سم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على نبيه الكريم
وبعد :
فالجدل الذي أثارته زيارة الداعية الإسلامي الحبيب علي الجفري للقدس لا يخلو أن يكون منشؤه سياسيا أو يكون شرعيا؛ فإن كان سياسيا وفرضنا أن هذه الزيارة غير صواب فما كنت أتوقع أن الأمر يستحق أن تصل فيه هذه الضجة إلى ما وصلت إليه فالرجل ليس من رجالات السياسة حتى يشنع هذا الخطأ في حقه؛ إذ الخطأ إنما ينبغي أن يشنع في حق أهل ميدان نوعه : فكما لا يشنع عادة في حق السياسيين خطؤهم في حكم شرعي كذلك لا ينبغي أن يشنع على رجال الدين خطؤهم في السياسة، مع أن للزيارة مسوغات سياسية مقنعة في رأيي ورأي كثيرين.
وإن كان منشأ الجدل المذكور شرعيا – وهو ما يوحي به كون حملة لوائه لهم انتماءاتهم الدينية المرموقة، وهو أيضا اللائق أن تقوم فيه ضجة على داعية إسلامي بحجم الحبيب الجفري – فإني سأعرض فيه على حضرات السادة متزعمي هذه الحملة شبها بدا لي في رأيي المتواضع أنها كانت كفيلة بأن تدرأ هذه الضجة عن الحبيب الجفري في الزيارة المذكورة ليبينوا لي هل أنا موفق في هذا العرض أم لا ؟ :
أولا : لا شك أن مما لا ينكره المعارضون للزيارة أن شد الرحال لزيارة بيت المقدس والصلاة فيه أمر ثابت مرغب فيه بالأحاديث الصحيحة الصريحة التي تضيق هذه العجالة عن سردها وهم أعرف بها مني، وإذا كان الأمر كذلك فالأصل مشروعيتها ومدعي خلاف ذلك عليه أن يبين ما ذا عمل مع هذه الأحاديث فهل نسخت – والنسخ لا يقع بعد النبي صلى الله عليه وسلم – أو أولت أو عارضها ما هو أقوى منها، عليه أن يبين أي ذلك وقع معضدا بنصوص من المتقدمين من فقهاء وشراح حديث. خاصة وأن كثيرا من مشنعي هذه الزيارة – وليس كلهم – تعودنا منهم أنهم لا يولون اهتماما لكلام العلماء وإنما الحجة عندهم فيما قال الله أو قال رسوله وبأسانيدهم الخاصة لا فيما علمه الذين يستنبطونه منهم.
أما التعلل بأن الزيارة تطبيع أو أنها لا تصب في مصلحة القدس أو أنها تخالف فتاوي معاصرة فلم يتضح لي – وقد يكون لقصور باعي – أن أيا من هذه الثلاثة يصلح لمعارضة النصوص؛ فالتطبيع مصطلح سياسي معاصر لم نجد له ذكرا في كتب التعريفات لا عند الجرجاني ولا غيره حتى نعرف فيه رأي المتقدمين الذين هم أعرف منا بتفسيرات النصوص هل يصلح أن يكون مخصصا أو مقيدا لأحاديث الباب.
وأما كون الزيارة مخالفة للمصلحة فالمصلحة هنا إذا تنزلنا نقول أقوى حالاتها أن تكون من المصالح المرسلة التي شدد إمام الحرمين الجويني النكير على الإمام مالك في اعتبارها مع أنها لم يخل مذهب من اعتبارها شاء أم أبى ولا شك أن كثيرا من الفروع الفقهية في مختلف المذاهب كانت هي مدركه. ولا شك أن حسن الظن بالسادة الأفاضل المعارضين للزيارة يقتضي أنهم إنما عارضوها حمية للدين وغيرة على القدس وأنهم يرونها مخالفة للمصلحة، لكن الذي يظهر أن هذه المصلحة لا تصل حتى لأن تكون مرسلة فيصح التعليل بها عند من يعتبر المصالح المرسلة؛ إذ الوصف المرسل في اصطلاح الأصوليين هو ما لم يشهد له شرع باعتبار ولا بإلغاء، بل الواضح أنه من باب الوصف الغريب الذي علمه الشارع وألغاه والذي أطبق الأصوليون على أنه لا يعلل به ولذلك أجمعوا هم والفقهاء على تخطئة يحيى بن يحيى الليثى تلميذ مالك حين اعتبره في فتوى أفتى بها حاكم الأندلس إذ ذاك في واقعة مشهورة مليئة بها الكتب.
وأيضا التعليل به يقدح فيه بالقادح المسمى عند الأصوليين بفساد الاعتبار الذي هو عبارة عن مخالفة القياس أو التعليل لنص أو إجماع.
وأما الاستناد لفتاوى معاصرة فمع احترامنا لمن صدرت منهم وحسن ظننا بهم أنهم إنما أرادوا إظهار الحق وقالوا ما أداهم إليه اجتهادهم نقول إنها إذا غضضنا النظر عن مخالفتها للنصوص معارضة بمثلها فإننا نعرف علماء حقا أجلاء قطعا لا يقصرون عن مثل مصدريها يرون أن هذه الفتاوى ليست مصيبة وأن القدس لا ينبغي أن تترك لليهود لوحدهم.
ثانيا : أن احتلال الكفار لبلد من بلاد المسلمين ليس أمرا طارئا بل لا يكاد يخلو منه زمن ومن أشهر وقائعه احتلال الروم لبيت المقدس الذي دام ما بين عامي 492 و 583 هـ ولم نجد في كتب التاريخ ولا في كتب الفقه والنوازل ولم يفدنا به منتقدو الزيارة أن فقيها كائنا من كان أفتى بعدم جواز دخول هذه البلاد ما دامت محتلة هذا مع حرص الفقهاء على البحث في حكم كل واقعة نزلت بل كثيرا ما يفترضون وقوع غير واقع ويبحثون حكمه. ولا شك أنه لو وقع مثل هذه الفتاوي على مر عصور الفقه الإسلامية لنقل إلينا؛ إذ الكتب تنقل ما هو أقل أهمية من هذا من غث وسمين.
ثالثا : أنني أرى أن احتجاج الحبيب الجفري على مشروعية زيارته هذه للقدس بزيارة النبي صلى الله عليه وسلم لمكة في عمرة القضاء ومكة إذ ذاك تحت حكم قريش احتجاج في محله. وإذا كان بعض ممن يكتب على صفحة التواصل الاجتماعي قد سخر من هذا الاحتجاج ووجه سؤالا للحبيب الجفري يقول له فهل أنت صالحت اليهود لتدخل عليهم كما صالح النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة ؟ فأقول له إن المسلمين حين خروجهم من المدينة متوجهين لمكة بنية العمرة ومعهم هديهم لم يكن إذ ذاك بينهم صلح مع قريش وإنما الصلح الذي جرى في الحديبية الذي يشير إليه هذا الكاتب أمر جر إليه الواقع لما علم النبي صلى الله عليه وسلم أن قريشا خرجوا ومعهم العوذ المطافيل وقد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله أن لا يدخل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم مكة أبدا. فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يبعث لهم الرسل – ومنهم سيدنا عثمان بن عفان – يبين لهم أنه إنما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته يريد منهم أن يتركوه والمسلمين يعتمرون ولم تزل الرسل بينه وبينهم تترى حتى جاء سهيل بن عمرو وعقد معه الصلح المذكور الذي كان من ضمنه أنه يرجع عنهم هذا العام ويخرج عنه قريش العام القادم لمدة ثلاثة أيام حتى يعتمر هو وأصحابه. ولا شك أن سلطة قريش على مكة حينها غير شرعية لكنها واقع لا بد من التعامل معه وهذا ما يخطر بخلدي أن أسأل السادة العلماء فيه سؤال جاهل مسترشد هل يمكن أن يستأنس به للتأشيرة التي دندن حولها الكثيرون التي هي – والحمد لله – لم تكن.
وإذا كان بعض الكتاب اعترف بضرورة زيارة المسلمين دائما للقدس لكن ليس بحجم شخصية مثل الحبيب الجفري إذ زيارة مثل هذه الشخصية دعم للاحتلال فأقول له: أتدري من زائر مكة في عمرة القضاء ؟
رابعا : لقد شكك الدكتور أسامة الأشقر في استدلال الحبيب الجفري بزيارة الإمام الغزالي لبيت المقدس وهو إذ ذاك محتل وقال بالحرف “ولم أجد أحدا من أهل العلم ذكر ما قاله الشيخ الجفري وإلا فليأتنا ببيان ذلك” فأقول له : إن الذي يظهر أن ما قاله الحبيب الجفري صحيح فإن الشيرازي في طبقات الفقهاء ج 1 ص 248 وقاضي شهبة في طبقات الشافعية ج 1 ص 293 ذكرا أن الغزالي بعد ما حج رجع إلى دمشق ومكث عشر سنين بمنارة الجامع وصنف فيها كتبا منها الأحياء ثم سار إلى القدس والأسكندرية. وقد ذكر السبكي في طبقات الشافعية الكبرى ج 6 ص 193 ومعاصره نجم الدين الطرسوسي في تحفة الترك فيما يجب أن يعمل في الملك ج 1 ص 77 أن حجه كان عام 488 هـ ومعروف أن احتلال القدس كان عام 492 فإذا حسبنا السنين العشر من بعد عام الحج حتى ولو لم نحسب ما يأخذه السفر إلى دمشق من الوقت سيكون زار القدس على أقرب تقدير عام 498 وهو قطعا بعد الاحتلال. وهذه المدة قد تفهم أيضا من الطرسوسي حيث قال إن الغزالي رجع بعده ( الحج ) إلى دمشق ثم سار إلى بيت المقدس بعد ما بنى مدرسة ورباطا في مسقط رأسه.
بل ذكر عبد الحي الحنبلي في شذرات الذهب ج 4 ص 11 ما هو صريح في ذلك ولفظه ” فخرج إلى الحجاز في سنة ثمان وثمانين فحج ورجع إلى دمشق واستوطنها عشر سنين بمنارة الجامع وصنف فيها كتبا يقال إن الإحياء منها ثم سار إلى القدس والإسكندرية”
ولو فرضنا أن الغزالي لم يزر بيت المقدس أيام احتلاله فقد زاره في هذه المدة أبو المظفر السمعاني الذي لا يقل جلالة عن الغزالي والذي ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء ج 20 ص 460 بما نصه :
“الإمام الحافظ الكبير الأوحد الثقة محدث خراسان أبو سعد عبد الكريم بن الإمام الحافظ الناقد أبي بكر محمد بن العلامة مفتي خراسان أبي المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار التميمي السمعاني الخراساني المروزي صاحب المصنفات الكثيرة
ولد بمرو في شعبان سنة ست وخمس مئة …… زار القدس والخليل وهما بأيدي الفرنج تحيل وخاطر في ذلك وما تهيأ ذلك للسلفي ولا لابن عساكر.
كما زارها أيضا المحدث أبو المظفر سعيد بن سهل المشهور ب”الفلكي” بعد ما أخذ له نور الدين محمود زنكي الإذن من الإفرنج. ذكر ذلك ابن أبي جرادة في بغية الطلب في تاريخ حلب ج 9 ص 4310 والصفدي في الوافي بالوفيات ج 15 ص 140
وفي الختام أقول: إننا جميعا كلما كان مطلبنا الحق لا نبالي على يد من ظهر وطهرت نفوسنا من الأحقاد والضغائن وشهوة الغلبة كلما ضاقت الفجوة بيننا. ويرحم الله الشافعي حيث يقول “ما ناظرت أحدا قط فأحببت أن يخطئ.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.