من الصعب الحديث عن منظومة سلوك للصحفي، وهو يغطي نزاعا مسلحا، فثمة عوامل هي التي تتحكم فيه وهي في الغالب خارج إرادته.
أسئلة عديدة لا بد من طرحها، قبل مد البوصلة لمن أراد الاستنارة وهو يلج خضم نزاع، كثيرا ما يكون الصحفيون ضحيته.
عواقب عدم التسرع كثيرة، فإن لم يكن من بينها التصفية الجسدية على إحدى الجبهات؛ فإن الحقيقة والمصداقية غالبا ما تعانيان من التصفية هي الأخرى، وتلك مصيبة كبيرة لا للصحفي فقط، ولكن لوسيلة الإعلام التي أرسلت عيونها إلي تلك الحرب أو ذلك النزاع المسلح، وما وضع العديد من القنوات العربية في الحرب الليبية أو السورية منا ببعيد.
ما هي المسافة التي يجب علي المراسل الاحتفاظ بها؟؟.. لا من مصب النيران فحسب، فذلك يدخل ضمن التكتيكات التي تعلمها، أو من الجيش الذي يعمل علي خطوطه.
ولكن من هذا الطرف أو ذاك، ممن جلبه في عتاده، كما درج الصحفيون على وصف من يرافق الجيوش.
هل علي الصحفي أو المراسل أن يقبل بمساعدة هذا الطرف ؟ أم أن عليه الاعتماد على إمكانياته للوصول إلي مكمن الحدث ؟. ثم ما هو قدر التعاطف المسموح به وعلي أية أرضية يجب أن يقف من نزاع قد تكون دولته أو قضيته طرفا فيه ؟؟.
لقد شغلت هذه التساؤلات أجيالا من الصحفيين؛ منذ أن أخرج “الفريد هتشكوك” فلم (المراسل الأجنبي)، في أربعينيات القرن الماضي.. و حتى مراسلي آخر النزاعات المسلحة في مالي.
وعليكم اليوم أن تجدوا لها أجوبة.
إن دور الصحفي هو نقل ما يجري علي الجبهة، لكنه محكوم بعوامل مادية ومهنية، هي التي تحدد قدرته على نقل الصورة، فأحاطته بالمشاهد وجمعه أكبر كم من المعلومات؛ هي عوامل مهمة في صناعة التقرير. ولكن هل تُـمكنه الجبهة ـ التي هو علي أرضيتها ـ من قول الحقيقة؛ كل الحقيقة، وهل عليه في الواقع أن ينقل الصور كلما رآها.
في كل المعارك؛ تحاول الجيوش أن تستقطب الصحفيين، دون أن تسمح لهم برؤية كل شيء، معللة ذلك تارة بالسر العسكري والخطوط الحمراء والمخاطر، إلي غير ذلك من الأدبيات.
في حرب (ألفوكلاند)، التي خاضتها بريطانيا في ثمانينات القرن الماضي مع الأرجنتين، فرضت الحكومة البريطانية علي وسائل الإعلام نقل وجهة نظرها، بل حولتها في وقت معين إلي أعلام داجن أحادي، وذلك باسم المصلحة العليا للوطن.
يعتقد كثير من الصحفيين اليوم أن ذلك العهد انتهى، فحتى إذا قبلت كبريات الصحف والشبكات أن تلعب ذلك الدور ( كما فعلت فوكس نيوز في حرب أفغانستان، عندما ظهر أحد مراسليها أمام الكاميرا وفي يده مسدس لقتل بن لادن إن وجده كما قال)، فان البدائل الأخرى المستعدة لنقل وجهات النظر المغايرة، أو بالأحرى الوقائع الأخرى، كثيرة في زمن العولمة.
التنافس بين وسائل الإعلام كبير، لا من حيث جنس القنوات والصحف، ولكن من الوسائط الأخرى التي تأخذ موقعها بقوة وتنافس وسائل الإعلام التقليدية.. إنها وسائط الإنترنت أو الإعلام الجديد.
في سياق كهذا يزداد وضع المراسل صعوبة، فهو محرج باسم المصلحة العليا حين يجافي الحقيقة باسم تلك المصلحة ويصبح عرضة لنيران الأعداء والأصدقاء في وقت واحد.
ما هو التصرف الذي يجب عليه التمسك به..؟ يختلف فقهاء الإعلام، فذلك ما يجب استعمال أدوات الاجتهاد فيه، ولكن المصداقية في تناول الحدث والقدر الأكبر من الموضوعية، هو أمر مفيد للأطراف المختلفة.
قد تنكر الجيوش وقائع معينة لأكثر من سبب، وقد تنصاع وسائل الإعلام في تبني وجهة النظر تلك، ولكن ثمة دائماً من هو جاهز لتكذيب الوقائع وإعطاء الأدلة، حقا أم زورا، وسيجد الكثيرين ممن هم مستعدون لتصديقه، ومع مرور الزمن صادقا كان أم كاذبا لحاجة في نفس يعقوب، ومع الزمن تصبح تلك الرواية هي الثابتة بينما جاهدت الماكينة الرسمية في إخفائها.
إن الحل الوحيد هو بث أكبر قدر من المعلومات فان لم يكن في اللحظة فمن بعد حتي لا يتصيد خصوم هذا الطرف أو ذاك نقصا في المعلومات
أما الصحفي فهو محكوم بعوامل السرعة، إذ إن عليه أن يبحث عن المعلومات: أن يسأل كل الأطراف، أن يحاول أن يظفر بوجهة النظر التي تظهر بصفتها جزءً من المشهد لا يمكن تجاهله.
ففي حساب الزمن يتغير وضع الأشخاص، مهما كان التصنيف الذي نعطيه لهم، قد يكونون في الخط المناوئ، ولكننا سنظل في مواجهة أسئلة ملحة : هل كنا نعكس الحقيقة؟ وهل سيقول التاريخ أننا لم نقل كل شيء؟.. بينما كان بإمكاننا فعل ذلك، هل سنجد من سيقدم العذر لنا باسم كل الأدبيات المعروفة ؟.
اعتقد أن علينا أن نمسك العصا من الوسط، و أن نجتهد لعكس الوقائع، دون تبني أيديولوجية، لأن أكثر ما يصيب المادة الصحفية في مقتل هو أن تمتزج بديناميت الأيديولوجيا.. وقتها لا تسمي إعلاما محايدا، ولكنها عيونهم التي أصابها الحول.
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه.
كاتب صحفي متخصص في الشؤون الأفريقية