محمد ولد حمدو
استثار لدي المقال الأحدث، للعميد السفير والوزير محمد فال ولد بلال ” حتى لا نقول: مات الفساد… عاش الفساد! “، استثار لدي جملة أفكار وآراء .. رغم أنني لست من رواد ساحتنا السياسية “الجدد” بأي معني ولا مبنى، ورغم أني أجهل الفساد، تعريفا وممارسة، ورغم أني لست من دعاة الإصلاح، بمفهوم التخندق السياسي الظرفي، ولا من أدعيائه.
رغم كل ذلك أجدني مدفوعا، لأن أقاسمه على عجل، بعض اللمحات السريعة…. أوردها هنا عفو الخاطر، دون ترتيب ولا تبويب.
وقبل ذلك لا بد أولا، أن أشيد بجشاعة العميد بلال، وصفاء ذهنه وروحه النقدية، التي عودنا عليها، وأن أثمن “خرجاته” التي تهز عادة المشهد – دون مجاملة – بريادة الفكرة، وأصالة الطرح، وعمق التناول، ووضوح الرؤية.
ولا شك أن هذه الخرجة – لا تقل عن سابقاتها، إن لم تكن أخطرها، على الإطلاق، فهي تأتي في ظل انسداد سياسي، وتراشق غير مسبوق، بتهم الفساد والإفساد، وهي كذلك صرخة من ممارس للسياسة، وصاحب خبرة واسعة، بالأنظمة “القديمة” على حد تعبيره.. نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا… ولى أن أضيف من عندي، أنه على دراية كافية، بالأنظمة الحديثة كذلك، إذا جاز لي أن أستخدم صيغة الجمع، في هذا المقام، على الأقل، من خلال طرحه للموضوع!!
والأخطر والأهم، أن ميدان هذه الصرخة المدوية، السياسة البحتة.. وما يجاورها، أوما يتعلق بها عادة من بهارات، حكمها كأي بهارات.. لابد أن تستخدم باعتدال، ودون إسراف، حتى لا تعطي نتيجة عسكية!!
هي إذا صرخة من أحد فرسان السياسة، لإنقاذ السفينة، قبل أن تجنح بماكسبت أيدي الناس، عله لم يقلها صراحة، لكنه حام حولها، حتى أوشك أن يقولها…
واسمحوا لي أن أبدأ، من حيث انتهى المقال، ففي رأيي أن العميد بلال، أصاب في نهايته، كبد الحقيقة بقوله إن ” الشعوب قد تسجل نقاطا مهمة في كبح جماح الفساد الصغير(petite corruption) وتلجم حصان الإدارة الدنيا والوسطى مثل الحاكم، والشرطي، والمدير، والمحاسب، وحتى الوالي والأمين العام… ولكن المعضلة الحقيقية تكمن في “الفساد الكبير“…..”
وهذه قضيتنا المركزية ومعضلتنا الحقيقية، فكل الأحكام على اختلاف فتراتها الزمنية، وتوجهاتها ورعاتها وتحالفاتها في أوساط السياسيين كانت دائما، ترفع شعارات كبيرة، لكنها في النهاية، تنشغل بجزئيات صغيرة… حدث ذلك مرارا في عهد الرئيس الأسبق معاوية ولد الطائع حين اعتقل موظفون سامون وسيقوا إلى المساءلة بحجة الفساد … وهذا شيئ مطلوب بل ومرغوب، لأن الفساد فساد، أيا كان من قام به.. وتحت أي ظرف، وتحت أي سماء، فهو ملة واحدة!!
ولكن المشكل أنهم ما لبثوا ان أطلق سراحهم بقرار سياسي … وهذا شيئ ما زال يحدث وبشكل يومي بما يفرغ أي محاولات في هذا الشأن من محتواه.. ما يعني أن معالجة الظاهرة كتجليات مبتورة يضر أكثر مما ينفع … كمن يقطع ظاهر نبتة ضارة دون أن يجتثها من جذورها، للقضاء على البيئة المساعدة على نموها … بل ويتركها تسقى بماء الرعاية السامية من لدن المقامات العالية بالله ( بالفال )، لتربو وتنبت من كل زوج غير بهيج، في تاريخ ممتد وموثق.
ولي أن أكمل للاستاذ – وهو أدرى مني دون شك- طيفا ىخر من اطيفا الفساد عشش في إدارتنا ونخرها “على نار هادئة” وجعل الواقع الظاهر والرسمي، لا يعكس في كثير من الحالات، خارطة ولا موازين القوة الحقيقية في الإدارة والدولة، بل لي أن أتجاوز وأتحدث في هذا الشأن عن شبكة مراكز قوى، أو حكومة ظل من نوع ما، تدير كل شيئ، وتتحكم في مصير البلد، دون أن تكون مرئية، في موقع سلطة محدد، يخضعها للمساءلة أو الرقابة، تعزل وتولي، وتمنح الامتيازات، وتمارس الضغط بكل أشكاله، وتقوم بكل شيئ، من وراء حجاب سميك من تراكمات السرية، وتجبر أصحاب الصلاحيات الحقيقيين، أوالعلنين على الأصح، على الصمت وابتلاع كل ما تقوم به هذه القوى وتزكيته أو الإنسحاب في هدوء.
أما مصيبتنا التي لاتقل خطورة، فهي في الصورة الثانية كما يوضح ذلك نص الأستاذ بلال ” كم من نظام مستبد جارى الجماهير الشعبية في أحلامها وتطلعاتها، سايرها وزايد عليها ونافقها وطرح من الشعارات والأهداف الحالمة ما جعلها تخرج بالمظاهرات والمسيرات الداعمة وتلهب أكفها بالتصفيق وحناجرها بالهتاف… منطق التاريخ يشير إلى أن الحاكم الفاسد والشعبوي هو أول من يقدم للشارع ما يرضيه وما يوافق هواه وما يهيجه وما يثير شهواته للانتقام من الماضي البعيد والماضي القريب،…”
ودعوني أكمل بالنيابة عنكم، سعادة السفير ومعالي الوزير، أن شهوة الإنتقام، لدى النظام الفاسد الشعبوي – وهذه الأخطر – لا تتوقف عند حدود الماضي البعيد و لا القريب، بل تمتد إلى المستقبل، من خلال التأسيس لممارسات تعلو، ولا يعلى عليها، مع مرور الوقت، تقضي على منظومة القيم، وتشرخها وتعيد بناءها وتشكيلها، وفق رؤية هزيلة سقيمة ومبتورة.
يسوؤني كثيرا، أن تسير الأجيال الحاضرة على خطى من سبقوها، شبرا بشبر وذراعا بذراع … في مجال “تلحليح” والتصفيق و ” التمجيد والتسبيح بحمد السلطة، … ( وجعل ) الرئيس .. قطب زمانه ومكانه، ومحور الحركة والفكر والإنجازات والحياة. يكاد يسمع كل صباح ومساء بأنه هو الوطن والوطن هو… هو حامي حماه.. وصانع مجده وعلاه..هو باني الطرقات ومحقق الإنجازات والمعجزات… هو الزعيم الأوحد.. والمنقذ الفذ..عقله حكيم… وخطابه تاريخي… وكلامه هو آخر الكلام… بيده الأعناق والأرزاق… لانرى إلا ما يرى… إما هو أو الفوضى… أي صوت يختلف معه مشبوه أو خائن أو حاقد… صاحبه يعشق الرئاسة ويدعو إلى التخريب والفتنة…”
هي ذات المعزوفة المشروخة، تتكرر في كل زمان، وفي كل مكان تقريبا في دنيانا الموريتانية المسكينة، منذ عقود لا نحيد عنها، إلا لنشدد عليها بصيغ أقوى، أو هكذا نراها، ولا نألو جهدنا في ذلك!!
تمنيت مرارا، في خضم الحديث عن تجديد الطبقة السياسية، الجاري منذ سنوات، تمنيت من أعماق قلبي، أن يلتفت من بيدهم، مصير البلاد والعباد، إلى تجديد الأساليب السياسية… وأملت بسذاجة أن يستغنى عن مبادرات الدعم والمساندة، وأن تحال إلى التقاعد بعد طول استحقاق..( غير مأسوف عليها) خطابات التمجيد والتوجيهات النيرة .. وأن تعطي إجازة مفتوحة، لتعابير من قبيل ” تعمل حكومة معالي الوزير الأول على تجيسدها وتنفيذها.. و لولا العناية السامية لما تحقق هذا الإنجاز ” … وليكن الإنجاز حفر بئر أو حملة تلقيح للمواشي أو حتى فتح حانوت لبيع “لحموم”… لا يهم.. كلها في عرفنا، إنجازات تجسد حرص سيادته على راحة ورفاهية المواطنين!!
وبدت لي في لحظة من اللحظات، عملية تجديد الآليات السياسية، أكثر إلحاحا من تجديد وجوه وأسماء … لا تعني الكثير، ولا تغير شيئا، كما يبدو الآن بعد سنوات من تلك التجربة.
دعونا نسمي الأشياء بأسمائها… الحياة السياسية لها أطرها وآلياتها وأساليب عملها … وللمجتمع المدني ميدان نشاطه، وللبرلمان مهمته، ودوره الدستوري المحوري، وكذلك الحكومة، في كل بلدان الدنيا، لها تقاليدها وآليات عملها …ولا يجوز أن يقع الخلط بين أي من هذه التشكيلات، ولا يغني أي منها عن الآخر .. وتقاس قوة الدولة، وسلامة المجتمع دستوريا، بانسيابية العلاقة بين هذه التشكيلات، وغيرها من التضاريس المؤسسية الأخرى.
و لا تعد هيمنة أي منها على الأخرى، أو محاولة إلغائها علامة عافية..
لا يمكن أن نبتدع … ولا أن نكون أذكى من الآخرين، ممن سبقونا في هذا الشأن .. مهما حاولنا.
وليعلم وزراؤنا الموقرون، مع احترامنا لهم جميعا، واحترمنا لمقام من جاء بهم، أن على عاتق الحكومة، مهمة واضحة، ترسم وتحدد في إطار رؤية شاملة .. ولكن مسؤولية كل عضو في الحكومة، أن يضفي على هذه المهمة، في قطاعة الموكل إليه، حينا من الدهر، من قدراته ومهاراته وتجاربه وخلفياته، ما يغنيها ويثيرها، ويدفعها إلى أفضل المتاح في مجال الفعل والإنجاز ، لا أن يكون مجرد آلة تسجيل ردئية – لا سمح الله – لتمرير توجيهات آخرين.
وفي هذه الحالة الاخيرة، يكون الرئيس، في غنى عن هذا الكم الكبير، من أصحاب الحقائب الوزارية، الذين يكلفون كل واحد منا ( أعني من يدفعون الضرائب ) ما تنوء به الجبال، من مخصصات وامتيازات… مقابل أن ينقلوا لنا فقط (؟!!) توجيهات الرئيس.. وهي مهمة، هناك من يمكن أن ينوبهم فيها، على أكمل وجه، دون تكاليف تذكر!!
ولنتفق على أن أي شخص، مهما كانت عبقريته، لا يمكن أن يسوس، كل أمور الحياة في آن واحد… يفكر في تقاطعات تحالفات السياسة الخارجية، وعلاقاتنا بدول العالم، من الولايات المتحدة إلى جمهورية تيفالو.. ثم يطلع على دقائق الأمور، المتعلقة بالدفاع والحروب، التي تتربص بنا الدوائر، ومقتضيات الأمن، ومواجهة خطر الجريمة العابرة ( أو المعَبرة.. قسرا للحدود) وسياسات الإعمار في مناطق الترحيل ومدن (؟!! ) بورات وانبيكت الأحواش وترمسة والشامي وغيرها .. ثم يطلع بنفسه على تفاصيل مد شبكات المياه والكهرباء، إلى أكثر من مدينة وقرية عطشى في البلاد، و”يسهر” بنفسه على جهود رفع مستوى التمدرس، وتوسيع نطاق التغطية الصحية هنا أوهناك.. ثم تمتد عنايته السامية إلى أوضاع النساء، وحظوظهن في الحياة العامة..ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد، فيمد عنايته الكريمة، إلى آفاق أخرى أرحب وأوسع في مجالات، لا تخطر على بال شخص عادي قاصر مثلي، ولا مثلكم يا مواطنين!!
شيئ غير مقعول ويفقوق كل التصور.. لا أحد باستطاعته أن يطلع على كل شيئ في ذات الوقت… يتابع ويسهر ويهتم ويعتني ويطلع… مصرفا ماشاء الله من الأفعال في ذات الوقت..
ليس ذلك في مستوى طاقة الفرد، مهما كانت مكانته ولا قدراته، فلا الأنبياء عليهم السلام في الأمور الخالصة المنفصلة عن الوحي، ادعوا العصمة، ولنا أسوة في خير البرية، صلى الله عليه وسلم، ومواقفه في غزوتي بدر والخندق، حين استشار كبار الصحابة، ونزل على رأيهم، بل عدل عن رأيه، لصالح وجهات نظر بعضهم..!
وبعد الأنبياء، لا الخلفاء الخالدون الراشدون، ولا الزعماء العظام المصلحون، ولا العلماء المشهورون، ولا الفلاسفة الموهوبون، ولا المخترعون الباهرون، على عبقريتهم، اجتمع لهم ذلك ولا حتى بعضه…!!
ولذلك وجدت المؤسسات، كثمرة لآخر ما توصل إليه العقل البشري، في مجال تسيير الدول، وضبطت العلاقات بينها، لتتولى كل منها، جزء من المسؤوليه العامة… ولا مجال في عالم المؤسسات، لمركزة القرار، ولا للرأي الأوحد، مهما كان صاحبه، حكيما حصيفا مجربا، ومحيطا بكل فنون الدنيا، وعلومها وخبراتها وخفاياها!
وفي عالم المؤسسات، الذي فرض نفسه، على كل دول الدينا تقريبا، لا فضل لأحد على آخر … فلا الحكومة أقوى من البرلمان، وليس القضاء أعلى مقاما من الحكومة.. لا فضل إلا باحترام الدستور، والضوابط التي تتواضع المجموعة الوطنية على الالتزام بها..
أشعر مرات بالحسرة، وأنا أرى برلمانيا، يندفع في تبرير سياسات الحكومة، وممثلها جالس، وجاء للدفاع عنها وعن خياراتها – أو هكذا يفترض – كما يخالجني شعور بالأسف حين أرى برلمانيا آخر، يتطاول على شخص الوزير، متجاوزا حدود اللياقة، وتزداد حيرتي، حين ينفض وزير من مقعده، نحو برلماني ويهدده، خارقا كل الأعراف الإجتماعية، وحتى الدستورية، مستخدما كل مخزونه من السباب والشتائم اللفظية، مادا أصبعه، يرعد ويزبد في قضية، ميدانها الأول، الحجة والدليل والأرقام والوثائق المفحمة!!
لا أدعي أني أدرى من كل هؤلاء – وكلهم من هم – بالتقاليد المؤسسية، وآليات عمل البرلمان، وطريقة تعاطي الوزراء مع البرلمانيين، ولا أعضاء البرلمان مع السلطة التنفيذية، ولكنني أعتقد أن تقاليدنا لا تسمح لمن هم في مقامات دستورية وعمرية وأخلاقية رفيعة، بالنزول إلى دركات، يأنف أهل الأسواق الشعبية ( مع احترامنا لهم ) من الإنحدار إليها..
ولا أتصور أن البرلماني، الذي يدافع عن الحكومة، في حضور أحد أعضائها، ويدافع عن خيارات رأس السلطة التنفيذية، في حضور ممثلها، وربما بحماس واندفاع واضح، إلا تصرف من زواية زبوينة ضيقة ” لأن الحاكم – كما يقول بلال – يبادل التصفيق بالتوظيف والتعيين، ويمنح الترقية فوق ذلك لمن يزيد ألقابه ويعاظم في صورته.”
أما البرلماني، الذي يتصرف بقسوة، مع ممثل السلطة التنفيذية، فإنه لا يدرك تماما، كالوزير الذي يهب مرعدا، مهددا ومتوعدا عضو البرلمان، أن العلاقة بين الجانبين تكاملية، ومضبوطة بترتيبات، ليس بينها إطلاقا، الفحش ولا الإقذاع، ويكفي أن يقدم كل من الطرفين، جانبه من الملف، في كنف الإحترام … ولن تكون الصورة – موضوعيا – أوضح برفع الصوت، والتكذيب والتجاوز والتطاول، ومد الأيدي والتلويح في السماء!!
تلك معركة ميدانها غير البرلمان، هي من جهة، لتسجيل نقاط في سجل الحظوة، بالنسبة لبرلمانيي الموالاة، وهي فتح في مجال دغدغة مشاعر العوام، والتلاعب بها، بالنسبة لبرلمانيي المعارضة.. وبين هذا وذاك تضيع الحقيقة، ويذهب الفعل البرلماني – مع ما يكلفه من ميزانيات – أدراج الرياح!!
أفكار متناثرة، وسطور متفرقة، لا يجمعها خيط ناظم بالتأكيد، سجلتها على عجل، وأملى أن تكون مساهمة، ولو متواضعة، في نقاش صريح بناء ومفيد، يقوم ويوجه ويثري، ممارسات أكثر من طرف في البلاد، بما يسمح بتجديد الآليات المتبعة في التعاطي مع الشأن العام منذ عقود مديدة.