حين يجتمع التاريح والجغرافيا على صعيد واحد تكون «فريدي»، حيث يعرض سكان البادية حياتهم دون رتوش، في رحلة تعيد الزائر عدة عقود للوراء، لتدغدغ ماترك الأسلاف من ذكريات وحكايات لدى أجيال لاتعرف إلا المدينة.
خلف مرتفع صخري تقع مزرعة «فريدي»، حيث القرية النموذجية التي تم افتتاحها في أول أيام النسخة الثانية، من مهرجان الرعاة الدولي، الذي تحتضنه مدينة الطينطان بولاية الحوض الغربي، هناك يمكن للزائر أن يتجول في جزء من تاريخ موريتانيا المجتمعي، هي فقط أربعة كيلومترات تفصل بين المدنية وحياة « لفريك »، حيث جذور الإنسان الموريتاني بمختلف مشاربها.
خيام مضروبة في كل الاتجاهات، ومن ورائهم « كصر افلان »، تحت كل خيمة جزء من العادات الموريتانية وشيء من التراث والثقافة والإبداع وتطويع المتاح من الوسائل، وبعض من تنوع المجتمع.
يجلس شيخ ملتحي على حصير أمام عدد من الأطفال، وهم يرتلون القرآن، في إحدى الخيام بالقرية، يجول بنظره بين الأطفال، وقد أدار ظهره للزوار الذين يراقبون المشهد، ويوثقونه بهواتفهم، فلاشك أن غالبيتهم عاشته في الصغر، ترتفع حناجر الأطفال بالتلاوة كل حسب الحزب الذي وصل إليه في كتاب الله.
في الخيمة المجاورة، رحى تديره نسوة لإعداد «الدك»، فيما تتصاعد أعمدة الدخان من نار أوقدتها فتاة في مقتبل العمر، غير بعيد من الخيمة، في انتظار انتهاء النساء من طحن الزرع واستخراج الدقيق من الرحى لتبدأ عملية الطبخ.
وأنت تسير في المضارب لا تعدم سماع « ردات من الهول » تصدح بها « تيكيويت »، وقد أسبلت حصيرها والتف حولها عدد من « لمغنيين »، تجود قرائحهم « بكيفان » سريعة حسب ما يقتضيه مسار « الهول»، الذي يخضع لقانون واضح وصارم، لايمكن تجاوزته أو القفز على ترتيبه الذي أقره الاقدمون.
أصوات قرع الطبول، في «قصر افلان »، ليست نشازا في القرية، وتضفي نوعا من الحماس على الأجواء، وأمام كل مسكن (تيكيت)، تعرض النساء نماذج من الصناعة التقليدية المرتبطة أساسا بالبقر، الذي يحتل مكانة معتبرة في حياة « الفلان».
ألوان ملابس نساء الفلان الزاهية، والإكسسوارات والحلي، تلفت أنظار الزوار خاصة القادمين من خارج موريتانيا، حيث يتلقى الزائر من المشرفين على « الكصر» جانبا من الثقافة وطبيعة المجتمع الفلاني.
جولة في المخيم تمكن الزائر من التعرف على على محتويات كل خيمة، وكيف يسير النظام في « لفريك »، والمهمة الموكلة لكل فئة، في صورة مقربة من البيئة الأصلية للبادية التي عاش فيها الإنسان الموريتاني، على مدى قرون من الزمن، وما أفرزته تلك البية من نظام مجتمعي دقيق.
افتتحت «القرية النموذجية» أمام الزوار مساء الجمعة، وزارها مسؤولون حكوميون ودبلوماسيون عرب ومثقفون، لا تخلو ساعة من النهار من قادمين ومغادرين للقرية، التي أصبحت محجا لسكان الطينطان، ورسخت مكانتها في نفوس السكان والزوار منذ افتتاحها قبل عدة سنوات، لتكون وقفة ثابتة في برنامج رواد المدينة.
للأرض والإنسان
يحكي مهرجان الرعاة الدولي، قصة تعلق الانسان بالأرض في منطقة « أفله»، ويرى القائمون عليه أنه موسم ثقافي فني رياضي بيئي، يبرز حياة الموريتانيين القدماء في وسطهم البيئي، ويسلط الضوء على عبقرية الإنسان الموريتاني الذي صنع الجمال وخلق الفن، رغم صعوبة الظروف المناخية وطبيعة حياته التي تعتمد التنقل الدائم.
يقول مدير المهرجان محمد سالم ولد دندو، إن كلمة الرعاة التي اختيرت «كتيمة» للمهرجان، تعني معناها الواسع أي رعاة الثقافة والفن والإبداع والحضارة.
ويضيف ولد دندو في حديث لـ «صحراء ميديا»، تم اختيار منطقة “أفله” لتنظيم المهرجان لأنها زاخرة بالتنوع البيئي والتضاريس الجميلة، ولكونها منطقة رعوية بالأساس، حيث كان الرعي قوام حياة سكانها حتى وقت قريب.
وأشار مدير المهرجان، إلى أن الإنسان الموريتاني هذه المنطقة وفي البلاد عموما، كان يصنع أدواته المنزلية بيده، ويأكل ويلبس من إنتاجه الحيواني والزراعي، وحتى أدوات الحرب كان يصنعها بنفسه، لذلك يعمل مهرجان الرعاة الدولي (فريدي، الطينطان) على تقديم الإنسان البدوي الموريتاني على سجيته، حيث كان صانع جمال وفن وعلم وحضارة، لكونه كان عالما متعلما وصاحب ذوق فني رفيع وعطاء فكري زاخر على الرغم من صعوبة الظروف من حوله أحيانا وحالة التنقل الدائم التي فرضتها عليه ظروف معيشته.
معارض وأهداف
المهرجان الذي تأجلت سهرته الأولى بفعل الأمطار الغزيرة، التي شهدتها مدينة الطينطان، تضم فعالياته المختلفة معرضا للمنتوجات والصناعات التقليدية، الذي شاركت فيه التعاونيات النسوية وهيئات المجتمع المدني القادمة من مختلف بلديات الطينطان.
يقول المدير الفني للمهرجان محمد المصطفى ولد البان، إن «تحضير المعرض وإعداد القرية النموذجية، لم يأخذ جهدا كبيرا، بالمقارنة مع تنظيمه أول مرة، مشيرا إلى أن حجم الثراء الذي تزخر به المنطقة، وتجاوب السكان المحليين والشخصيات الناشطة في المجال ساهم في تسهيل الكثير من الأمور.
وأضاف في حديث لـ « صحراء ميديا »، أن المهرجان يعمل، إحياء التراث المادي والمعنوي للريف، وكسر العزلة الحضارية والثقافية والاقتصادية عن الجنوب الشرقي الموريتاني، وانقاذ البيئة بشقيها الحيواني والنباتي وخاصة الأشجار والنباتات، خلق بيئة سياحية حقيقية لأول مرة في هده المنطقة من الوطن باستغلال الموارد والإمكانات الضخمة الكامنة في الطبيعة والبشر هناك.