نواكشوط ـ الربيع ولد ادوم
أسدل الليل أستاره على أحد الأحياء الفقيرة في مقاطعة الميناء بنواكشوط.. لا شيئ يقطع هدوء الليل إلا صوت منبعث من إحدى الحفلات الليلية التي يقيمها L’enfant de la rue “ابن الشارع”.
أصبح المروج السابق للمخدرات ورئيس العصابة، أشهر مغن للهيب هوب في موريتانيا.. ملهما لمئات من أبناء الشارع بأن يحولوا غضبهم على الحياة إلى فن جميل وإبداع تتجاوب مع أنغامه أجيال بأكملها في عاصمة موريتانيا.
الشاب النحيل الأسود، واسمه الحقيقي ممدو انجاي، هو أحد الأمثلة المتجسدة على قدرة الإنسان على تحدي واقعه وظروفه الصعبة ليتحول إلى نجم شعبي تتعلق به قلوب المعجبين وهو يخطوا خطواته الأولى إلى تسجيل البوم غنائي يحمل توقيعه لأول مرة، معلنا القطيعة بين الماضي والحاضر.. ومتأهبا لصناعة مستقبل يقول عنه صديق العمر ومكتشف النجوم “مونزا” انه سيكون مبهرا وسيتخطى كل التوقعات..
في بهو مقهى المركز الثقافي الفرنسي، الذي تحول إلى ملجأ لفناني الهيب هوب بضفائرهم الطويلة وملابسهم الملفتة وعبثيتهم في الحياة.. يجد طفل الشارع مكانه المناسب.. هنا يغفر الفرنسيون ذنوب أبناء الشارع وينظرون بعمق إلى مواهبهم.. يجلس خريج السجون وحياة الضياع.. بوجهه الذي خلا من الابتسامة، يحمل على كتفيه سنين الضياع وأحلام المستقبل، يسترشد بمسيرته الطويلة في معترك الحياة ليطلق حكمته التي خرج بها من السجن “ما أجمل الحق”.
ولد في الصين.. واحتضنته شوارع نواكشوط
في أحد مستشفيات العاصمة الصينية بيكين عام 1985 استقبلت احدى الممرضات الصينيات أول مولود اسود في حياتها.. أمه هي ميمون ووالده مهاجر إفريقي حمله طلب البحث عن لقمة العيش الى بيكين.. لا يحب ممدو ان يتحدث كثيرا عن علاقة والديه، فهو الذي لم يتعرف على والده، كان قدره ان يأتي برفقة والدته بعد ثلاثة أشهر من مولده الى موريتانيا.. ولأسباب ما –لا يحب الفنان الحديث عنها- وجد نفسه في الشارع..!
لا يتذكر الكثير من طفولته.. لكنه يذكر ان السنة الأولى ابتدائية كانت في مقاطعة الميناء – المدرسة رقم 10 عام 1992 وان معلمته كان اسمها فاطمة، يبتسم الفنان (كنت سيئا في المدرسة ورغم ذلك نجحت في السنة الأولى..).
لكن افتتاح العام الدراسي الجديد في 1993 لم يكن يعني له شيئا، كان قد وجد طريقه الى الشارع، فرغم انه في تلك الفترة كان طالب قرآن الا انه أصبح معروفا في منطقته من بين كل الصبية كشخص خطير يمكنه الفتك بأي طفل في عمره.. كان كثير الشجار، ولا يخلو جسمه من جروح غائرة بسبب معارك الشارع.
هنالك صبي واحد من شلته –اصبح فيما بعد رجل دين ودعوة- كان يحبه كثيرا وينصحه بشكل دائم.. لكن الفنان المتميز كان لحظتها يفقد الوعي في معارك العصابات الصغيرة في الشوارع دون رحمة.. ينام في محلات الفيديو ومكبات النفايات والأسواق.. ويستيقظ صباحا ليبول غير بعيد من مكان مبيته ويواصل رحلته في الدنيا الواسعة الرحبة ويكسب قوته من ذراعه حيث القمار والحرابة والسرقة.. يبدو الكاتب المغربي محمد شكري حاضرا في خبزه الحافي حيث التشرد والنكبة الشخصية المريرة وان اختلفت بعض التفاصيل في ذهن الطفل الشريد..
انها كاريزما الزعيم الصيني ماو تسي تونغ يبدو انها تطارد الطفل الافريقي في شوارع نواكشوط : “ان الشخص الذي له يدان يمكنه ان يملأ فمه بسهولة” ربما ترجم الطفل كلام الزعيم على غير ما اريد به.. “لكن المنطق يعمل في اماكن اخرى غير الشارع” يقول ممدو.. كان يمكن لشيوعية الصين ان تسعف الطفل الذي اغرقته رأسمالية موريتانيا المتدينة.
كبر الطفل وكبرت الجريمة في عقله وتدربت يداه اكثر على الخطف والنشل والضرب.. وبدأت قصة البيوت المؤجرة.. يبتسم طفل الشارع ويعود بذاكرته الى أيام الفوضى في اقوى تجلياتها: ليس هنالك احترام للدين ولا للقانون ولا للأعراف: “قلادة في عنقي.. وكر مؤجرة، وفتيات منحرفات ليل نهار، وسيجارة في فمي.. وبدأت في تأسيس عصابتي الخاصة، وصلت أحيانا الى عشرين فردا، يقومون بأعمال لا تخطر على بال أحد، فلا محل لإعراب كلمات اسمها القانون والعرف والقيم”.
يتنهد صاحب التجربة الكبيرة في الأزقة والشوارع قبل ان يقول: “15 عاما في الشارع تساوي تجربة 40 عاما، يمكنك ان ترى كل شيئ وان تتعامل مع كل شيئ وان تحضر مواقف لا تتناسب مع سنك.. الشارع يحولك الى إنسان يعتمد على الغريزة والرغبة.. ويلهمك الشر”.
تجربة السجون المرة..
في عمر الخامسة عشر.. يشعر ممادو بالكبرياء.. انه في منعة من أصدقائه.. فهو فتى الميناء الذي لا يمكن كسر شوكته في حي فقير يضج بالمشردين و”ابناء الدنيا”.. أصبح زعيم العصابة مدمنا على الحفلات: “كانت الأفراح الجماعية تشكل جزءا جديدا من حياتي”.. بدا واضحا ان الطفل الذي عاش وحيدا بلا حضن يأوي اليه يبحث في عمقه عن الفرح الجماعي بكل إرادته.. وكان يريد ما ينفق به على هذه الحفلات.
ذات يوم من العام 2000 قرر الاعتداء على منزل.. وكان مقررا حسب أبن الشارع ان يتم السطو ليلا وسرقة ما خف وزنه وغلا ثمنه.. ونجح الصعلوك الفنان مع 13 من أفراد عصابته في أول تجربة: “كنت فنانا حتى في السطو”، وكان الضحية ضابطا في الجيش.. .
لكن شرطة نواكشوط كانت قد أسست خلية متابعة ورصدت خريطة الإجرام في نواكشوط عام 1998 ولم يكلفها الإمساك بلص متدرب اكثر من يومين، حيث القي القبض على عصابة من الأطفال يقودها ابن شارع مهووس بالفرح، وتمت إحالته الى سجن بيلا (إصلاحية العقاب والتأهيل الخاصة بالقصر في نواكشوط).
عن تلك التجربة -يحكي ممادو- تجربته الأولى مع الشرطة والتي أصبحت تفاصيلها اليوم مكتوبة في أغانيه التي تلهب التعاطف لدى معجبيه: “الشرطي ينهرك كأنك كلب أجرب.. يقيدك بالحديد ويأمرك بالتحرك دونما شفقة.. لا تحزن كثيرا انه ليس أمك.. فأنت ابن الشارع.. الشارع أمك.. الشارع اهلك”.
هناك يقول امادو: لا يوجد احترام للإنسان، كنا ننام في زحمة غريبة حيث يتكدس قرابة 20 طفلا في زنزانة واحدة.. بعض الأطفال يغتصبون بعضهم، والحراس من العسكريين يغتصبون الأطفال أحيانا.. كانت الوضعية صعبة بشكل لا يصدق.. تعرفت على بعض الأطفال ممن اغتصبوا أو سرقوا أو نشلوا.. كانوا كلهم ابناء شوارع يخوضون حياتهم في ظلام، قليلون منهم كانوا ابناء عائلات معروفة.. أحببت معلم القرآن وكان يحبني مع سجينين آخرين وكان أحيانا يجلب لنا بعض الحاجيات وينصحنا كثيرا.
بعد ثلاثة أشهر خرج ابن الشارع.. كان خروجه اغرب من دخوله: “فتحوا عني باب السجن وأمروني بالخروج.. كان صعبا ان تخرج هكذا.. تنتابك مشاعر فرح للحرية.. تماما كما تعتصرك آلام الضياع.. الشارع في انتظارك والدنيا لم تتغير..).
ويتابع فنان الهيب هوب: عدت الى والدتي في الميناء.. بعض أصدقائي دخلوا الجيش وبعضهم سافر.. وبدأت في نسج علاقات جديدة مع من بقي من أصدقائي بالإضافة الى أصدقاء آخرين.
في عام 2006 بدأ ابن الشارع يهتم اكثر بالموسيقى، موسيقى الراب تحديدا، بدأ يغني بهوس غير مسبوق: (كنت احتاج المال أيضا.. موسيقى الهيب هوب هي موسيقى شعبية جميلة لكن الذين يستمعون إليك في البداية هم أبناء شارع مثلك، يجب عليك ان تقيم الكثير من حفلات الغناء حتى تصبح معروفا.. لذلك قررت دخول عالم المخدرات، كان الأمر يحتاج الى نوع من الجرأة، انه عالم متشابك جدا، يعمل فيه مسؤولون أمنيون ورجال شرطة وأجانب وموريتانيون.. طيلة عام كامل كنت اجني مالا كثيرا انفق به على موسيقاي حيث اشتهرت وأصبحت معروفا.. أصبح لي جمهور كبير وأين ما ذهبت كان الناس يصرحون “L’enfant de la rue“ وأصبح عشرات من أطفال الشارع يأتون الى بيتي ويطلبون ان أعلمهم الموسيقى، كنت أعلمهم وأساعدهم بحكم تجربتي، كنت ارى فيهم نفسي حين كنت صغيرا، طفل صغير بلا مأوى تطحنه الحياة وينحرف مع مرور الوقت.
كانت مضايقات الشرطة تدفعني للغناء، كانوا يتعاملون بوحشية مع حفلاتي ويكسرون آلاتنا ويفرقون الجمهور.. وكنت دائما احكي عن حقوق الإنسان وأحلام الفقراء والبؤساء، أنا بطبيعتي أحب الأطفال كثيرا.
“في العام 2008 القي القبض على ابن الشارع بسبب ترويج المخدرات: ( نقلت الى سجن “دار النعيم”.. ان الاسم يعني “الجنة” لكن الواقع ليس كذلك، فقد وجدت نفسي في جناح اليسار في ذالك المعتقل سيئ السمعة، شهدت تلك الفوضى العارمة، وانتهاك حقوق الإنسان، كان جميع المساجين يحترمونني كفنان وبعضهم ينتقل من جناح في السجن ليبراني ويطلب توقيعي على قبعته او قميصه او مكان ما في جسده”.
في تلك المرحلة القاسية من حياته صدح صوت ابن الشارع ليبث السعادة في اكثر من 15 سجينا محكوما عليه ب”الإعدام”، غنى لهم عن الحياة القاسية وعن قدرة الإنسان على التحمل، كان المساجين يطرقون زنزانته ليلا ليطلبوا منه ان يغني لهم، وفي الصباح كانوا يلتفون حوله، حيث يغني بدون مكبرات الصوت وبدون آلات موسيقية.
شهد الفنان -كما يقول- كثيرا العنف وحالات الاغتصاب المتكررة التي تحدث بين السجناء، واستاء من الوضع جدا وطالب عبر أغنية من داخل زنزانته حرس السجن ان يغيروا تعاملهم مع المساجين، ومن إدارة السجن بان تقوم بواجبها لتنظيم حياة هؤلاء الناس.
يعتقد الصديق المقرب من ابن الشارع WALA NGUAN MAN ان حياة ابن الشارع هي نموذج حي لمئات الأطفال الذين يعيشون في نفس الظروف في موريتانيا.. صديق ابن الشارع هو أيضا غريب في هذا العالم واسمه يعني بالفصحى: (هل أنا رجل أم جدول ماء) ويعلق على ذلك بالقول: نحن ابناء الحياة.. مهمتنا ان نطرح الأسئلة، فانا مثلا اسمي عبارة عن سؤال.. وعليك دائما ان تتساءل عن الأشياء من حولك.. هذه هي روح الهيب هوب.
الغريب المخلص..
قضى ممدو شهرين في ذلك السجن ليخرج من سجنه أيضا بلا عمل.. ولا أمل.. لكن كما كان رجل الدين محمد آليغا هو الغريب المخلص لمالكوم اكس الذي أصبح في ما بعد ناشطا حقوقيا مرموقا بالولايات المتحدة الامريكية في واحدة من أروع قصص البشرية في العصر الحديث.. جاء “مونزا” لينقذ ابن الشارع.. لقد انتظر الفتي 16 عاما من الضياع حتى جاء مونزا مبشرا بأمل جديد وحياة اكثر وضوحا..
مونزا هو مكتشف نجوم يلقب بـ “رئيس أبناء الشارع وصاحب الروح العظيمة”.. كانت كلماته القوية كفيلة بتغيير ممادو بالكامل، تغيرت رؤيته للأشياء.. ودخل في الغناء مجددا ليحارب واقعه بالصرخة الإفريقية المعروفة في فن الهيب هوب..
ظهر ابن الشارع في واحدة من أهم الحفلات الى جانب فنانين عالميين، واستقبل الجمهور صوته وكلماته التي ترصد حياته المفعمة بالضياع بكثير من الترحاب.
المنتج الشاب مونزا هو من الفنانين الاوائل الذين غنوا في اروبا وهو ركن في الثلاثية المشهورة (مونزا- ارابا- جامين تيكي) حيث تعرف على الكثير من الفنانين الكبار من أمثال تينيزيانو -سيفيو موكوبي- كيري جيمس- سوبرانو- سينيك – لافوين- وآخرين.
واليوم اصبح مونزا فنان له طريقته المتميزة وهو يعرف جيدا كيف يشعر ابن شارع مثل ممادو لأنه هو الآخر ابن شارع.. وهو ناشط حقوقي حيث انتج أول ترجمة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان بالبولارية وغنى في جنيف حول حقوق الإنسان في نفس العام الذي كان فيه ابن الشارع يعيش سجنه السيئ.
ومونزا يعرف تعامل الشرطة مع ابناء الشارع من الفنانين “ففي يونيو 2004 كان يعد لإطلاق احتفالية كبيرة في كيهيدي قبل ان تعتقله الشرطة بعنف وتوقف نشاطه الثقافي وتضع القيود الحديدية في يديه”.
في الفترة ما بين 17-21 مايو الماضي كان مونزا وابن الشارع امام تجربة مهمة لكليهما، فمونزا كان عليه انجاز مهرجانه المهم “السلام عليكم” الذي استضاف فرقا موسيقية من اسبانيا وفرنسا والسويس والنيجر والكاب فير ودول اخرى.. وابن الشارع كان عليه ان يثبت قدرته في الأداء امام محترفين لهم شهرتهم في ارجاء العالم حيث لقي المهرجان نجاحا كبيرا وملفتا للانتباه مهد لمهرجان يتم الترتيب له الان بعنوان “عليكم بالسلام” سيتم تنظيمه في 2012 يفترض ان يحضره (ماني ديبانغو – كاميرون .. ساليف كيتا مالي.. إليسا- لبنان اضافة الى عشرات الفنانين العالميين كما سيفتح المهرجان المشاركات امام فنانين تشكيليين ونحاتين والمصورين.. الخ).
اليوم يجلس الاثنان في المركز الثقافي الفرنسي.. يدخنان المالبورو الحمراء.. ويعتبر ابن الشارع الذي يخوض اليوم غمار ربيعه الخامس والعشرين ان مونزا هو شقيقه الأكبر وانه وضعه على الطريق الصحيح بعيدا عن المخدرات والعصابات.. ويعتبر مونزا ان مستقبل ابن الشارع سيكون استثنائيا بكل المقاييس.