في إطار مجهوده المحمود لتحريك الساحة الثقافية الوطنية التي تعاني منذ بعض الوقت من ركود مقلق قام نادي القصة تحت إشراف اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين بتنظيم ندوة فكرية بهدف تقديم قصة جديدة من تأليف الأديب والسياسي المعروف الأستاذ الشيخ ولد أحمد . القصة بعنوان ” للحديث بقية ” وقد ضمت الندوة لفيفا من المثقفين والإعلاميين المهتمين بالشأن الأدبي , وتضمنت وقائعها تقديم عروض ومداخلات نقدية لعل أوفاها عرضا تقييميا قدمه الدكتور محمد الحسن ولد محمد المصطفى .
لم أكن قد قرأت القصة قبل حضوري للندوة ولذلك لم يكن بمقدوري استبطان وتقدير وجاهة ماقيل حول خصائصها الفنية وقيمتها المميزة كإبداع أدبي .
ولما عدت من الندوة التي كنت قد حصلت خلالها على نسخة من القصة ،أقبلت على قراءة هذا العمل , ولم أتوقف عن القراءة حني أكملته.
وعلى ضوء إلمامي بالقصة في بنيتها وتقنياتها وتيماتها , استبنت مضمون التقييم النقدي الذي قدمه الدكتور محمد الحسن.
ثم تبين لي أن ثمة زوايا نظر أخرى كفيلة إذا ماتمت مقاربة القصة من خلالها بإلقاء المزيد من الضوء على خصائصها الفنية ورمزيتها الدلالية ومضامينها الأخلاقية والفلسفية ولعل تقييم هذه القصة , شأنها شأن غيرها من القصص الأخرى, يقتضي التمعن في عناصرها المكونة التي تشكل مقوماتها ولحمنها وسداها كعمل فني , والتي تتمثل أساسا في: الأسلوب وتقنية السرد والبنية والحبكة والشخوص والتيمات أو الموضوعات.
ذلك أن تضافر وتشابك وانسجام هذه العناصر ضمن بنية متماسكة هي التي تعطي للعمل القصصي فرادته الفنية وقيمته الأدبية.
وقبل الوقوف عند كل واحد من هذه العناصر على حدة قصد استجلاء مميزاته وطزاجته ومدى إسهامه في تشكيل القيمة الفنية الاجماليبة للقصة , فلابد من إعطاء تلخيص مقتضب للقصة ذاتها.
تتمثل القصة في نشوب صراع مرير بين إطار على قدر كبير من الكفاءة يتصف بالعقلانية والوطنية والاستقامة والتعفف يدعى سيد احمد ولد محمد عبد الله ،قد أسندت إليه إدارة إحدى المؤسسات الوطنية الهامة ،وبين رئيسة السكرتاريا في المؤسسة التي قد تم تعيينها قبله واسمها حسناء بنت اباتا.
تتمتع هذه المرأة بجمال باهر وبقدرة فائقة على إغواء الرجال وإخضاعهم لإرادتها ونزواتها لقاء مكافآت عينية….ومهنية واجتماعية ، ما أتاح لها تشكيل عصابة أخطبوطية متمكنة من مفاصل الدولة ومتغلغلة في أركان الإدارة ومسيطرة على دوائر صنع القرار في البلاد مما جعلها تتحكم في مصائر الناس من خلال الضغوط والابتزاز وشراء الذمم.
وتتلخص وقائع القصة في مواجهة لاهوادة فيها بين هذا الإطار الكفؤ المتشبع بالأخلاق السامية والمؤمن بجدوائية المبادئ النبيلة والحريص على مصالح الوطن العليا وبين العصابة المافيوية المفسدة ، المتنفذة التي تتوسل مقدرا ت البلاد ومؤسساتها لإحكام سيطرتها على كل مرافق الدولة ومفاصل الإدارة و دوائر النفوذ العليا. وبعد مواجهات مريرة تخللها كر وفر وسقوط ونهوض بين الإطار سيد احمد والقلة القليلة التي هي على شاكلته من جهة ،وبين قوي الفساد الملتفة حول حسناء بنت باتا ومن يمالئها أو يغض الطرف عنها من الانتهازيين و الانهزاميين المتخاذلين من جهة أخرى, دارت الدوائر في نهاية المطاف على سيد أحمد بعد أن طرد من عمله عدة مرات وقدم للمحاكمة بتهمة اغتصاب تم تلفيقها ضده، وبعد أن تقاعس عنه أصدقاؤه ووجهاء قبيلته ،وبعد أن غادرته زوجته على إثر ضبطها من قبله متلبسة بالخيانة.
تبعا لذلك كله ترسخ في ذهن سيد احمد أنه لافائدة في الاستقامة ولاطائل من وراء الوطنية والنبل والقناعة في سياق كسياقنا الحالي الذي يتسم بالفساد والارتشاء والجشع وانعدام الضمير والخبث المركب, وتكونت لديه القناعة أن شخصا منفردا لايمكنه مهما كان تصميمه واستماتته أن يواجه بمفرده عصابات منظمة ومجموعات ضغط متكاتفة تسند ظهرها إلى الدولة وتنعم بعطف واحتضان المجتمع. وأيقن أن:
” انما الحديد بالحديد يفلح ” كما يقال.
فقرر ليس فقط أن يرفع راية بيضاء معلنا استسلامه بل أن يبدي استعداده لمهادنة قوى الشر التي كان يصارعها, وبما أن هذه القوى لاترضى إلا عن من دخل ملتها واندمج في دوائرها، فقد سقط سيد احمد في أحضانها متخليا عما كان يومن به من مبادئ ويتبناه من قيم ومثل عليا و ما كان يستأنس به من مواقف ومسلكيات.
بدأ سقوط سيد احمد بتقربه من حسناء بت اباتا واستجابته لإغوائها وتلا ذلك إرجاعه لزوجته التي كان قد فارقها لخياتها له, واتبع الكل بضلوعه في عمليات لسوء تسيير ميزانية الوزارة التي عين أمينا عاما لها مقابل تنازله عن مبادئه. ومثّل ضبط سيد احمد وهو يمارس فاحشة الزنا ء مع حسناء في منزلها, الدرك الأسفل من الهوة السحيقة التي تردي فيها بعد انزلاقه إلى المنحدر المميت الذي انخرط فيه.
هذه هي المأساة التي صورها الأستاذ الشيخ ولد احمدو في هذه القصة المؤثرة, وليست هذه المأساة في الحقيقة مأساة شخص بعينه بقدر ماهي مأساة مجتمع بكامله أدت ظروف طارئة إلى فلب سافله عاليه حيث تغلب فيه الجشع والرذيلة على النبل والفضيلة.
وبعد أن أطلعنا على فحوى القصة بقي علينا أن نلقي بعض الضوء على العناصر المكونة لها التي أومأنا إليها آنفا , وذلك لاستجلاء قيمتها الفنية كإبداع أدبي محدد المعالم.
وبما أن الكتاب يقرأ من عنوانه كما يقال فإني سأبدأ بالحديث عن العنوان الذي اختاره الكاتب لقصته وهو ” للحديث بقية “.
لقد اتصف هذا العنوان في رأيي بنوع من الفرادة جعلني أستطرفه إذ أنه يوحي بشكل مفارق أن القصة قد انتهت قبل أن تبدأ إن أمكن القول وكأن سردها قد أنجز فبل أن يطلع عليها القارئ . وان القصة ذاتها إنما هي تتمة لحديث قد فرغ منه في غياب القارئ, أو بتعبير آخر فإن العنوان يعد القارئ بإنجاز شئ سيتم في المستقبل وهو مكمل لشيء آخر قد تم الفراغ منه وانتهى.
من هاذ المنظور يتحول عنوان القصة إلى مفارقة طريفة تمتاز بشيء من التفرد والطلاوة.
على أن العنوان ذاته ،بعد الفراغ من قراءة القصة ،يوحي بشيء آخر وهو أن ماقد تم تقديمه من “مميزات ” المجتمع الموريتاني الحالي وما يتصف به من فساد لايفي بالغرض بل هناك الكثير مما يمكن قوله في ذاك المضمار, ولما قد جرى عنه من حديث يقية سترد، ربما في قصص لاحقة، مازالت في جعبة الكاتب…
أما بخصوص أسلوب القصة فيتصف بالبساطة والتلقائية والعفوية مع الحرص على التعبيرية والاقتصاد في الكلام واعتماد تقنية السهل الممتنع.
يعمد الكاتب أحيانا إلى استعمال تعابير جارية على الألسن مثل:” سيدة الكل ” ولا يتوانى أحيانا أخرى عند الاقتضاء عن استعمال عبارات حسانية تعطي نكهة محلية خاصة مثل :” عودي متروشة”.
وترصع أسلوب الكاتب اقتباسات مثل :” دون موت عيلان خرق القتاد” و” ما للمغلوب إلا أن يسامح ” تنبئ عن تضلعه في الأدب العربي, كما تنمقه مقولات مثل :” الإقرار سيد الإثبات”, التي تشي بثقافة الرجل القانونية ناهيك عن استشهادات من الأثر مثل ” لانكاح إلا بولي وشاهدى عدل” و” وركنه ولي ” تنبئ هي الأخرى عن إلمام بّين بالثقافة الدينية.
أسلوب القصة بوجه عام يتسم بالجزالة ومطابقة المقال لمقتضى المقام والسهولة والأصالة .وقد اعتمد الكاتب من حيث السرد، تقنية الراوي العليم مما أتاح له عدم الإنغماس المباشر في الأحداث والبقاء على مسافة متساوية من الشخوص ومجريات الأمور.
أما بنية القصة فربما افتقرت إلى هيكلة وتمفصل أكبر بحيث تكون ذات هندسة أو معمار أكثر إحكاما .
إذ كان بالإمكان أن تقوم على فصول منفصلة بدل أن تكون في شكل دفقة واحدة لاتكاد أجزاؤها تتميز عن بعضها البعض إلا بمؤشرات خفبفة.
ولولى أن القصة مشوقة من حيث المحتوى وجذابة من حيث الأسلوب لكانت بنيتها غير مشجعة على قراءتها.
أما حبكتها فمتقنة, حيث أن الكاتب جعل الأحداث تتساوق و الأمور تتأزم إلى أن بلغت ذروة التأزم التي تمثلت في سقوط بطل القصة وموته الأخلاقي والمعنوي بعد أن تحول من بطل إلى “لا- بطل”.
وفيما يتعلق بشخوص القصة فإنه لم يصر إلى تحديد ملامحها وتوصيف نفسياتها بنفس الدقة والتفصيل فمعظم الشخوص قد رسمت قسمات شخصياتها بخطوط عريضة مما جعلها تتسم بنوع من الهلامية.
ولعل الشخوص التي أتقن الكاتب رسم ملامحها وأجاد بلورة نفسياتها وتوصيف ذهنياتها وتحديد الدوافع الكامنة وراء مسلكياتها هما بطلا القصة سيد احمد ولد محمد عبد الله وحسناء بنت باتا, فهاتان الشخصيتان تم بناؤهما بدقة وعناية مكنتا من استكناه سيكولوجتهما ومحددات سلوكهما والمنظومة القيمية التي يستلهمها كل منهما في سلوكه اليومي وفي تحديد مواقفه في الحياة.
وفيما يخص التيمات التي لامسها الكاتب في قصته والمواضيع التي أراد التعرض لها من خلال عمله الروائي، فإن بالإمكان اختزالها في رغبته في تصوير ماقد لحق بالمجتمع الموريتاني من اختلالات على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي, وماقد ألم به من إخفاقات على صعد القيم والأخلاق والمسلكيات في الإطار الزمني الممتد من نهاية السبعينيات من القرن المنصرم إلى اليوم .
كما عمد الكاتب إلى إبراز مختلف تجليات الصراع بين الفساد والاستقامة والجشع والقناعة والوطنية والتنكر للبلاد و الطمع والتعفف والأخلاق والتفسخ والخبث والطيبوبية , وأوضح استحالة التعايش بين الفساد والإصلاح والعقلانية والتهور والهدم والبناء …
وبين الكاتب أن هذه الثنائيات المتناقضة تعتمل داخل المجتمع الموريتاني الحالي ,وقد يؤدي اصطراعها واستضامها يبعضها إلى إخلالات متعددة الأبعاد خليقة بأن تهدد النمو الاقتصادي والتطور الاجتماعي والارتقاء الحضاري للبلاد إذا لم يتم تداركها بالسرعة المستطاعة.
هذا ما يمكن، في عجالة ، قوله حول قصة الكاتب الشيخ ولد احمدو ” للحديث بقية ” التي أثرى بها الساحة الثقافية التي تعاني كما أومأنا إليه فيما تقدم من جفاف ماحق تظهر معه الحاجة الماسة إلى إقامة المزيد من صلوات الاستسقاء مع الصدع بدعوات الاستدرار.., ولعل في كل هذا ما يحدونا إلى التعبير عن وافر الامتنان للأستاذ الشيخ ولد احمدو على تجشمه مشقة إنتاج هذا العمل الأدبي الجليل رغم مايكتسيه هكذا مجهود من صعوبة بالغة في سياق كسياقنا يندر فيه الاهتمام بالشأن الثقافي ويتعذر فيه الانشغال بالإبداع الأدبي.
وإن أولي البقية من النخبة الوطنية ومن حملة الهم الثقافي لينتظرون بفارغ الصبر ما ذكر الكاتب أن لحديثه من بقية. وقد أنجز حر ما وعد.
لم أكن قد قرأت القصة قبل حضوري للندوة ولذلك لم يكن بمقدوري استبطان وتقدير وجاهة ماقيل حول خصائصها الفنية وقيمتها المميزة كإبداع أدبي .
ولما عدت من الندوة التي كنت قد حصلت خلالها على نسخة من القصة ،أقبلت على قراءة هذا العمل , ولم أتوقف عن القراءة حني أكملته.
وعلى ضوء إلمامي بالقصة في بنيتها وتقنياتها وتيماتها , استبنت مضمون التقييم النقدي الذي قدمه الدكتور محمد الحسن.
ثم تبين لي أن ثمة زوايا نظر أخرى كفيلة إذا ماتمت مقاربة القصة من خلالها بإلقاء المزيد من الضوء على خصائصها الفنية ورمزيتها الدلالية ومضامينها الأخلاقية والفلسفية ولعل تقييم هذه القصة , شأنها شأن غيرها من القصص الأخرى, يقتضي التمعن في عناصرها المكونة التي تشكل مقوماتها ولحمنها وسداها كعمل فني , والتي تتمثل أساسا في: الأسلوب وتقنية السرد والبنية والحبكة والشخوص والتيمات أو الموضوعات.
ذلك أن تضافر وتشابك وانسجام هذه العناصر ضمن بنية متماسكة هي التي تعطي للعمل القصصي فرادته الفنية وقيمته الأدبية.
وقبل الوقوف عند كل واحد من هذه العناصر على حدة قصد استجلاء مميزاته وطزاجته ومدى إسهامه في تشكيل القيمة الفنية الاجماليبة للقصة , فلابد من إعطاء تلخيص مقتضب للقصة ذاتها.
تتمثل القصة في نشوب صراع مرير بين إطار على قدر كبير من الكفاءة يتصف بالعقلانية والوطنية والاستقامة والتعفف يدعى سيد احمد ولد محمد عبد الله ،قد أسندت إليه إدارة إحدى المؤسسات الوطنية الهامة ،وبين رئيسة السكرتاريا في المؤسسة التي قد تم تعيينها قبله واسمها حسناء بنت اباتا.
تتمتع هذه المرأة بجمال باهر وبقدرة فائقة على إغواء الرجال وإخضاعهم لإرادتها ونزواتها لقاء مكافآت عينية….ومهنية واجتماعية ، ما أتاح لها تشكيل عصابة أخطبوطية متمكنة من مفاصل الدولة ومتغلغلة في أركان الإدارة ومسيطرة على دوائر صنع القرار في البلاد مما جعلها تتحكم في مصائر الناس من خلال الضغوط والابتزاز وشراء الذمم.
وتتلخص وقائع القصة في مواجهة لاهوادة فيها بين هذا الإطار الكفؤ المتشبع بالأخلاق السامية والمؤمن بجدوائية المبادئ النبيلة والحريص على مصالح الوطن العليا وبين العصابة المافيوية المفسدة ، المتنفذة التي تتوسل مقدرا ت البلاد ومؤسساتها لإحكام سيطرتها على كل مرافق الدولة ومفاصل الإدارة و دوائر النفوذ العليا. وبعد مواجهات مريرة تخللها كر وفر وسقوط ونهوض بين الإطار سيد احمد والقلة القليلة التي هي على شاكلته من جهة ،وبين قوي الفساد الملتفة حول حسناء بنت باتا ومن يمالئها أو يغض الطرف عنها من الانتهازيين و الانهزاميين المتخاذلين من جهة أخرى, دارت الدوائر في نهاية المطاف على سيد أحمد بعد أن طرد من عمله عدة مرات وقدم للمحاكمة بتهمة اغتصاب تم تلفيقها ضده، وبعد أن تقاعس عنه أصدقاؤه ووجهاء قبيلته ،وبعد أن غادرته زوجته على إثر ضبطها من قبله متلبسة بالخيانة.
تبعا لذلك كله ترسخ في ذهن سيد احمد أنه لافائدة في الاستقامة ولاطائل من وراء الوطنية والنبل والقناعة في سياق كسياقنا الحالي الذي يتسم بالفساد والارتشاء والجشع وانعدام الضمير والخبث المركب, وتكونت لديه القناعة أن شخصا منفردا لايمكنه مهما كان تصميمه واستماتته أن يواجه بمفرده عصابات منظمة ومجموعات ضغط متكاتفة تسند ظهرها إلى الدولة وتنعم بعطف واحتضان المجتمع. وأيقن أن:
” انما الحديد بالحديد يفلح ” كما يقال.
فقرر ليس فقط أن يرفع راية بيضاء معلنا استسلامه بل أن يبدي استعداده لمهادنة قوى الشر التي كان يصارعها, وبما أن هذه القوى لاترضى إلا عن من دخل ملتها واندمج في دوائرها، فقد سقط سيد احمد في أحضانها متخليا عما كان يومن به من مبادئ ويتبناه من قيم ومثل عليا و ما كان يستأنس به من مواقف ومسلكيات.
بدأ سقوط سيد احمد بتقربه من حسناء بت اباتا واستجابته لإغوائها وتلا ذلك إرجاعه لزوجته التي كان قد فارقها لخياتها له, واتبع الكل بضلوعه في عمليات لسوء تسيير ميزانية الوزارة التي عين أمينا عاما لها مقابل تنازله عن مبادئه. ومثّل ضبط سيد احمد وهو يمارس فاحشة الزنا ء مع حسناء في منزلها, الدرك الأسفل من الهوة السحيقة التي تردي فيها بعد انزلاقه إلى المنحدر المميت الذي انخرط فيه.
هذه هي المأساة التي صورها الأستاذ الشيخ ولد احمدو في هذه القصة المؤثرة, وليست هذه المأساة في الحقيقة مأساة شخص بعينه بقدر ماهي مأساة مجتمع بكامله أدت ظروف طارئة إلى فلب سافله عاليه حيث تغلب فيه الجشع والرذيلة على النبل والفضيلة.
وبعد أن أطلعنا على فحوى القصة بقي علينا أن نلقي بعض الضوء على العناصر المكونة لها التي أومأنا إليها آنفا , وذلك لاستجلاء قيمتها الفنية كإبداع أدبي محدد المعالم.
وبما أن الكتاب يقرأ من عنوانه كما يقال فإني سأبدأ بالحديث عن العنوان الذي اختاره الكاتب لقصته وهو ” للحديث بقية “.
لقد اتصف هذا العنوان في رأيي بنوع من الفرادة جعلني أستطرفه إذ أنه يوحي بشكل مفارق أن القصة قد انتهت قبل أن تبدأ إن أمكن القول وكأن سردها قد أنجز فبل أن يطلع عليها القارئ . وان القصة ذاتها إنما هي تتمة لحديث قد فرغ منه في غياب القارئ, أو بتعبير آخر فإن العنوان يعد القارئ بإنجاز شئ سيتم في المستقبل وهو مكمل لشيء آخر قد تم الفراغ منه وانتهى.
من هاذ المنظور يتحول عنوان القصة إلى مفارقة طريفة تمتاز بشيء من التفرد والطلاوة.
على أن العنوان ذاته ،بعد الفراغ من قراءة القصة ،يوحي بشيء آخر وهو أن ماقد تم تقديمه من “مميزات ” المجتمع الموريتاني الحالي وما يتصف به من فساد لايفي بالغرض بل هناك الكثير مما يمكن قوله في ذاك المضمار, ولما قد جرى عنه من حديث يقية سترد، ربما في قصص لاحقة، مازالت في جعبة الكاتب…
أما بخصوص أسلوب القصة فيتصف بالبساطة والتلقائية والعفوية مع الحرص على التعبيرية والاقتصاد في الكلام واعتماد تقنية السهل الممتنع.
يعمد الكاتب أحيانا إلى استعمال تعابير جارية على الألسن مثل:” سيدة الكل ” ولا يتوانى أحيانا أخرى عند الاقتضاء عن استعمال عبارات حسانية تعطي نكهة محلية خاصة مثل :” عودي متروشة”.
وترصع أسلوب الكاتب اقتباسات مثل :” دون موت عيلان خرق القتاد” و” ما للمغلوب إلا أن يسامح ” تنبئ عن تضلعه في الأدب العربي, كما تنمقه مقولات مثل :” الإقرار سيد الإثبات”, التي تشي بثقافة الرجل القانونية ناهيك عن استشهادات من الأثر مثل ” لانكاح إلا بولي وشاهدى عدل” و” وركنه ولي ” تنبئ هي الأخرى عن إلمام بّين بالثقافة الدينية.
أسلوب القصة بوجه عام يتسم بالجزالة ومطابقة المقال لمقتضى المقام والسهولة والأصالة .وقد اعتمد الكاتب من حيث السرد، تقنية الراوي العليم مما أتاح له عدم الإنغماس المباشر في الأحداث والبقاء على مسافة متساوية من الشخوص ومجريات الأمور.
أما بنية القصة فربما افتقرت إلى هيكلة وتمفصل أكبر بحيث تكون ذات هندسة أو معمار أكثر إحكاما .
إذ كان بالإمكان أن تقوم على فصول منفصلة بدل أن تكون في شكل دفقة واحدة لاتكاد أجزاؤها تتميز عن بعضها البعض إلا بمؤشرات خفبفة.
ولولى أن القصة مشوقة من حيث المحتوى وجذابة من حيث الأسلوب لكانت بنيتها غير مشجعة على قراءتها.
أما حبكتها فمتقنة, حيث أن الكاتب جعل الأحداث تتساوق و الأمور تتأزم إلى أن بلغت ذروة التأزم التي تمثلت في سقوط بطل القصة وموته الأخلاقي والمعنوي بعد أن تحول من بطل إلى “لا- بطل”.
وفيما يتعلق بشخوص القصة فإنه لم يصر إلى تحديد ملامحها وتوصيف نفسياتها بنفس الدقة والتفصيل فمعظم الشخوص قد رسمت قسمات شخصياتها بخطوط عريضة مما جعلها تتسم بنوع من الهلامية.
ولعل الشخوص التي أتقن الكاتب رسم ملامحها وأجاد بلورة نفسياتها وتوصيف ذهنياتها وتحديد الدوافع الكامنة وراء مسلكياتها هما بطلا القصة سيد احمد ولد محمد عبد الله وحسناء بنت باتا, فهاتان الشخصيتان تم بناؤهما بدقة وعناية مكنتا من استكناه سيكولوجتهما ومحددات سلوكهما والمنظومة القيمية التي يستلهمها كل منهما في سلوكه اليومي وفي تحديد مواقفه في الحياة.
وفيما يخص التيمات التي لامسها الكاتب في قصته والمواضيع التي أراد التعرض لها من خلال عمله الروائي، فإن بالإمكان اختزالها في رغبته في تصوير ماقد لحق بالمجتمع الموريتاني من اختلالات على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي, وماقد ألم به من إخفاقات على صعد القيم والأخلاق والمسلكيات في الإطار الزمني الممتد من نهاية السبعينيات من القرن المنصرم إلى اليوم .
كما عمد الكاتب إلى إبراز مختلف تجليات الصراع بين الفساد والاستقامة والجشع والقناعة والوطنية والتنكر للبلاد و الطمع والتعفف والأخلاق والتفسخ والخبث والطيبوبية , وأوضح استحالة التعايش بين الفساد والإصلاح والعقلانية والتهور والهدم والبناء …
وبين الكاتب أن هذه الثنائيات المتناقضة تعتمل داخل المجتمع الموريتاني الحالي ,وقد يؤدي اصطراعها واستضامها يبعضها إلى إخلالات متعددة الأبعاد خليقة بأن تهدد النمو الاقتصادي والتطور الاجتماعي والارتقاء الحضاري للبلاد إذا لم يتم تداركها بالسرعة المستطاعة.
هذا ما يمكن، في عجالة ، قوله حول قصة الكاتب الشيخ ولد احمدو ” للحديث بقية ” التي أثرى بها الساحة الثقافية التي تعاني كما أومأنا إليه فيما تقدم من جفاف ماحق تظهر معه الحاجة الماسة إلى إقامة المزيد من صلوات الاستسقاء مع الصدع بدعوات الاستدرار.., ولعل في كل هذا ما يحدونا إلى التعبير عن وافر الامتنان للأستاذ الشيخ ولد احمدو على تجشمه مشقة إنتاج هذا العمل الأدبي الجليل رغم مايكتسيه هكذا مجهود من صعوبة بالغة في سياق كسياقنا يندر فيه الاهتمام بالشأن الثقافي ويتعذر فيه الانشغال بالإبداع الأدبي.
وإن أولي البقية من النخبة الوطنية ومن حملة الهم الثقافي لينتظرون بفارغ الصبر ما ذكر الكاتب أن لحديثه من بقية. وقد أنجز حر ما وعد.
نواكشوط 2 شتنبر 2012