من وجهة نظر منهجية تمكن مقاربة هذا الموضوع من خلال استقراء كل من عناصره المكونة على حدة مع تبيان العلاقة الجدلية القائمة بين تلكم العناصر وكيفية إسهامها مجتمعة في خلق ديناميكية مفضية إلى تغير مضطرد وتطور تصاعدي.
والعناصر المكونة للموضوع هي: “واقع الصحافة” “آفاق الصحافة” و “المجتمع الديمقراطي”.
وفي إطار السياقات الشمولية غلبا ما تكون الصحافة مستتعبة ومسخرة للترويج للأنظمة القائمة ولتلميع صورتها وتبرير سياساتها الداخلية والخارجية والدفاع عن اديولوجياتها ونظرتها للوجود.
وفي كلتا الحالتين فإن الوظيفة المناطة بالصحافة والدور الموكل إليها يتمثلان أساسا في العمل على نشر الأفكار وترسيخ القيم وتعميق الإيمان بجدوائية وصلاحية النظام القائم والمؤسسات التي يرتكز عليها والسلم القيمي الذي يفرزه سعيا إلى تثبيت وتأبيد ذلك النظام ديمقراطيا كان أم تسلطيا.
وأما العنصر الثاني من عناصر الموضوع الذي هو “آفاق الصحافة” فيجب النظر إليه في ضوء العولمة والتحولات العميقة المواكبة لها.
فهذا النظام الذي يكتسح العالم اليوم نظام قائم على اللبرالية المتوحشة التي تسعى إلى تحقيق أكبر ربح ممكن في أقصر وقت متاح وبأية وسيلة كانت ولو اقتضى ذلك سحق الشعوب وتقويض الأمم واضمحلال الحضارات بل وتهديد وجود كوكب الأرض بكامله.
هذا النظام ما كان ليصبح ممكنا لولى الثورة الرقمية الهائلة والانفجار المذهل لوسائل الإعلام والاتصال التي عرفها العالم منذ العشريات الأخيرة من القرن المنصرم. فالاكتشافات العلمية والاختراعات التكنولوجية والتطور الغير مسبوق لوسائط الإعلام والاتصال المستعملة اليوم قد أفضت إلى تحولات جذرية ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وفكرية وسياسية آخذة في التعقيد والتداخل.
وكل هذه الترسانة من الوسائل والوسائط التي تشمل كما هائلا من الاقمار الاصطناعية ووكالات الأنباء والفضائيات وشبكات الانترنت وغير ذلك من الآليات هي في واقع الأمر أدوات ونواقل رهن إشارة الصحافة وبمتناولها ومن ثم فالصحافة مسؤولة عن توظيفها وعما قد ينجر عن ذلك التوظيف من انحراف وانزلاقات وما قد يترتب عنه من نتائج ومضاعفات.
ذلك أن هذه الوسائل الضخمة والوسائط الفعالة قد تكون أدوات استتباع أو إخضاع وهيمنة بيد قوى الاستكبار والتسلط وقد تكون آليات تواصل وتفاهم وتكامل في متناول القوى الخيرة الساعية إلى توطيد العدالة والمساواة والسلام بين شعوب العالم. وهنا تكمن المسؤولية الجسيمة التي تقع على عاتق الصحافة في الاضطلاع بدور محوري في صياغة مصير البشرية، فإن أضحت آلية تستخدمها مؤسسات الليبرالية المتوحشة الجشعة من أجل امتصاص دماء الشعوب الكادحة وأداة تستعملها قوى الهيمنة من أجل أحكام قبضتها على الأمم المستضعفة فإنها تصبح تبعا لذلك سلاحا فتاكا ذا مفعول مدمر وإن هي أمست وسيلة تنوير وتثقيف واستنهاض للعقول والهمم من أجل إقامة عالم أفضل تسود فيه العدالة والمساواة والديمقراطية فإنها عندئذ تتحول إلى عامل تأهيل وترقية وتنمية وتطوير.
أما ضمن السياق الموريتاني فإن واقع الصحافة مر عبر مسيرة البلاد السوسيو سياسية بمراحل متباينة تراوحت بين الاستقطاب والتدجين والممانعة والعصيان، وذلك عبر التطور السياسي والمؤسسي للبلاد وحسب الأنظمة السياسية التي تعاقبت عليها.
ولا يجافي الصواب من قال إن الصحافة الموريتانية بدأت اعتبارا من أوائل التسعينات تتلمس طريقها نحو حرية التعبير واستقلالية الرؤية على الرغم مما كلفها ذلك من ضغوط وإكراهات بل ومن تعسف أحيانا.
وربما كان يحد من فعاليتها ونجاعة عملها ضعف إمكانياتها ومحدودية مهنيتها، إلا أنه على الرغم من ذلك قد بدأت تستشعر مسؤولياتها وضرورة التزامها بالقضايا الجوهرية للبلاد.
أما فيما يخص الآفاق المستقبلية التي ستحدد معالمها الثورة التكنولوجية العارمة الحالية وما تتطلبه من تأهيل وتفعيل والتي ستشكل تحديات كبيرة للصحافة الموريتانية فإنها سوف تكون ذات أبعاد متعددة وتتطلب استعدادا وتأهيلا تقنيا وتمكنا مهنيا محكمين.
بل سوف تقتضي إعادة هيكلة المشهد الإعلامي في البلاد وإعادة صياغة النظم والقواعد التي يجب تدبيره على أساسها.
ففي ظل الانفجار الإعلامي وتعدد وسائل الاتصال وانتفاء عوائق الزمان والمكان وتحت ضغط السرعة والتنافسية فإن الصحافة الموريتانية مجبرة على مسايرة هذه الوضعية والأخذ بكل ما تقتضيه من أسباب وإلا حكمت على نفسها بالتلاشي والانقراض.
وبعبارة أخرى فإن الصحافة الموريتانية لكي يكتب لها البقاء يجب أن تعمق تأهيلها وتوطد وتطور مهنيتها وتنوع وسائطها ووسائلها، بحيث تشمل هذه الوسائط الصحافة المكتوبة والمسموعة والمرئية والالكترونية بما يستلزمه ذلك من جرائد ومجلات وصحافة للأطفال ومن إذاعات حرة ومحطات تلفزيون خصوصية ومواقع الكترونية ترفدها مدونات وكتابات تفاعلية، وما هذه إلا بعض المكونات التي يجب أن تكون سداء ولحمة المشهد الإعلامي الجديد الآخذ في الاتساع الأفقي والتبلور العمودي.
ولا ينبغي بطبيعة الحال اعتبار هذا الانزياح النوعي للمشهد الإعلامي الموريتاني هدفا في حد ذاته إنما يجب أن يوفر آليات فعالة وطرائق مواتية لدعم التجربة الديمقراطية الموريتانية وتوطيد ما أتاحته من حريات عامة وعدالة ومساواة بين كافة مكونات الشعب الموريتاني وتبين ما أفرزته من مؤسسات وما تتيحه تلكم المؤسسات من مسلكيات في تدبير الشأن العام.
والآفاق المستقبلية التي يجدر بالصحافة الوطنية أن تستعد لمواكبتها والانسجام معها تستوجب كما أو مأنا إليه التسلح بالمعارف الضرورية والوسائل المطلوبة من أجل محو الأمية ونشر التوعية الاجتماعية وتعميق ثقافة المواطنة ورفع الذائقة العامة وخلق الحس الجمالي وإشاعة المثل العليا والقيم السامية.
وذلك وصولا إلى قيام مجتمع المعرفة الذي تقوم فيه الحداثة والمدنية على أنقاض البدائية والبداوة وتحل فيه العقلانية والتفكير النقدي محل الذهنية اليقينية والعقلية الخرافية القروسطوية. وقيام هكذا مجتمع ضروري لأنه يشكل الأرضية الملائمة لاستنبات واستمرارية الديمقراطية التي أثبتت التجربة أنها أقل الأنساق البشرية سوءا وأكثرها ضمانا لعيش الأمم في وئام وسلام.