محمد فال ولد بلال السفير الموريتاني في قطر
إن عدت بالذاكرة قليلا إلى الوراء – شهر أكتوبر 2008- ربّما تتذكرون معي الدعوة التي أطلقها الرئيس محمد ولد عبد العزيز – وهو لم يمضي بعد مائة يوم في السلطة- من أجل حوار بنـّاء وتشاور مسؤول بين مكونات الطيف السياسي كافة حول ماضي وحاضر ومستقبل البلاد. ولربّما تتذكرون نداءاته المتكرّرة داعيا الجميع إلى المشاركة في المنتديات العامّة للديمقراطية التي رسمها إطارا رسميا ومدنيا جامعا للحوار المطلوب. أكتوبر 2008
دعوة رئاسية للحوار…وفرصة تضيع
وقد لاقت دعوته تلك صدى طيبّا لدى الموريتانيين الذين توافدوا على المنتديات من كل حدب وصوب…كما لاقت قبولا مماثلا لدى بعض الشركاء والمراقبين الدوليين. وأذكر أنني كتبت حال إعلانه عن خيار التشاور والحوار كنهج للتسوية والحل رسالة “للعقلاء فقط” قلت فيها : “إننّا بحاجة إلى وقفة تأمل ومراجعة. بحاجة إلى نقاش ومصارحة. بحاجة إلى كشف الحقائق وإعطاء الأشياء مسمّياتها الموضوعية: من نحن ؟ أين نحن؟ من أين نأتي وإلى أين نسير ؟ ما هي أهدافنا ؟ مقاصدنا ؟ أولويّاتنا ؟ ما هي عوامل القوة لدينا ؟ وما هي مكامن الضعف فينا ؟ أسئلة وغيرها مطروحة منذ خمسين عاما , وهي اليوم أكثر إلحاحا والحيرة بشأنها أكثر إيلاما لأن شعبنا لم تتح له فرصة حقيقيّة للتفكير بحرية والتشاور في شؤونه العامة , وذلك منذ انعقاد “الطاولة المستديرة للأحزاب والاتجاهات السياسية” بدعوة من الرئيس المؤسس المختار ولد داداه (رحمه الله) في مايو 1961…” وقبلها حملة تشاور واسعة عبر المراسلات الموثـّقة والاتصالات المباشرة والاجتماعات التي أطلقها الزعيم الراحل أحمدو ولد حرمه (رحمه الله) مع قادة الرأي وأصحاب النفوذ في المجتمع لرسم إستراتيجية مناسبة للتعامل مع الانتخابات التشريعية للعام 1946 . وهي الحملة التي أفضت إلى قرار المشاركة وإلى ترشيحه نائبا تحت شعار:”ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم”. والبقية معروفة : هُزم إيفون رزاك , واضطر المستعمر إلى الانصراف عن الانتخابات المواليّة ليكون السباق مع مرشح موريتاني مسلم وهو سيدي المختار انجاي (رحمه الله ).
وبالعودة إلى موضوعنا, لقد تساءلت في الرسالة المذكورة عن “ماذا لو كان السادس من أغشت الماضي (2008/8/6) بمثابة الهزّة أو الصدّمة التي تدفعنا جميعا إلى التفكير الجاد والحوار البنـّاء؟ وماذا لو جعلنا من المنتديات العامة للديمقراطية وقفة تأمل ومراجعة ومحطة نقاش وحوار لاستخلاص الدروس من الماضي, وتحليل وتقييم الحاضر واستشراف المستقبل ؟ وماذا لو أنـّنا قبلنا جميعا أن ننظر إلى الواقع المعيش وأن نتعامل معه لتغييره بممكنات الواقع, بعيدا عن الأوهام والتجريح والشتائم وتبادل الاتهامات ؟”. ثم أضفت :”على أي حال, فإن المسؤولية تقع على الساسة والنخبّة, والحل بيدهم وليس بيد غيرهم , ولا يمكنهم التنصل أو التهرب من تحمل المسؤولية (كما هو معتاد) بإلقاء اللائمة أو العيب على غيرهم في الدّاخل أو الخارج , أو على ظروف الزمان والمكان…فاللوم علينا مطلقا والعيب فينا…”. واستطردت في هذا المعنى قول الشاعر :
“نعيب زماننا والعيب فينا * وما لزماننا عيب سوانا” .
مارس 2009: توتر وانقسام…وتوجّه نحو الخارج
ولكن وبكل أسف, جرت الرياح بما لا تشتهي سفينة الحوار. لقد رأى بعضنا غير ما نراه , وتعذر التفاهم بين الفرقاء السياسيين الأهم, ولم يصل التشاور إلى مداه الوطني المطلوب.
وسادت حالة من التوتر والانقسام والانفعال, والتعصب, والسّب, والشتّم, والتجريح الشخصي, والتهويل والتخويف “بانفجار أمني” وشيك أو “حرب أهلية ” قادمة, إلى غير ذلك من التراشق اللفظي وتدني مستوى الخطاب…وما كان للبلد إلا أن يدفع ثمن ذلك التـّناحر والانقسام برضوخه أو قبوله, أو مسايرته أكثر من اللازم للتدخلات والضغوط الأجنبية التي انهالت عليه من كل الجهات وبشتى الصور…إلى أن أصبح سلّة مفتوحة “لمبادرات الحل” ومقترحات التسويّة ” من جميع أنحاء العالم !
ولن ينسى التاريخ تلك المشاهد المؤسفة والمحزنة معا التي رسمت صوّر كبار السّاسة وهم “يتفاوضون” على أرض أجنبيّة مجاورة وبرعاية “إقليمية ودولية” ضاغطة, وكأنهم يعالجون معضلات كونيّة بالغة الخطورة والتعقيد (؟) . فقط لأنهم رفضوا أو عجزوا عن لملمة أطرافهم بأنفسهم, فطفقوا يضربون أكباد إبلهم وراء البحار والأنهار يتكففون موائد الوسطاء ويطلبونهم المعونة والمشاورة والقرار…وبعد مخاض عسير, وُلد “دكار”…وعلى علاّته , كان الأمل كبيرا أن يكون – لما بُذل فيه من جهد إقليمي ودولي, وما حظي به من حفاوة وتصفيق داخلي- بلسما لأوجاعنا المزمنة ويشيع جوّا من التراضي والتوادد بين طرفي النظام : الأغلبية الفائزة بالرئاسة, والأقلية الممسكة بزعامة المعارضة الديمقراطية. تفاءل الموريتانيون خيرا واعتقدوا أنهم على باب مرحلة جديدة ستشهد علاقات أكثر توازنا واحتراما بين السلطة والمعارضة, ليتبيّن لهم لاحقا أن إدمان حليمة (الطبقة السياسية الموريتانية) على قديم عادتها عصي على العلاج. فما إن أغلقت مكاتب التصويت وبدأت عمليات الفرز وإعلان النتائج حتى بدأت النظرة الحزينّة الضيقة تطغى على ما سواها من النظرات,,, وسرعان ما ألفى الموريتانيون أنفسهم وهم يدورون في نفس الحلقات المفرغة القديمة.
يونيو : 2010 مبادرة رئاسيّة جديدة…وبوادر مشجعة للحوار
واليوم, ها نحن من جديد أمام مبادرة للحوار أطلقها الرئيس محمد ولد عبد العزيز تعبّر بلا شك عن حسن نواياه وحسن نوايا الأغلبية في تحسين المسار السياسي في البلاد وتوجيه “البوصلة الوطنية” باتجاه المصالحة والتوافق. وها هي بوادر مشجّعة تلوح أمامنا, وتبعث على التفاؤل بنجاح التجربة الجديدة وبنهاية حقبة تضييع الفرص على الوطن والمواطن. فقد تعددت أصوات الخيرّين في المعارضة هذه الأيام التي تدعو للتعقل والتبّصر وتجنبّ لعبة التحميل المتبادل للمسؤولية والاتهامات المتبادلة بالتضليل والمراوغة لكونها لعبة فارغة وعقيمة دوما .
كما ارتفعت أصوات خيّرة في الأغلبية تدعو هي الأخرى إلى تجاوز حالة الانفعال والانسداد وتجنب منطق الانعزالية والانكماش سبيلا إلى إنهاء القطيعة والتوتر بين أهم الفرقاء السياسيين في البلد.
ومن حقنا نحن كمواطنين أن نراهن على أن إرادة الأخيار في كل من السلطة والمعارضة يمكنها أن تلتئم على صعيد واحد وفي اتجاه واحد لتواجه بنجاح دعاة التأزيم والانقسام … هو الأمل إذا, يعود من جديد ليدبّ في شرايين الحياة السياسية الموريتانية المثقلة بالمشاكل والأزمات. وفي مثل هذا الجوّ المفعم بالتفاؤل والحماس, ينبغي الانتباه إلى معضلة أساسية-هي أم المعضلات كافة- موروثة شعوريّا أو لا شعوريّا عن الحقب الماضيّة, أعني القطيعة المكرّسة والحسّاسية المفرطة بين السلطة والمعارضة الديمقراطية, ومعالجتها معالجة صحيحة.
السلطة والمعارضة: وجهان لنظام واحد
من بديهيات –الشؤون السياسية كون النظام الديمقراطي لا تؤسسه السلطة لوحدها كما لا تؤسسه المعارضة لوحدها…بل هو نتيجة علاقة شائكة بين الفريقين , علاقة توافق وصراع في نفس الوقت. توافق في إطار ثوابت الأمّة كمرجعية لا يجوز الاختلاف عليها, وصراع سلمي وتنافس شريف فيما هو دون ذلك. وجدير إذا بكل طرف أن يحترم الطرف الآخر ويعترف بقيمته الموضوعيّة وبأهميته في ضمان سلامة الساحة السياسية التي ينشط فيها الجميع ويمارس مهامه. فالسلطة تستمد شرعيتها من ذات المصدر الذي تستمد منه المعارضة الديمقراطية شرعيتها, مثلما أن المعارضة تستمد شرعيتها من شرعية السلطة. وهما معًا تنتميان إلى ساحة سياسية واحدة. وكلاهما تعبّر وتتحرك بطريقتها ومن الزاوية التي تعتقد فيها الإصلاح. و”اختلاف الرأي لا يفسد للودّ قضيّة” كما يقول السلف الصّالح. فلا ينبغي للسلطة أن تنظر إلى المعارضة الديمقراطية بوصفها عدّو يجب إبعاده وإقصاؤه, كما لا ينبغي للمعارضة أن تتعامل مع السلطة باعتبارها شرّ يجب استئصاله. فمهما كانت الآراء والمواقف التي تخلص لها السلطة أو المعارضة متباينة, فإنها تبقى دائما في حدود التحليل القابل للرّد والنقاش والاعتراض والمداولة السلميّة في إطار البحث الدّائم عن المصلحة الوطنية. وخلافا لما يتبادر لأذهان بعض العامة, فإن ضعف السلطة أو إضعافها لا يعني بالضرورة قوّة المعارضة الديمقراطية. كما أن ضعف المعارضة لا يعني بالضرورة قوّة السلطة. بل بالعكس, فإن ضعف كل من الطرفين هو إضعاف للآخر وللنظام السياسي ككل.
وهذا ما شاهدناه بأم أعيننا. قد شاهدنا كيف أنّ إضعاف سلطة الرئيس معاوية ولد سيدي أحمد الطايع والاطاحة به, ثمّ إضعاف السلطة الانتقالية والاطاحة بها (راغبة أو راغمة), ثم إضعاف سلطة الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله والإطاحة به , لم تكسب المعارضة قوة جوهرية ولا تمكينًا في الشأن العام . ولربّما لن تكسب عوامل القوة والنهوض ولن تحقق إنجازا نوعيّا طالما بقيت هكذا عنصر تأزيم وتحريض…لا عنصر تغيير! أجل, قد تستطيع تأزيم الوضع في الداخل, وإرباك شريك أجنبي, وإحراج سلطة قائمة , ولكنها لن تستطيع أبدا أن تحقق للبلاد ولنفسها تناوبا سلميّا وديمقراطيا ما لم تؤمن قولا وفعلا بأنها والأغلبية الحاكمة طرفي نظام واحد وشريكين في صفّ واحد دفاعا عن رموز الدولة وأمنها واستقراها. ومفهوم بالطبع أن الوحدة هنا هي وحدة اختلاف وتنوع وتعارض.
وفي الاتجاه الآخر لقد شاهدنا كيف أن العمل على إضعاف المعارضة وإبعادها وإقصائها وتشتيتها لا يكون أبدا عامل قوة للسلطة ولا عامل استقرار للبلد. علمتنا التجربة أن الاستقرار لا ولن يتحقق بالقمع والتشدد وتجاهل حاجات الناس وتطلعاتهم المشروعة بل يتحقق بوجود الثقة المتبادلة والرضا المتبادل بين السلطة والمجتمع ككل وفي مقدمته المعارضة الديمقراطية.
ومن هذا المنظور, أعتقد أن الرسالة التي وجّهها الرئيس محمد ولد عبد العزيز إلى أقطاب المعارضة والتي شددّ فيها على أهمية الوحدة الوطنية, وأكّد على التمسك الرّاسخ بالديمقراطية كنظام, وبالحوار كنهج, هي فاتحة عهد جديد في إصلاح المسار السياسي ودليل عملي على إدراكه التام لما يجب أن تكون عليه العلاقة بين قطبي النظام الواحد. فهل تستطيع المعارضة أن تكسر حدود الجمود التي توقفت عندها خطاباتها حتى الآن ؟ وهل تستطيع أن تنسج علاقات مع السلطة الجديدة تقوم على أسس غير تلك التي كانت عليها علاقتها بالسلطة في العهود الماضية ؟ أم أنها ترى نفسها اصطفافا ساكنا, وجسما مستقرا, ومنفصلا عن حراك المجتمع , وعصيا على كل تحول وتغيّر ؟.
إصلاح النظام هو إصلاح السلطة والمعارضة معًا
أقول بصراحة, إن المشهد السياسي الرّاهن يوحي إليّ – وإن كنت ألاحظه عن بعد – أننا بحاجة إلى إعادة تأسيس مفهوم المعارضة سبيلا إلى إعادة تأسيس مفهوم السلطة السياسية في نطاق جدليّة النظام الديمقراطي. مللنا الحديث عن إصلاح السلطة بمعزل عن إصلاح المعارضة, وقد تكون هذه الأخيرة أكثر حاجة إلى التجديد والإصلاح. وفي كل الأحوال , فإن الإصلاح الحقيقي – إمّا أن يكون شاملا للنظام السياسي بأغلبيته وأقليته, وإمّا أن يبقى ناقصا. ذاك ما تقتضيه الجدلية الديمقراطية التي تقوم على فرضيته أن يحل كل من الطرفين محلّ الآخر. وفي هذا الصدد, هناك مثلا من يرى أن عددا كبيرا “من المعارضين” لم يقدموا نماذج تصلح لأن تكون بدائل حقيقية لمن ينتقدونهم من الحكام أو الحكومات أو من يدور في فلكهم. فالكثير من السياسيين في المعارضة المنادين بالديمقراطية اليوم,لم يقدموا نماذج للممارسة الديمقراطية السّليمة كي يكونوا مثالا يحتذى به وبديلا للسياسيين “غير الديمقراطيين” في السلطة. بعضهم ينتقد الدكتاتورية , والاستبداد, وعبادة الفرد, والتشبث بالسلطة,,,ولكنه في المقابل لا يتحدث عن التصلب, والانفعال, وعن زعامة المعارضة مدى الحياة, وعن شخصنة الأحزاب, إلخ…
في الواقع, لا يوجد فارق نوعي كبير ما بين أصحاب السلطة ومن يعارضونهم في عديد من الدوّل حديثة العهد بالديمقراطية, فالكل يحمل الثقافة عينها, والممارسات ذاتها باختلاف الخطاب طبعا. ولذا تكون المعارضة جزءا من المشكلة السياسية القائمة, ومطلوب منها أن تفهم ذلك وأن تتعامل بإيجابية مع المتغيرات التي تحدث, وكما تطالب الطرف الحاكم بالإصلاح عليها هي أيضا أن تغيّر الذهنية السائدة حتى الآن في بعض صفوفها, وأن تتحمل مسؤولياتها في إنهاء حالة الجمود والشلل والخوى السياسي ا لتي تخيّم على البلاد. فهي مطالبة اليوم بأن تقبل الحوار وتترك بصمة مميّزة يذكرها لها التاريخ والمجتمع بخير وأن تكون هي السباقة لتبنيّ مبادرة الانفتاح التي أطلقها رئيس الجمهورية…من أوسع أبوابها. والكلّ على يقين أن التواصل بينها وبين السلطة وباقي القوى الجماهيرية والمدنية ذات الوزن سوف يؤسس لحوار هادئ ومسؤول وواع لبلورة ميثاق ديمقراطي موحّد يصلح كمرجعيّة سياسية موضوعية يمكن اعتمادها في مؤتمر وطني موريتاني عام …
عودة على بدء , إن الوضع السياسي الآن يختلف اختلافا جوهريا عما كان عليه في شهر أكتوبر 2008 تاريخ كتابة الرسالة ا لتي بدأت بها مقالي اليوم. ولذلك, فإن الجميع يتوقع من المعارضة أن تتعامل تعاملا مختلفا مع المبادرة المطروحة الآن, بحكم اختلاف الظروف والمعطيات. ولكن الأحوال مهما اختلفت, فإن حاجتنا إلى حوار وطني جاد لا تزال قائمة وأكيدة وملحّة لمعرفة من نحن ؟ أين نحن ؟ من أين نأتي ؟ وإلى أين نسير ؟ ما هي أهدافنا ؟ مقاصدنا ؟ أولوياتنا ؟ إلخ…
فإلى الأمام ! رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة في الاتجاه الصحيح دون تهويل أو تهوين .
المهم والأساسي أن نصل إلى المرمى… ونسجل الهدف…حتى ولو جاء في زمن الوقت الضائع. …من وحي “المونديال”…
والله ولي التوفيق