تشهد الساحة السياسة هذه الأيام، تطورات دقيقة، تنبئُ بِوشكِ حدوثِ تحولات هامة، تَقلبُ كل شيء رأسا على عقب، و تُحدثُ فوضى خلاقة، تَرسمُ خارطة سياسية جديدة، تكون قطيعة نهائية مع الماضي، وتؤسس لديمقراطية حقيقية، يحكم فيها الشعب نفسه بنفسه. يبدو الموقف معقدا والساسة غير قادرين لا على فهمه، ولا تحيينه، ولا الإحاطة به، فضلا عن التحكم فيه وتَوجيهِهِ، و باءت كل محاولاتهم للسيطرة عليه بالفشل.
حاول النظام أن يسيطر على الوضعية ويوجهها، ويغير مجرى ذلك الغمام الحالك الذي يكاد يطبق على السماء من فوقنا. ركن إلى الحوار، بعد ما لم يكن يرى له جدوائية، وألحّ به على المعارضة إلحاحا، ونجح بذلك أن يؤثر على مجاري الأمور ويوجهها إلى وجهة يرضاها، وجهة تسمح له بمواكبتها وإدارتها. طلب النظام من المعارضة الحوار، وبدا جادا لمناقشة كل شيء، ومستعدا لتقديم كل التنازلات المطلوبة.
كان ولد عبد العزيز رهين وضعية لا يحسد عليها. و كانت الثورة قد حصدت أنظمة اعتبرها الملهم والمرشد، وكانت من ساعده في انقلابه على الشرعية الدستورية، بل هي من أَوعزَ إليه أصلا بالانقلاب خوفا من عدوى الديمقراطية، لو كتب لها النجاح في بلد عربي – موريتانيا- يشبه، في بداوته الشعب الليبي إلى حد كبير. سقط نظام القذافي، و سقط قبله بأيام نظام زين العابدين بن علي في تونس، والنظام المصري رغم ما كان يقال عنه من قوة، وعن دكتاتورية مبارك و عناده وحيلته، ومقدرته على تجاوز الأزمات.
رأى ولد عبد العزيز كل تلك الهَاماتِ، التي اعتبرها قدوة و نماذج للمحاكاة في ممارسة الدكتاتورية على الشعوب والاستئثار بالسلطة، تتساقط أمامه كأوراق الصيف، ليس فيها من يقدر على مواجهة الطوفان الذي يدفعه هو و نظامه للهاوية، و لا يقدرون على شيء للبلاء الذي هم مبتلون به. همَّ حينها بالتلافي، و الإيواء إلى قمة يحتمي بها من أمواج الثورة وتنكيلها عندما تندلع و يطغى الماء ويغرق كل شيء.
قبل بعض الأحزاب الحوار، لأول مرة مع ولد عبد العزيز، و رفض البعض الآخر أن يحاوره بعد ما حاوره سابقا ونكص له العهد و الالتزامات التي وعد بها، وسخر منهم بعد ذلك ومن الاتفاقيات التي أبرم معهم. انخدع فيه زعيم المعارضة مرتين ، مرة بعد الانقلاب على الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد لله، الذي ساند آنذاك على تعهد منه أن يسلمه السلطة، ثم أفشى ذلك السرّ لاحقا عندما أراد التملص من التزامه، بعد نجاح انقلابه على الرئيس المنتخب، و استتباب الوضع له.
ثم عاد بعد ذلك ليسخر ممن سانده في النائبات الشِّدادِ، وأضفى على انقلابه شرعية كادت تَستعصِي عليه لولا العبقرية التي حولت فظاعة آخر انقلابات العصر الحديث، بعدما أمقتتها كل الأخلاق و الأعراف السياسية، إلي حركة تصحيحية. ثم خدعه وسخر ثانية حين قايضه على الاعتراف بشرعية انتخابه المزور، وكرئيس شرعي للجمهورية على أن يكون بينه وإياه اتفاقا و تفاهمات على تسيير الدولة وقسمة الكعكة.
لم يَفِ الجنرال يوما بما تعهد به “للزعيم”، و خدعه في كل مرة، ثم خدعه وخدع بعده غيره، ولم يسلم من خديعته ولا من خيانته أحد ممن خالطه، حتى بنو عمومته لم يسلموا، ولم يسلم من نصحه وناصحه واعرض عن معارضته إلى مُناصحته، مُناصحة شراكية، و خاض الانتخابات إلى جانبه و وحد لوائحه معه مقايضا إياه، لدى تجديد ثلث مجلس الشيوخ – عِوضًا عن : المبدء المقدس،”للذكر مثل حظ الأنثيين” – شيخة بديلا عن شَّيخين. وفي كل مرة ينقلب عليهم كانقلاب السحر على الساحر، ثم يضحك لخديعته غير آبه بهم، إذا وعدهم أخلف وكلما أتمنوه خان.
يَالبلادتهم و يَالعبقريته، كيف يخدعهم مرة تلو الأخرى، وكيف ينخدعون فيه مرة تلو المرة؟ أأصبح “المِزْوِدُ” يمتلئ بعد الكذبة الثانية و يمتلئ بعد الثالثة والرابعة، إنه زمن العجائب الذي يتحول فيه الانقلاب إلى إصلاح و يمتلئ “المزود” من كذبتين ومن ثلاثة وكلما كذب عليه بعد ذلك يمتلئ. استمر الكذب إلى أن ظننا أنه لن ينجلي، حتى جاء ذلك اليوم الذي فَزِعَ فيه من الثورات، و طلب منّا الحوار، واقسم بكل غال ونفيس أن يلتزم به، وتعهد بتقديم كل التنازلات المرجوة، و رغم تعهداته رفض بعضنا الحوار معه. الحمد لله أن هدانا هذه المرة ولم يشأ أن ننخدع جميعا بعد كُلَ ما حلَّ بنا.
ارتفع الماء وبلغ الحناجر وفزع الحكام وأيقنوا الهلاك، فصاح فرعون بالشهادة والاستسلام للقدر المريع. استدرك أن يشهد بوحدانية الخالق، و أن لا يقمع أبدا بعدها شعبه الذي تمادى في احتقاره و إذلاله، لعله ينجو بجسده من تنكيل الثورة. صرخ مستنجدا بالحوار، فكان الصمت مطبقا ومريعا، لم يرد أحد على نداء استغاثته، حتى كاد ييأس من أن يعار نداؤه اهتماما، وأخيرا لبى خَيِّرٌ ذلك النداء لينقذ الوطن و قائده التَّائه المرتبك. لبى الزعيم مسعود ولد بلخير، رئيس حزب التحالف الشعبي التقدمي و رئيس الجمعية الوطنية طلب الحوار لينقذ موريتانيا من عذاب مستطير، ساقه إليها تأمُّر مترفها، ماكان ليحل بها حتى تزهق أرواح، وتدمر ممتلكات، وتنوح الثكالى والأرامل والأيتام مثل ما ناحت في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن والقائمة تطول.
انطلق الحوار، وكان هذه المرة جادا. تعرض لجميع المواضيع، ونوقشت فيه كل القضايا، و قَدَّم الجنرال و ممثلوه كل التنازلات المطلوبة. تَمتْ مراجعة الدستور لِتُمنحَ صلاحيات أكبر للوزير الأول، و أدرج فيه رفض العبودية و تجريمها، و نُصَّ فيه على الاختلاف بين مكونات الشعب الموريتاني، مما يحقق نقلة نوعية للوحدة الوطنية. كما جاءت تعديلات نموذجية، شملت اللجنة الوطنية للانتخابات وتجريم الانقلابات وتعديل قوانين حرية الصحافة والتعبير.
كان الحوار بمنتهى الجدية وتوصل لنتائج هامة، شَكلت ثورة على كل ما كان قائما، وأصلحت كل الاختلالات التي عانت منها شفافية الانتخابات وحرية التعبير وحسن التسيير والحكامة. ثم ما فَتِئنا أن بدأ البرلمان في تقنين نتائج الحوار. فتمت المصادقة على كل القوانين، أو بالأحرى غالبية القوانين التي تم الاتفاق عليها : التعديلات الدستورية و القانون المنشئ للجنة الوطنية للانتخابات، والسلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية، و اتجه النظر إلى المستقبل، مستقبل الحوار والانتخابات.
فجأة خرج علينا “المُخرِّجُون” بخرجة جديدة، تفضي بأنه لايزال هناك حوار آخر يجري التحضير له مع الطابور الآخر، ليدار الظهر بذلك لنتائج الحوار التي لم تطبق بعد، ويبدأ حوار جديد لن يكتب لنتائجه أن تطبق قبل أن يندفع حوار آخر مع طابور ثالث ثم رابع ويمتلئ “المِزْوِدُ” رابعًا وخامسًا، و يمتلئ بعد ذلك كل ما كُذِب عليه تماماً “كالكَمُّونْ”.
خرج ولد عبد العزيز من قصره “ليُخرِّج” علينا بحوار جديد. وخرج معه مَارِدُهُ من قُمْقُمِهِ ليفشي الخديعة والمكيدة والنكوص عن المواثيق والمعاهدات، ويضحك علينا من جديد كما ضحك من الحوار الأول و على طابوره و من الحوار الثاني و على طابوره وتستمر الحكاية. ظنَّ آخر مُلوكِ إفريقيا، بعد موت مَلِك ملوكها، أنه بالمكيدة يكون قد نجا من الثورة واحتال عليها بالحوار، و أن كل شيء انتهى والحيلة انطلت على الشعب و أنه لن يثور عليه بعد ذلك. لكن المسألة أكثر تعقيدا مما يتوهمه، فالثورة لا تقبل التحايل ولا يمكن لِغِرٍ خديعتها مهما مكر بشعبه ونظرائه، فهي تنتقم من ذات الحكام الذين يخونون شعوبهم ويُنكلون بها.
اكتفى النظام على ما يبدو بفلكلور انطلاقة الحوار و بفلكلور خاتمته، ولم يأبه بتطبيق نتائجه. لم يطرأ أي شيء، لا القوانين التي صادق عليها البرلمان طبقت ولا طريقة تعامل النظام مع شركائه من معارضة أو من أغلبيته تغيرت، بل ازدادت شراسته في القمع وتنكيله بالمظاهرات حتى السلمية منها. و لا طريقة تعامل الإعلام العمومي مع الحدث تغيرت هي الأخرى، بل ازداد تأليهه لولد عبد العزيز و لحكومته ضاربا بالموضوعية عرض الحائط. ولم يطرأ أي شيء على شفافية التعيينات ولا على انفتاحها على أطر المعارضة. ومازال التسيير ذاته بذاته ولم يتغير شيء، كأننا لم نحاوره بعد. لم يفهم الطاغية حقيقة الثورة، فكأني به لم يدرك أن الثورات التي تجتاح عالمنا العربي اليوم، هي ريح تغيير تستأصل الدكتاتوريين و لن يسلم من بأسها أحد منهم، وأنها لن تبقي منهم ولن تذر.
إن ريح الثورة ستطال العالم بأسره، ولن يستثنى منها قِطر ولا بلد مهما كان إرهابه لمواطنيه وشراسته في قمعهم، كما لن ينجو من تأثيراتها بلد مهما كانت عراقته في ممارسة الديمقراطية و احترامه للحقوق، إن لم يقم بالإصلاحات التي يمليها العصر الجديد. إنها حتم وقدر سيغير العالم بأسره ويجعله أكثر عدالة وأكثر حرية كما لم يشهد من قبل.
بدأت الثورة في تونس ثم تلتها مصر ثم بعد ذلك ليبيا ثم اليمن وسوريا ثم في “وولد ستريت”بآمريكا والصين وروسيا والأردن فالبحرين و القائمة تطول، ومازالت تمخضاتها وإرهاصاتها تخيم على الدول الأخرى، و لن يحرم من خيرها شعب ولا من تنكيلها نظام حتى تعم بركتها الأرض بما رحبت. ومهما جهل الحكام وتشابه جهلهم، جهلت الثورة فوق جهل الجاهلين.
إننا سنشهد الثورة على غرار البلدان الأخرى – مع أننا نرفض عنفها وآلامها – لاشيء يمكنه الحيلولة دونها والإرهاصات الحالية تؤكد ذلك، بعد تلاعب الجنرال بنتائج الحوار، رغما عن محاولة البلاط وبلاطجته عرقلتها. فكيف لا تحدث فينا الثورة ونحن أبعد ما نكون من تطبيق الديمقراطية؟ وكيف لا تحدث الثورة ولازالت المظالم تمارس فينا؟ وكيف لا تحدث الثورة ونحن الثائرون منذ عقود من الزمن ضد العبودية و الغبن؟ كيف لا نثور والفساد فينا شائع يدوس الجميع فيرديه فقرا؟ كيف لا نثور وشواطئنا الأغنى وفينا الجياع؟ كيف لا نثور وأرضنا الملآى بالخيرات وفينا البطالة والفقراء؟ كيف لا نثور ونحن الأغنى ذهبا وأكبر مصدريه للعالم ويموت فينا الناس جوعا؟ سنثور لا محالة، إن لم تطبق نتائج حوارنا كلها إلى أن تبلغ مداها و يتحرر شعبنا، و يلج بلدنا ركب الديمقراطية، و يشيع فينا العدل والمساواة، ويتقدم اقتصادنا وينمو.
اليوم انتفض العالم بأسره، و لن تكون موريتانيا الاستثناء. لن نقبل خديعة “الِمزْوِد” المنتفخ و إن تمادى، فالحكمة : أن لا “تزغرد أم السارق دوما”. لن يقبل مسعود أن يُخدع في الحوار كما أوقع بمعارضين قبله، و ردة فعله ستكون قاسية إن هم المخادع التلاعب به. ولن تقبل المعارضة الرافضة للحوار أن يوقع بها بعد اليوم، فالحيلة انطلت عليها مرارا، وخدعت تكرارا حتى حُصنت عن الكذب والخديعة، و باتت تترقب الفرصة للانتقام من “المِزْوِدِ” المنتفخ دوما فَتعْقره، وتستدرجه إلى حوار لن يقتنع بجديته غيره، فتعجزه به. وتجعله يولي الدبر للمعارضة المحاورة، فيخونها، وبها يكون خان آخر من وثق به و حاوره بعد ما رفض الآخرون الحوار معه، فيصبح وحيدا عديم الشرعية، عديم الثقة، وعديم المصداقية في مواجهة الطوفان، فتتأجَّجُ ضده الثورة، فتزيل نظامه وتنهي الحقبة العسكرية الجاثمة فوق صدورنا ؛ فينهار به جرفه الهاري، و تغرقه الأمواج، و تُجرفه السيول، فتبعده إلى ما أُبعد إليه لا زينَ عابدٍ ولا مباركٍ، مصيرَ قذَّافٍ داميٍ لا صالحٍ ولا بشَّارٍ.