولت الشاعرة الخنساء أن ترسم قلعة تحدي لذلك الاحتكار فتح لها غرض الرثاء وحده كهبة لا يمكن أن تتجاوزه، ورغم جمالية شعرها، واستحسان شيخ التحكيم في الأسواق الأدبية لقريضها فإن ذلك لم يشفع لها في الالتحاق بمدرسة الشعر الجاهلي كمؤسسة ولا مدرسة الشعراء المخضرمين لا لشيء غير أنها امرأة مبدعة في زمن رجالي وفوق أديم أرضية ذكورية رغم جودة التعبير عندها وصدق العاطفة، ولهذا أترعت قصائدها بنياح النساء وقوقعة موهبتها داخل غرض الرثاء وحتى لو افترضنا أنها اجتازت تلك الحدود المرسومة لها سلفا فإن موهبتها سوف تواجه بالصمت واللامبالاة.
قد لا نبالغ في القول إذا قلنا إن حضور المرأة العربية في مجال الإنتاج الشعري كان محدودا إذا ما قورن بالنهضة الشعرية التي أسس دعائمها رواد النهضة الجاهلية التي أبانت عن مستوى رفيع في التجربة منذ أيام امرؤ القيس بن حجر وحتى أيام نزار قباني، فالنهضة الشعرية التي انبثقت في شبه الجزيرة العربية في القرن الأول قبل البعثة النبوية وفي عرب الشمال خاصة، وذلك مع جيل الرواد الذين تغزلوا واعتذروا ولم يسمح للمرأة أن تنال حرية التعبير التي تمكنها من التحاق بمصاف الرجال فإذا قالت المرأة معبرة عن مكنونات شوقها:
جريت مع العشاق في حلبة الهوى |
|
ففقتهم سبقا وجئت على رسلي |
فإن اسمها يطمر وموهبتها تؤد لأنها أتت منكرا من القول وتنكرها المصادر على أنها من المجهولات فيكتفى بقولهم قالت إعرابية، إما إذا قالت:
يؤرقني التذكر حين أمسي |
|
فأصبح قد بليت بفرط نكسي |
ورغم إعجاب النابغة ومجالسه بشعر الخنساء فإن ذلك لم يشفع لها في الارتقاء إلى مكان الصدارة الذي ناله أصحاب المعلقات ولم يتجاوز اهتمام دوائر التلقي بشعر الخنساء إلا أنها امرأة تبكي أخاها وحامي ذمارها مما أعطاها شعبية داخل الحدود المرسومة لها وقبول المستهلك العربي لمراثيها الحزينة والمؤثرة وذلك عندما تقول:
طويل النجاد رفيع العماد |
|
كثير الرماد إذا ما شتى |
والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو لما ذا لا تكون الخنساء من أصحاب المعلقات؟ هل لأن المعلقات صنيعة رجالية لا تسمح السلطة الذكورية بدخول المرأة فيها؟ أم أن العلة في شعر الخنساء والصورة النمطية لتعبيرها في غرض شعري ظل منتجعا لرائدات الشعر العربي اللائي لم يستطعن اجتيازه وولوج تلك الأغراض الشعرية الأخرى الأكثر فحولة وجماهيرية؟
غير أن الخنساء قد تجاوزت مستوى المرأة العربية في عصرها لكنها لم تلتحق بمدرسة الشعر الجاهلي والتي كان من روادها امرؤ القيس والنابغة وزهير والأعشى حتى فترة صدر الإسلام التي كانت المرأة أكثر تحررا، وهناك ليلى الأخيلية وهي من شعراء صدر الإسلام المتوفاة 77 هـ 699م فإنها ترثي توبة الذي أحبته ولم يكتب لها الزواج به فرثته بقولها:
أيا عين ابكي توبة بن الحمير |
|
بسح كفيض الجدول المتفجر |
لكن ليلى هذه على الرغم من شخصيتها الفذة ونضالها السياسي فإن مصادر تاريخ الأدب العربي كادت أن تلفها بالنسيان وركزت على قصتها العاطفية مع توبة فقط.
وهنا عندما نجول في رحاب تراثنا الغني فإنا نكاد لا نستبين أثرا لحضور قوي للمرأة العربية في الشعر الوسيلة التعبيرية الأكثر جماهيرية إلا داخل غرض الرثاء، فالمجتمع سمح لها بالنياحة على موتاها وتلك قضية أخرى أوكلت للمرأة العربية معها قصة وشجون وتظهر سيادة الميت وبذلك نجدها تساهم في صياغة المنظومة بمساهماتها لكنها تظل منسابة مع تيار العقليات المتحكمة.
فليلى الأخيلية مثلا لها مشاركات في مجال السياسة ولها حضور في ملامح الصراع الذي دار رحاه بعد الفتنة الكبرى ومع ذلك تجاهلت المصادر ذلك الدور الكبير عن ليلي الأخيلة لتقدمها كمادة فقط داخل شعر الخفاجي في قصائده الرقيقة والجملية بوصفها ملهمة الشاعر ومصدر إبداعه وذلك في قوله:
أحمامة بطن الوادين ترنمي |
|
سقاك من الغر الغواد مطريها |
وهذا يدخل من باب إقصاء أو تجاهل تجارب النساء الشعرية خارج الإطار المسموح لها به وهو الرثاء وحده.
والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح كلما دخلنا رفوف القصيدة العربية التي من إنتاج المرأة بين الفينة والأخرى هو لما ذا غرض الرثاء وحده الذي طوق الموهبة النسائية من الأمام والخلف؟ لما ذا انحصر إنتاج المرأة في هذا المجال؟ لما ذا الرثاء وحده هو الذي استطاعت الحنجرة النسائية أن تعبده؟ هل لأن الأغراض الأخرى وضع المجتمع العربي عليها سياجا منع المرأة من ولوجها؟ أم أن لبعد الأمومة والعاطفة والنياحة دور في تعبيد المرأة لغرض الرثاء تلك تساؤلات نجد لها جوابا مع الدكتور: محمذن ولد أحمد المحجوب من خلال محاولة له عن مكانة المرأة الموريتانية في الثقافة العالمة حيث يلتمس جوابا لتلك الظاهرة بقوله: “إن الإجابة على هذا السؤال تحتاج الكثير من المقاربات والمقارنات ولكننا سنكتفي في هذا المقام بملاحظات منها أن تناقص الشعر في صفوف النساء قد يكون راجعا إلى أن الرجل في المجتمع يتهيأ له من أسباب القريض ما لا يتهيأ للمرأة إذ يربى في الغالب تربية أدبية شعرية تدفعه إلى أن يشحن ذاكرته بنصوص شعرية كثيرة بخلاف المرأة التي تخضع لتربية مغايرة ثم إن طبيعة الأغراض الشعرية قد تقف عائقا أمام إبداع المرأة فالغزل مثلا يكاد يكون حكرا على الرجل فهو غير لائق بالنساء وصدوره منهن يعد تنكيسا في العادة وخرقا للأعراف والمدح في أكثر الأحيان تكسب واستجداء وبذل لماء الوجه فهو لا يليق لأكثر الرجال فكيف بالنساء، أما الهجاء فهو قذف وذم وتجريح فلا يجرؤ عليه إلا من له خبث في النفس ورقة في الدين، ويبقى الرثاء ـ وهو الغرض الوحيد الذي دخل النساء به القريض ـ ورغم ذلك فيمكن أن ينظر إليه من بعض الوجوه على أنه بكاء على الميت ونياحة”.
وهكذا ظل تاريخنا طويلا مع الشعر كأمة تجعله ديوانها وسجل أمجادها ومع ذلك فإن نصيب المرأة منه مجرد بكاء على الميت وإذا اجتازت ذلك فإنها تبقى مجرد مادة رئيسة ومستهلكة حتى أوهمت أن مصدر افتخارها وعزها يكمن في كونها مادة يتغنى الشعراء بمحاسنها.
وختاما لهذه الجولة التاريخية التي أردت أن ألج بها تجربتنا الوطنية نظرا لعامل التأثير، ومدى استحضارنا للتراث الإسلامي والعربي في حياتنا الثقافية…، يجدر بنا أن نتساءل هل الرثاء وحده ظل طودا شامخا في سماء الإبداع النسائي عبر العصور المختلفة للأدب العربي؟ أم أن التحول والانتكاسة لحركة النمو الإبداعي النسائي لفت أياديها غرض الرثاء أيضا ليختفي الصنف الأدبي التعبيري الوحيد للمرأة ؟ أم أن بروز ثقافة الجواري وبتر نفسية المرأة من مجتمعها أمر بالغ الدلالة في اختفاء الأنا والإحساس عند المرأة العربية فاتحة المجال لمجالس اللهو والطرب في سمريات ملوك وأمراء الحضارة الإسلامية إبان ازدهارها لتتحول المرأة من منتجة نسبية إلى مادة مستهلكة أساسية في الشعر الإباحي والغناء الماجن.
لكننا عندما تستوقفنا مصادر الأدب الأندلس مع تجربة الأميرة ولادة من المستكفي لتظهر لنا نمطا جديدا من الجرأة والتحرر عند سليلة الملوك نندهش أمام هذا المستوى من حرية التعبير لكننا لا نلبث أن نعتبر أنها مجرد حالة استثنائية ظهرت واختفت لتثبت جدلية الثابت والمحول.
أما هنا في موريتانيا أرض الشعر ونظرا إلى أننا جزء من الكل ظلت المرأة عندنا تتنافس هي والأطلال على تصدر مقدمات القصائد لكي يحافظ بذلك على جمالية القصيدة وجودة مسيقاها ولهذا فإن المرأة لها تاريخ طويل وهي من آليات جمال القصيدة رغم نهضتنا الشعرية لكن الذي نحاول تسليط عليه شيء ولو قليلا من الضوء هل عرفت نهضة شعرية عندما أنتشر الوعي النسبي في صفوف النساء بفعل المدارس والجماعات والندوات بعد قيام الدولة الفتية وانتقالنا من طور البداوة إلى ما يشبه المدينة وبما أن هن تأثرن بجيل رائدات الوطن العربي في معاناتهن الآتي يتقاسمنها معنا شبرا بشبر وذراعا بذراع ويتجلى لنا ذلك في قول الرائدة سعادة الصباح:
يقولون:
إن الكلام امتياز الرجال…
فلا تنطقي!!
وإن التغزل فن الرجال
فلا تعشقي!!
وإن الكتابة بحر عميق المياه
فلا تغرقي
وها أنا ذي قد سبحت كثير فقاومت كل البحار فلم غرق.
وأما عندنا إبان النهضة فإن جيل الرائدات تأثرن بنفس الطريقة التي تأثرت بها الأخت المشرقية وجاء ذلك على لسان رائدة النهضة الشعرية في موريتانيا باتة بنت البراء تشاطر تلك المشرقية نفس المعاناة وذلك في قولها:
كل الخطيئة أنني لم أكن حجرا
وأن لي في فضاء الحرف مدرعا
ولي حقيبة شعر ظللت أحملها
فيها من الطلح أغصان مشاكسه
ولم تتأت هذه الأغصان المشاكسة بمحض الصدفة وإنما نبتت في الحقيبة الشعرية التي تحملها شاعرتنا الرائدة لكي تشاكس بها سطوة مجتمعها الذكوري فيكفيها من المشاكسة أنها ليست حجرا وأنها ليست أنثى خانعة مستسلمة.
أما المرحومة خديجة بنت عبد الحي فإنها تعتذر ضمنيا عن سيطرة سكرة الشعر:
سكرة الشعر تناجي أغنياتي |
|
سكبت في كأسها عطر الحياتي |
ويعتبر التحول الذي طرق أبواب عقليات مجتمعنا اتجاه المرأة التي كانت مسدودة سلفا بفعل عوامل تراكمات الروافد الثقافية التي كانت معول هدم في وجه أي خلق لبناء تصوري لصالح المرأة قد ساهم في خلق دوائر تلقي محدودة لإنتاج المرأة بفعل ملامح الكفاح الذي قادته رائداتنا في ثمانينات القرن الماضي مع جيل باتة والمرحومة خديجة.
وفي هذا المجال تقول الكاتبة حواء بنت ميلود “إن باته وخديجة بنت عبد الحي رائدتي النهضة الشعرية النسوية المعاصرة في بلاد شنقيط فمعهما بلغ الخطاب النسوي المعاصر مرحلة الازدهار”
. كما ظهر مع جيل نهضتنا النسوية تمثيل قوي وإحياء للتراث مع الشاعرة باتة بنت البراء لكن بأسلوب ومنهج جديدين وبتوظيف للتراث العربي الأصيل وتعانق الشعور القومي وتستنهض بعاطفة جياشة مترعة بالدلالات الحضارية همم أمتها من ضفاف الخليج وحتى سواحل المحيط. وذلك في قولها:
بغداد إني طفلة عزيزة
أحلم بالنخيل بالفرات بالقمر
بالصقور في المراقب العليا الخزر
أحفظ كل كلمة بقول شهر زاد
من المحيط جئت في زورق سندباد
يا حبي الذي بحثت عنه مذ قرون
يا مرفأ الخيال والجنون
يا منبع الثرى الدفين
لا زال رسم ملتي على الجبين
هذا من ناحية الشعر وقبل أن نتجازوه يجدر بنا أن نذكر بأمانة ذلك النمط الشعري التعبيري الذي اختارته المرأة الموريتانية من خفايا موهبتها المكبوتة لتستخرج وسيلة تعبيرية خاصة بها إنه جنس “التبراع” الذي سبق أن تناولناه في مقال منفصل وبينا موقفنا منه والذي قد لا يوافقني فيه البعض وهو أن التبراع الذي بدأ يختفي ولم يتحمل البقاء وأبان عن مستوى من الوعي عند المرأة ضعيف لم تستطع أن تحمله رسالة وإنما ابتدعته خلسة وبعيدا عن أعيون رقباء مجتمعها، قد اختفى مع ظهور ملامح الوعي عند جيل النساء خريجات الجامعات وذات مستويات ثقافية متميزة.
أما السرد فهو بطبعه جنس أدبي رفيع يزدهر مع تقدم الحضارة وانتشارها وبما أنه دخيل ـ نسبيا ـ على الأدب العربي ومع ذلك فإن المرأة الموريتانية المعاصرة والأكثر وعيا منذ قبل فإنها وجدت فيه وسيلتها الأكثر لصوقا بها والأقرب إلى موهبتها فبرز عندنا جيل من الكاتبات الآتي يكتبن القصة القصيرة والرواية وأبدعن في ذلك المجال، فمثلا رواية “حشائش الإفيون” للكاتبة سميرة حمادي فاضل بكل المقاييس الفنية والأدبية قلعة من قلاع الإبداع السردي عندنا في موريتانيا وثورة صارخة في وجه التخلف والتفاوت الطبقي والانحلال الأخلاقي، إنها معالجة رصينة وجريئة وبديعة في سماء الإبداع النسائي وخاصة جنس السرد.
وهكذا قادنا التنقيب عن تجربة نسائية تبرهن عن وجود لوحة فنية أثبتت من خلالها المرأة أنها رغم الترسبات والعقبات وخلف الستار تنام موهبة متأججة تتربص وتتحين الفرصة لتبدع الشعر تارة والسرد طورا آخر لأن تحت رماد التراكمات لهيب التكريم الإنساني مهما طال زمن الإقصاء والتهميش، والمثل يقول: “أن تأتي متأخرا خير من أن لا تأتي”.
وفي هذا المنوال ترفع رائدة الإبداع الشعري في موريتانيا الأستاذة باتة بنت البراء راية الخلود لتبرهن للجميع أنها هنا علم للخلود، وبأنها نقطة بدء للمسيرة النسائية وذلك قولها:
سأرفع طاقتي للخلود…
وأشرع رمحي بقلب الوجود
فيفهم هذا الزمان البليد
بأني هنا
علم للصمود
بأني نقطة بدء
بأن من الليل من وجع الذكريات من الردع ينبت
شهم عنيد!