يعتبر تصحيح المنطلقات في إطار التعاون مع مؤسسات وهيئات التمويل الخارجية الدولية أول تحدي يواجه موريتانيا في عهدها الجديد خاصة وأن الجميع يعلم أن القواعد والمنطلقات والضوابط والخلفيات التي كانت تمنح وتسير علي أساسهما تلك القروض كانت محكومة بقوة ومصلحة الجهة المانحة بالدرجة الأولى ،والتساؤلات المطروحة الآن ونحن على أبواب لقاء ابروكسل هي :
ـ هل سيتمكن نظام عزيز في لقاء ابروكسل من الحصول على التمويلات في ظل تصحيح المنطلقات وتجنب الأخطاء الكبيرة التي ارتكبت مع الممولين في عهد الرئيسين :
ـ الرئيس الراحل المرحوم المختار ولد داداه (1960 ـ 1978 )
ـ الرئيس السابق معاوية ولد الطايع (1984 ـ 2005
ـ وهل ستصل تداعيات عدم كسب النظام لهذا اللقاء إلي درجة انهيار وإفلاس الدولة كما يتصور البعض ؟
تساؤلات أثيرها في وجه الاهتمام الحالي الذي يحظى به لقاء ابروكسل المرتقب من طرف الساسة والمثقفين والمهتمين بالشأن العام في موريتانيا ،هذا اللقاء الأول من نوعه مع الجهات الدولية المانحة بعد انقلاب 6 أغشت 2008 ، وبعد تصريح الممولون باستعادة موريتانيا لثقتها لدي الممولين والهيئات المالية الدولية بعد انتخابات 18 يوليو 2009 ،هذا وان انقسمت الرؤى في تقدير النتائج التي قد تترتب علي هذا اللقاء بين أغلبية حاكمة تطمح لكسب اللقاء ومعارضة جادة في العمل للتعقيد من المهمة والإصرار علي تفويت الفرصة ، والذي ثار اهتمامي هنا وجعلني أسلط الضوء علي تجربتنا في التعامل مع التمويلات الأجنبية خلال العقود الماضية هو أن بعض الساسة والمثقفين ينتظر نتيجة اللقاء ويتمني أن تخسر موريتانيا هذا الاجتماع معتقدا و مراهنا علي أن الأموال المنتظر من الممولين يتوقف عليها مصير النظام الحالي ، وفي الحقيقة أنا أعتبر أن أصحاب ذلك الطرح أ وتلك الأمنية يبالغون إلي حد كبير،بل يخطئون التقدير بالاحتكام إلي النتائج التي اكتسبها الشعب الموريتاني مقابل الاستنزاف الفاحش لخيرات وقدراته ، ولا يعني ذلك أن التمويلات الأجنبية ليست ضرورية لدعم العملية التنموية في كل بلد ،لكن المشكل المطروح بالنسبة لبلدنا منذ الاستقلال وإلي اليوم هو الإرادة السياسية الجادة والصادقة والعارفة بأن هذه القروض أو التمويلات الأجنبية إذا لم تكن موجهة حسب حاجيات الدولة ومتطلبات التنمية فيها فإنها لن تكون في الوقت الحالي كما كان في السابق إلا مرتعا لأصحاب الجيوب وخلق لمزيد من واقع التبعية ، وأما في المستقبل فهي بمثابة سلاح علي رقاب حكام الدولة لإذلالها وإخضاعها بشكل دائم للإملاءات التي لا تخدم سوى المصالح الأجنبية ،وبالتالي فهذه التمويلات قد لا تعني كل شيء بالنسبة للمؤمنين بضرورة البناء مادامت علي ذلك المنحى.
وعلي أساس ما فهمته وما قرأته في تصريحات ومقابلات بعض ساستنا المتابعين للشأن العام من أنهم ينظرون إلي لقاء ابروكسل وكأنه المحدد الرئيسي لمستقبل البلد ، وفي اعتقادهم أنه في حال فشل موريتانيا في الحصول علي ما تريده في هذا الاجتماع فإن الدولة ستنهار وتفلس ،بتلك المناسبة أردت أن أقول لأصحاب ذلك الطرح المبالغ في تقديرا لقروض الأجنبية وكأنها شرط لعملية التنمية، أن تجربة حكام موريتانيا مع أغلب الجهات المانحة واضحة للعيان ونتائجها لم تكن يوما مصدر تقدير ولافخر، بل تستدعي القول الآن و من الجميع أن التعاطي مع القروض الأجنبية وفق نفس المقاييس والشروط والاعتبارات التقليدية السابقة لهذه المرحلة (لقاء ابروكسل المرتقب ) مسألة مثيرة للقلق ، وعلي الرئيس محمد ولد عبد العزيز أن يدرك أن القروض المشروطة والفوائد المرتفعة هي المدخل الأكيد لإذلال الشعوب وتهجين القيادات ، وبالتالي علي موريتانيا في عهده أن تصحح المنطلقات مع الأجنبي أيا كان حتى لا تقع في الأخطاء المميته التي وقع فيها حكامها السابقون ، علي موريتانيا أن لا تقبل تحت أي ضغط الانصياع لاتفاقيات مجحفة لا تأخذ في الاعتبار دعم وتعبئة الموارد المحلية وتنمية القطاع الريفي والاهتمام بالكادر البشري الموريتاني علي طريق تهيئة تنمية منسجمة ومتناسقة تمهد لبناء اقتصادي غير مشوه ،وللتذكير فإن إهمال هذه الأبعاد في عهد الرئيس الراحل المرحوم المختار ولد داداه ،ونظام الرئيس السابق معاوية ولد الطيع هو ما تسبب في واقع موريتانيا المالي والاقتصادي الحالي (دولة مهزومة ،مكبلة باتفاقيات هزيلة ، يعاني شعبها الفقر والتخلف، لا لشيء إلا بسبب تبني تلك الأنظمة لسياسات تابعة غير مقنعة أوقعت البلد في شباك المديونية وأوحال الالتزامات الدولية ) ولكي لا يكون كلامي فيما يتعلق بالتمويلات الأجنبية وكونها لا تعني أكثر مما يجب بالنسبة للمؤمنين بضرورة البناء ، وفشل قادة العهود السابقة (1960ـ 2005 ) في إدارة التمويلات الأجنبية الهائلة لصالح التنمية ، وعدم انتظار الموريتانيين لأي فائدة منها في المستقبل ، ما لم يحرص النظام الحالي علي تجنب الأخطاء التي ارتكبت خلال أطول نظامين عرفتهما البلاد ،أقول كي لا يكون كلامي مجرد كلام غير مؤسس،وعلي اعتبار أني لم أكتب نهائيا لغرض المس من مرحلة بذاتها وإنما تجسيدا لقناعتي في ضرورة أخذ العبر من التجارب السابقة خاصة وأننا الآن نعيش مرحلة جديدة تتطلب من الجميع تقديم رؤى وتحاليل نقدية للواقع الاقتصادي بالدليل والحجة لا من باب التمجيد الأعمى وتضليل الرأي العام ، وعلي خلفية أن هذا الشعب عانى كثيرا من تجارب الماضي ولانريد أن تظل القروض والتمويلات الأجنبية كما كان في السابق مصدرا لخنوعه ومذلته وسلب هويته ،اعتبارا لكل ذلك ، سأعرض بعض النتائج التي أوصلنا إليها التعامل مع جل الهيئات المانحة الأجنبية خلال العهود الماضية ،ولأوضح للذين يراهنون علي انهيار الدولة ما لم تحصل تمويلات ابروكسل أن تجربتنا في هذا المجال سيئة للغاية لدرجة أني أعتبر وبالاحتكام إلي الوقائع الاقتصادية أن محصلتها النهائية هي المسؤولة عن واقع التخلف الهيكلي وعدم الاستقرار السياسي .
وفي هذا السياق وسعيا لذلك الغرض أأكد علي أني أتفهم إلي حد ما رأي الذين يقولون بأن موريتانيا انطلقت في معركتها التنموية من الصفر تقريبا بالمقارنة مع غيرها من الدول التي كانت مستعمرة، لكن الكثيرين معي في أن موريتانيا أيام الاستقلال كانت تمتلك قدرات لايستهان بها وقابلة للتعبئة والتطوير،لكن الخيارات التي حددها جهاز التخطيط في البلد و في جميع الخطط الاقتصادية ابتداء من أول خطة (1963ـ 1966) وعلي التوالي حتى أواخر السبعينات هي خيارات تدعو للريبة ،نظرا لعدم الواقعية، لذلك أسست الأخطاء التي ارتكبت آن ذاك لأزمات متلاحقة كان من الممكن عدم حدوثها لو اعتبرت خصوصية البلد الزراعية والرعوية وأعطيت الأولوية لتعبئة قدراته المحلية في أول خطة تنموية وذلك بتخصيص جزء من تلك القروض الأجنبية لدعم القدرات ا لريفية ، وإذا كانت موريتانيا آنذاك بحاجة إلي التمويلات الأجنبية لكنها بحاجة إليها لتوجه لتعبئة ما هو موجود أولا وبناء ما هو مطلوب تدريجيا ويبقي الإشكال هنا مطروح هل هذه التمويلات أعطيت فعلا لتستغل في ما من شأنه أن يعزز الاستقلال الاقتصادي للبلد وبالتالي مزيد من الاستقلال السياسي ؟ أم أنها قروض مشروطة في الأصل ولها أهدافها الخلفية ؟، و في هذا المقام تحديدا أذكر أن موريتانيا اعتمدت علي التمويلات الخارجية خلال هذه الفترة (حكم الرئيس المرحوم المختار ولد داداه ) بنسبة وصلت في المتوسط إلي ثمانون في المائة في حين أن هذه التمويلات لم يوجه منها إلي القطاع الريفي سوي نسبة (13 إلي 14 )في المائة للقطاع الريفي لأن جهاز التخطيط تبني إستراتيجية الطفرة ،بدلا من إستراتيجية التدرج الأنسب والأكثر جدوائية ، وجعل من موريتانيا مستودعا لتزويد أوروبا بالمواد الأولية اللازمة آنذاك وذلك علي حساب تمويل التنمية المنسجمة والمستوي البيئي والاقتصادي والاجتماعي للبد ، وهذا ما أوقع البلد مع الوقت وبالإضافة إلي عوامل أخرى طبعا في وضع صعب حيث وصلت المديونية نسبة 153 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي وارتفعت نسبة التضخم إلي 21 في المائة ، وفي الأخير وصلت البلاد أواخر السبعينات إلي طريق شبه مسدود أصبحت فيه الدولة عاجزة عن تلبية ابسط ما هو مطلوب منها ، وهنا دخلت موريتانيا مرحلة من التنافس علي السلطة بالقوة حيث لم يستقر لها حال إلي أن جاء نظام 1984 الذي حاول الخروج بموريتانيا من أزمتها الخانقة فارتمى في أحضان مؤسسات البنك وصندوق النقد الدوليين (أدوات الهيمنة الاقتصادية) ، وبالتالي انتقلت مشكلة موريتانيا مع الديون الخارجية من مشكلة عامة إلي مشكلة هيكلية تحكمها اتفاقيات بموجبها تمت صياغة موريتانيا حسب مزاج مؤسسات ابريتون وودز اتفاقيات بدأت ببرنامج التقويم الاقتصادي (1985 ـ 1988) برنامج الدعم والدفع وبرنامج (1989 ـ 1991 ) وبرنامج التصحيح الهيكلي (1992 ـ 1995 ) لتبدأ بعد ذلك وثائق إطارية تعد سنويا بالتعاون مع البنك الدولي في موريتانيا ، ثم الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفقر، كل الوصفات العلاجية من منظور البنك وصندوق النقد الدوليين اعتمدت ونفذت ،لكن الحق أقول إنها في المحصلة النهائية أيضا لم تكن إلا مجموعة من القيود والضوابط والشروط التي جعلت البلد حبيس لإملاءات مضرة باقتصاد البلد ـ مثلا ـ إعادة هيكلة المشروعات المملوكة من قبل الدولة وتنصيب رأس المال الخاص كفاعل رئيسي في عملية النمو الاقتصادي وإعلاء شأن الربح كحافز أساسي وإذا كان المقام لا يتسع لعرض مضامين تلك البرامج إلا أن آثارها كانت عميقة علي الشعب حيث أضرت بفئات واسعة منه،، خصوصا محدودي الدخل الفقراء ،وحرمت الكثير من فرص العمل وحوصرا لإنفاق علي السلع الجماعية (التعليم والصحة …) وارتفعت تكلفة الحيات وكان الفشل حليف هذه البرامج في كل المراحل وعلي كل المستويات وكانت المحصلة أيضا هي حالة من الشلل الاقتصادي وتراكم الديون وأعباء الديون وتوجه البلد بفعل الضغط الداخلي والعجز الخارجي لحالة من عدم الاستقرار السياسي فرض من جديد تدخل العسكريين سنة 2005 لإنقاذ البلد وكأن موريتانيا محكوم عليها بالدوران في هذه الحلقة المفرغة بفعل استسلام قادتها بعدما أغرقوا بالتمويلات الأجنبية المشروطة .
وإذا كانت هذه هي نتائج تجربتنا مع الهيئات الدولية المانحة علي مدي أزيد من أربعة عقود من الزمن ـ وكما تعلمون لم نجني منها خيرا ـ فعلي الجميع أن يدرك أنه حان الوقت أن يعترف الممولون من جهتهم بالخطأ في التشخيص و عدم واقعية ولا ملائمة العلاج الذي يقترحونه لحل مشاكلنا التنموية ،وبالتالي ضرورة تحديد ضوابط ليست تلك التقليدية التي كانت علي حسابنا ، وعلي ساستنا ومثقفينا خاصة ألائك المبالغين في تقدير كلما هو أجنبي أن يفهموا أن التمويلات الأجنبية أثبتت التجربة أنها مجرد وسيلة إضافية مكملة بل لا تعني في الغالب وفي عالمنا اليوم أكثر من دعم الدكتاتورية وحكم الفرد إذا لم تحظي الدولة بإرادة سياسية قوية تراعي مصالح الشعب وتخطط لأجله ، وفي تقديري أن هذه فرصت موريتانيا بعد كل تلك التجارب الفاشلة وبعد ما صرح الممولون في تقاريرهم عن أن انتخابات 2009 سمحت لموريتانيا بالعودة إلي الحيات الدستورية،واستعادة موريتانيا لثقتها لدي الممولين والهيئات المالية الدولية .إذن لم يبقي في اعتقادي وتقديري إلا أن يحرص الرئيس محمد ولد عبد العزيز علي تفادي الأخطاء التي أوقعت سابقيه فيما يتعلق بتعاملهم مع الجهات الدولية المانحة ،ومع الضوابط والخلفيات التي ستحكم توجيه استغلال تلك القروض، خاصة في اجتماع ابروكسل المرتقب علي اعتبار انه يمثل بداية مرحلة جديدة يجب أن تأخذ في الاعتبار متطلبات البناء حسب المقاييس الوطنية ، حينها ستشكل تلك الأموال حال حصولها مكسبا إضافيا يعزز من الجهود المبذولة للبناء ،وسيتمكن نظام 18 يوليو من تجنب تكرار أخطاء الماضي وبالتالي تجاوز احراجات و عقبات المستقبل.