تخلد موريتانيا اليوم الخميس، الذكرى الخمسين، لاستقلالها عن منطقة «الإفرنك» الإفريقي، وتأسيس عملتها الوطنية الخاصة بها «الأوقية»، في التاسع والعشرين من يونيو عام 1973 ميلادية.
وأعلن البنك المركزي اليوم، أنه سيتخذ بهذه المناسبة «خطوات هامة خلال الأيام المقبلة تأخذ من رمزية الرقم (50) عنوانا لها في إطار تخليده لمرور 50 سنة على إصدار الأوقية كعملة وطنية».
التأسيس
«ياعملتي.. ياذهبي.. يافضتي.. يامن تسمى الأوقية..» هكذا غنى الفنان الراحل سيداتي ولد آبه لاستقلال موريتانيا عن منطقة الإفرنك الإفريقي، بعد إنشاء الرئيس الراحل المختار ولد داداه عملة محلية، أخذت اسمها من التاريخ المالي الإسلامي والعربي.
قرار الرئيس ولد داداه وصف حينها بالتاريخي والشجاع؛ وشُبه آنذاك بتأميم قناة السويس، ولقي ترحيبا شعبيا واسعا في عموم البلاد، وأقيمت لأجله احتفالات خاصة، دُبجت خلالها قصائد تمجد وتثمن ماسمي بالقرار السيادي الهام.
أحمد ولد داداه كان أول محافظ للبنك المركزي؛ الهيئة التي رأت النور مع ميلاد العملة الموريتانية، يقول في حديث مع خلال تقرير من أرشيف “إذاعة صحراء ميديا”: “الأوقية برزت للوجود يوم التاسع والعشرين من شهر يونيو عام 1973 ميلادية، وشاء القدر أن ذلك اليوم شهد العالم كسوفا، سُمي حينها كسوف القرن، وكتبت جريدة فرنسية تصدر من دكار: كسوف الإفرنك الإفريقي في موريتانيا».
يضيف ولد داداه في التقرير الذي بُثَّ عام 2011، أن إنشاء الأوقية كان «تحديا كبيرا لأن منطقة الإفرنك منطقة كبيرة وقوية، والبلدان التي انفصلت عنها قبل موريتانيا واجهت صعوبات قوية جدا، مثل دولة مالي التي رجعت لمنطقة الإفرنك في آخر المطاف، وغينيا التي عانت كثيرا من هذا القرار، وكذلك توغو، وبعض المراقبين يرون أن اغتيال الرئيس التوغولي سيلفانيس أولومبيو، أواخر الستين، بسبب قراراه الاستقلال عن منطقة الإفرنك».
ربما تحسبا لمثل هذا الاغتيال وذلك الحصار، وتلك الحملة الفرنسية الشعواء، كان على الرئيس ولد داداه أن يتحرك في سرية تامة، وأبلغ بادئ الأمر عددا محدودا من خُلّصه ومقربيه عزمه الخروج من منطقة الإفرنك الإفريقي، وإنشاء عملة وطنية في إطار سيادة الدولة على الإدارة والخروج كليا من عباءة المستعمر.
الرئيس الموريتاني الراحل سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، كان عضوا في الفريق الذي شكله ولد داداه للإشراف على العملية، من موقعه كوزير للاقتصاد آنذاك، وفي هذا السياق قال ولد الشيخ عبد الله في حديث مع “إذاعة صحراء ميديا”: «تبنينا استراتيجية أولها كتمان القرار أشد الكتمان، ثانيا أن لا نسب فيها أحدا ولا ننصب العداء لأي طرف».
ويضيف: «في نطاق الاهتمام بسرية القضية، سافرت مع الرئيس المختار في وفد إلى الجزائر عام 1972، لحضور ذكرى استقلال الجزائر، وحين أراد الرجوع تركني هناك، وأوصاني بالتخفي والتكتم على البقاء، وأجريت بعض الاتصالات مع عدة شخصيات، والتقيت رفقة حمدي ولد مكناس، مع مدير ديوان الرئيس الجزائري هواري بومدين».
يتابع سيدي أنه بعد مغادرة الوفد الموريتاني برئاسة ولد داداه، التقى بشخصيات جزائرية، منها «وزير المالية ووزير الصناعة، ومع وزير الخارجية عبد العزيز بوتفليقة، وحدثتهم في القرار الذي يسعى له الرئيس، وطلبت منهم المساعدة، وهو ما تم بالفعل دون أن يعلم بذلك أي أحد حتى عدت لها مطبوعة، وتم توزيعها في موريتانيا».
يضيف ولد الشيخ عبد الله: «ليلة توزيع العملة كنت في نواذيبو مع حسني ولد ديدي، والي المدنية حينها، ومن شدة فرحنا واهتمامنا بالموضوع بتنا ليلتنا ساهرين حتى الصباح، ندقق الأموال مع العمال الآخرين».
لقي قرار سك العملة المحلية ترحيبا عربيا كبيرا، وبدأت الاستثمارات العربية المتفائلة بغد عربي مستقل لهذا البلد، بدأت الاستثمارات تتدفق على موريتانيا في مختلف المناحي الاقتصادية؛ انتعشت الثروة وزادت مقدرات البلاد من الحديد والسمك وغيرهما، كما بادرت بعض دول الخليج العربي، إلى مساعدة موريتانيا في مجال البنية التحتية، عبر إنشاء مرافق صحية ومراكز إدارية، في العاصمة الفتية وبعض مدن الداخل.
يشير أحمد ولد داداه إلى أن أسعار النفط ارتفعت أربعة أضعاف، و«أصبحت موريتانيا مصبا للاستثمارات والتعاون مع المشرق العربي، وكذلك التجار الموريتانيين بخبرتهم الطويلة في التجارة، والتجار الموجودين حينها كانت أموالهم وأرباحهم، يصرفونها كلها في موريتانيا، هذه العناصر مجتمعة جعلت من تجربة موريتانيا فريدة في غرب إفريقيا».
ونبه ولد داداه إلى أن من نظر في نسب النمو الاقتصادي «يجد أن هذه الحقبة من الزمن، أي ما بين 1971 – 1975، كانت نسبة النمو فيها من أكبر النسب التي عرفتها موريتانيا منذ استقلالها».
وزير المالية الأسبق مولاي محمد ولد مولاي ادخيل، يرى أن الأوقية استطاعت الصمود في وجه تحديات قوية ومصاعب جمة، دفعت بدول أخرى إلى التراجع عن هذا القرار السيادي.
يقول ولد مولاي ادخيل لـ «إذاعة صحراء ميديا»: «الحديد حين كانت تباع عائداته تتجه مباشرة إلى فرنسا، وكذلك السمك، وفرنسا هي من كانت تعطينا النسبة التي تحددها هي، وهذا لم يقبله الرئيس مختار، وقرر إنشاء عملة وطنية».
يضيف ولد مولاي ادخيل أنه قبل الاستقلال عن الإفرنك الإفريقي، كانت «مشتريات الموريتانيين كلها من فرنسا، وبعد إنشاء الأوقية تغيرت الوضعية، وأصبح بالإمكان اقتناء كل شيء من خارج السوق الفرنسي».
البنك المركزي الوليد حقق نتائج اقتصادية كبيرة وتمكن من تقديم قروض ميسرة لعدد من تجار البلاد.
يتذكر الراحل سيدي ولد الشيخ عبد الله احتفالا «بهيجا قمنا به نحن الموريتانيون، بمناسبة منح أول قرض تبناه البنك المركزي، أعطي لتاجر في نوذايبو، وهذا يعني أن البنك لم يكن يساهم في تمويل الاقتصاد، ماعدا المؤسسات الكبرى».
كان الرئيس ولد داداه يعي جيدا حساسية الخطوة لدى الأفارقة لذا قرر الاستناد في قراره على إخوته العرب.
«كان سيدي ولد الشيخ عبد الله حين ذلك وزيرا للمالية، وحين صدرت الأوقية، أرسلناه للرئيس الليبي معمر القذافي، وسأله القذافي كم تريد، أجابه سيدي نريد ما يكفينا من حاجيتنا من الخارج.. لم يقل القذافي شيئا ولم يقله سيدي، لكن جاءنا بما يكفينا لمدة ثلاثة أعوام»، هكذا يستحضر ولد مولاي ادخيل.
الحرب
غير أن الانتشاء بهذا النصر السيادي لم يعمر طويلا، ففي أوج حرب الصحراء، أغرقت الجزائر السوق الموريتاني بأوراق نقدية مزورة من العملة الجديدة، واستخدمت هذه الورقة كضغط على الحكومة الموريتانية التي لم تجد من حل سوى توقيع اتفاق مع الحكومة الألمانية، يتم بموجبه سك العملة في مكان بعيد عن الجارة.
رجل الأعمال حمي ولد الطنجي، عايش المرحلة، قال في حديث مع «صحراء ميديا»: «حين اندلعت حرب الصحراء لم تعد الجزائر راضية عن موريتانيا، وقررت رفع يدها عن ضمان الأوقية، ولهذا ضمن الألمان البعض منها والبعض الآخر ضمنته فرنسا، وبقيت الأوقية وزادت قوتها، حتى سميت الدولار الإفريقي».
التحديث
على مدى عقود تغير شكل الأوقية أكثر من مرة، وظلت طريقة الحساب واحدة، كما صدرت عدة فئات ورقية ونقدية، إلا أن التحديث الأخير الذي أجري فاتح يناير عام 2018، كان هو الأكبر في تاريخ العملة.
لقد تم بموجب التعديل الأخير، تغيير قاعدة العملة الوطنية، وذلك وفق القاعدة من 10 إلى 01، في خطوة غيّرت شكل الأوقية وطريقة حسابها بقاعدة حذف الصفر.
وتغير بموجب هذا الإصدار، شكل الأوراق النقدية بصفة عامة، كما تم استحداث فئات جديدة، مثل ورقة عشرة آلاف و استصدار فئة «100» و «200» قطعا نحاسية، والإبقاء على ورقة 200.
وانتقلت الأوقية من الاعتماد على الورق، إلى استخدام تقنية البوليمير، الأكثر مواءمة للبيئة والأقل قابلية للتزوير.