تبدو الأجواء هنا في الخرطوم لطيفة رغم ارتفاع درجة الحرارة، الفرح يعم المكان، و الخرطوم، من أعرق عواصم العروبة والإسلام، لها سبب واضح للفرح، فالجيش العربي السوداني حرر قبل يومين منطقة “هجليج” من احتلال العدو الغاشم جيش جنوب السودان المنفصل.
في هذه اللحظات أتقاسم الفرح مع إخوتي السودانيين، وأهنئ الجيش العريق على انتصاراته المتوالية ضد مليشيا الحركة الشعبية التي تأتمر بأوامر تل أبيب..
يحمل النيل نسائمه الأسطورية عبر نافذة غرفتي في الفندق.. أطل من النافذة على الشارع الواسع، أرى نساء بالملحفة يشبهن الموريتانيات وهن يرددن أهازيج النصر.. من هذا المكان لا أنسى الوطن شعبا وجغرافيا وتاريخا و حاضرا.. يحضر الوطن أكثر حين نبتعد عنه جسميا.. تبدو للأشياء من هذا المكان معايير أوضح.. مصير البلاد يقلقني و يؤرقني… نزاعات قبلية و عرقية و طائفية و سياسية و حتى دينية لا مبرر لها بين أشقاء يفترض أن لهم هما و مصيرا و مشروعا واحدا مشتركا و يفترض أن يكون بعضهم لبعض ظهيرا من أجل إنجاز هذا الحلم ألا و هو بناء دولة، و الذي ظل على مدى خمسين سنة مجرد مشروع… أتساءل: هل ستنجو البلاد من “تسونامي الربيع العربي” أم أنه سيطمرها ـ لا سمح الله ـ كما تسعى لذلك منسقية المعارضة و تخطط له… ثم أتساءل: لصالح من هذه التجاذبات و هذا الاختلاف و هذه النزاعات و هذا التدابر؟ بالتأكيد إنها ليست لصالح الوطن. أجدني مدفوعا للكتابة… قريني يؤنبني و يسألني: لم تعظ قوما لا يتعظون؟ فأجيب: “معذرة إلى الله و لعلهم يتقون”… الأفكار تتزاحم و تتسابق.. فأكتب، “معذرة إلى الله و لعلهم يتقون”… اللهم اقبل معذرتي… و وفق و أصلح إخوتي:
الحراك السياسي الإقليمي والعالمي يبدو لافتا خلال السنوات الأخيرة منذ انهيار “سـدّ داوجونز”، وتهاوي النظام الرأسمالي.
إن انفجار أزمة الديون الأوروبية، والعجز المالي الأمريكي، وخروج الدين الأمريكي عن السيطرة و عن حدود الخانات المعهودة منذ عقود، وبدء تغير و اختلال الموازين العالمية مع صعود الصين والهند والبرازيل، وتفاقم الأزمات الداخلية في جميع بلدان العالم الغنية والفقيرة، وأزمات الطاقة والغذاء والصحة والأمن العالمي.. كلها عوامل انعكست سريعا على الوضع في دول الجنوب.. فها هو السودان ينقسم، ثم تلوح الحرب في الأفق مع الجنوب المنفصل و الذي يعمل بأجندة إسرائيلية، وها هي الانقلابات العسكرية تمطر النظم الإفريقية (مالي، غينيا بيساو…)، بقدر ما ازداد لهيب اشتعال بلدان الحريق في الصومال ومالي..
ولا يبدو الوضع أكثر طمأنة على مستوى “دول الربيع العربي”، فمصر مهددة بصراع الثورة والثورة المضادة، واليمن تغرق في الفوضى، وتونس لم تستقر بعد، وليبيا في وضع لا تحسد عليه، و سوريا حدث و لا حرج.. فيما تقبل الجزائر على خارطة سياسية جديدة في أفق الانتخابات.. وتبدو الجامعة العربية، والاتحاد الإفريقي، والمؤتمر الإسلامي، عاجزة عن ضبط حد أدنى من العمل المشترك لتكتلاتها الإقليمية، أحرى التناغم في مجهود موحد لتجاوز الأوضاع الراهنة.
هذه اللوحة التي نتفرج عليها في موريتانيا، تدعونا لمزيد من الحكمة، والتبصر بما يجنب بلادنا أي هزات لن تكون محمودة العواقب.
لقد دأبت منسقية المعارضة الموريتانية على دعوة الرئيس محمد ولد عبد العزيز إلى الاستفادة من دروس الآخرين.. دون أن تسأل هذه المعارضة نفسها أولا هل هي استفادت مما يجري، أم أنها غير معنية بالاستفادة من الدروس، أوهي فوق التعلم أو الاتعاظ على الأصح.. ذلك أن قوى وطنية كثيرة ساهمت في صناعة الفوضى في بلدانها، “من حيث لا تدري أن السم في الدسم”، ولم تحقق البديل حتى الآن سوى مزيد من سكب الدماء والدموع والتشتت وضياع مركزية الدولة لصالح جماعات الضغط والفتنة والتطرف والمصالح الضيقة. أهذا هو الربيع الذي تريده منسقية المعارضة لموريتانيا؟ لنتكلم قليلا عن منسقية المعارضة مع أنه وسط ثورة الشتائم والسباب و الولوغ في الأعراض التي تنفذها هذه المنسقية، و باتت شغلها الشاغل، فمن الصعب على أي سياسي الكتابة بهدوء و ترفع و تجرد.. ذلك أن المنسقية للأسف لم تنجز لهذا البلد، ولم تلقن لهذا الشعب، سوى منظومة أخلاقية وسخة قائمة على العيب والذم والنميمة.
لا بد يوما أن يعود طلاب الكليات السياسية للبحث في أسباب “ثورة النميمة” التي يتسابق إليها زعماء المنسقية، حيث يبرعون في قلب وتشويه الحقائق، بل واغتيالها بدم بارد قربانا على نصب السلطة المحببة إليهم كحب الله أو أشد حبا.. تصوروا معي كيف أن الطرق لا تنفع، والمياه والكهرباء لا تنفع، والبنية التحتية لا تنفع.. و التدخلات الاستعجالية لصالح المواطنين المتضررين لا تنفع… و يد الوئام و التصالح والحوار التي ظلت ممدودة لا تنفع… و الحكومة فاشلة… و المؤسسات غير شرعية… مع أنه لم يحدث أن أحدا من رجالات منسقية المعارضة المستفيدين من النظام استقال أو تنازل عن راتبه احتجاجا أو تورعا… يمكن فهم ذلك في حالة واحدة وهي أن هؤلاء يعملون على إنجاز التهشيم وليس البناء.. الفرقة و ليس الوئام… إن البنية التحتية من مشاريع وبرامج تخيفهم لأنها تتناقض وما يدعون إليه من خراب وسيبة وانحلال واضمحلال وتلاش وتفكك..
لم يستوعب زعماء المعارضة بعدُ المرحلة التي تمر بها البلاد على وقع الانجازات، الكلمة التي لم تكن في قاموس أي نظام موريتاني قبل “عزيز الشعب الموريتاني”.. “عزيز محاربة التطبيع” و”عزيز الفقراء والمساكين” و”عزيز الإسلام أولا و أخيرا”.
لم تألف المعارضة الموريتانية في تاريخها التعامل مع قائد محبوب من طرف الجماهير، بل دأبت على الخنوع و الفزع أو التآمر و السمسرة مع أنظمة مقيتة استبدادية، فاسدة، متسلطة، جاهلة، حيث كان الطرفان يتقاسمان البلد فريسة.
تغيرت الأحوال، وحمل التاريخ منقذ موريتانيا، وآذنت الأقدار بانتهاء معاناة الشعب، على يد هذا المواطن النبيل..
أنارت الأضواء، وسالت المياه عذبة، وعبدت الطرق وبنيت المستشفيات، وأنفقت المليارات على تحسين ظروف المواطنين، وانتشر العدل والأمل.. واستعادت موريتانيا سمعتها الخارجية. أنجز الكثير في ظرف وجيز و بقي الكثير، لكن عجلة الإصلاح و التنمية تسير بخطى حثيثة و وتيرة مضطردة و هي مدعومة بإرادة صلبة للرقي بالبلد إلى مصاف الدول المتقدمة. إذن هل تنقم المعارضة من محمد ولد عبد العزيز إلا أنه جاء برؤية إصلاحية صادقة ثورية أفسدت مخططاتهم و قطعت الطريق على المفسدين؟ أمام ذلك لم تبق منافذ كثيرة للسمسرة، فضاقت مساحة المنافع الزبونية، وبارت تجارة الذمم السياسية، وأغلقت سوق الضمائر الميتة الرخيصة…كان ذلك كافيا لانتفاضة كل موروث السوء من حقب الجمر والرصاص و الفساد.. فترى الفاسدين المفسدين يخرجون معتمرين عمامة الإصلاح و قد أصبحوا قدوة بقدرة قادر أو سحر ساحر.. و لا حول ولا قوة إلا بالله، حتى العجائز منهم يخرجون ـ ونسأل الله حسن الخاتمة ـ داعين للثورة مكررين و كأنهم ببغاوات: مصر.. تونس.. ليبيا.. سوريا.. اليمن.. الربيع العربي..
إن الفوضى التي تغرق فيها بلدان “الربيع العربي”، لا يمكن تسميتها حرية، ولا كرامة، ولا ديمقراطية.. بل فوضى وتناحر وتشتت وتشرذم وتحلل يهدد بقاء تلك الدول وإعادتها إلى ما قبل التاريخ..
يكررون الربيع العربي.. و يغارون من الربيع العربي.. يتمنون استنساخ الربيع العربي دون مسوغ و لا مبرر… ذلك الربيع الذي تحول للأسف إلى جحيم.. ففي مصر قلب العرب، يتضارب الخصماء بأشلاء البلد و ينفخ الخونة العملاء، أصحاب الأيادي الآثمة و الحناجر المأجورة، ينفخون في عظام الضحايا لإطراب مجالس السوء الاستعمارية في تل أبيب و العواصم الغربية. وفي ليبيا، الناتو سرق ثورة شعب عمر المختار.. حروب قبلية… مجازر و مذابح و تصفية عرقية وقبلية وعودة لما قبل التاريخ. و في تونس لا تزال الدماء تسيل، الوضع غير مستقر رغم أن الشعب التونسي هو الأكثر تعلما وثقافة ومدنية. سوريا في حرب أهلية حقيقية لا تبقي و لا تذر، تحرق الشام. في اليمن أيضا انظروا كيف تستولي القاعدة على مدن و ولايات، وينتشر العصيان في الجيش، والدعوات لانفصال الجنوب وانفصال الحوثيين، و تنهار الدولة و تتحول إلى قنبلة تهدد شظاياها كل العالم…. لقد عبثت كل الأيادي الآثمة الداخلية والخارجية بحلم الثورات العربية في بلدان القمع العربي.. وعرفت أيادي الفتنة و الفرقة كيف تتسلق شجرة الحرية و تسمم ثمارها.. و أجادت تماسيح الاستعمار الغربي كيف تسبح في مصالح شعوب تلك البلدان. أهذا هو الربيع الذي تطمح منسقية المعارضة ان تهديه لموريتانيا؟
هل يتساءل أحد اليوم كم سينقسم السودان؟ كم ستنقسم اليمن؟ كم ستنقسم مصر لا قدر الله؟ رغم أنها دولة مؤسسات والبلد العربي الأقوى والأكثر تقدما، والأكثر نخبة وثروة بشرية.
هل سأل أحد عن وضع الكويت التي تتعرض لمؤامرة خطيرة تحت حجة الديمقراطية؟ ما خطورة وضع البحرين في ظل “ربيع الطائفية النتن”؟ ما مصير لبنان الطوائف؟ ما مصير سوريا؟ ما وضع و مصير العراق؟
إننا أمام سايسبيكو جديدة، هدفها توزيع الموزع، وتجزئة المجزأ، وتشتيت المشتت. لصالح من؟. وهل سأل أحدهم وسط ثورة الشعوب الحالية أين هي القضية الفلسطينية؟ تلك القضية التي تتعرض الآن لتصفية لم يسبق أن تعرضت لها تحت أي ظرف.
بدل أن تبنى التيارات الكبرى في الوطن العربي نظما ديمقراطية عقلانية متطورة وتضع القضية الفلسطينية في أولوية اهتماماتها وتحركاتها في الشارع، يحدث الآن العكس تماما.. إنها ترفع أساسات الخراب و حذفت بشكل شبه نهائي القضية المركزية الأولى.. وكل ذلك بمبرر لا يستسيغه عقل، ولا يقبل به إيمان، ولا تطمئن له عاطفة.. و كأن ما يجري و يصيب هذه الدول لعنة و عقاب إلاهي يلحق بمن خانوا و نكثوا عهودهم تجاه قضية الأمة.
و أخشى أن ذوي النوايا الحسنة اتخذوا شماعة النظم القمعية كمبرر لكل شيء دون أن يشعروا بذلك تحت وطأة عامل نفسي أخل بتفكيرهم، وجعلهم لا يدركون خلفية ما يحدث و لا يميزون بين الصواب و الخطأ.. بين جلب المنافع و درء المفاسد.
نحن هنا في موريتانيا بالتأكيد نختلف وضعا عن نُظُم الاستبداد الأخرى في الوطن العربي، فليست لدينا عائلة حاكمة، وليس لنا رئيس مدى الحياة يريد توريث أحد أبنائه بعد أن أنهك الدولة و استنزف خيراتها، ولا يوجد لدينا سجين رأي ولا معتقد.
لقد أقمنا تجربتنا الديمقراطية منذ 21 سنة، وقمنا بثلاث عمليات تغيير ثوري حقيقي دون قطرة دم واحدة، وإن كان بكثير من العرق، من أجل تصويب مسار هذه التجربة وذلك قبل الجميع.. ونحن في غنى عن سرد الأحداث والأدلة في هذا المجال.. لأنها قريبة وبارزة للعيان وليست أحفوريات سياسية يمكن الاختلاف في حقبها أو حقيقتها.
فماذا حدث في هذا الوقت الوجيز، سوى إنجازات النظام، حتى تتنكر المعارضة وتبدأ معزوفة الثورة، والرحيل، والإطاحة.. ثم تستمر الاسطوانة المشروخة في التكرار ليل نهار.. ماذا دفع معازف الشيطان لكل هذا الصخب والشوشرة والتهويل والتخويف والإرجاف..؟ و لسان داعيهم يزعق : هيا للشغب والفوضى والتناحر والتنابز والتدابر.. هيا نستولي على السلطة…
ثم، إن زعماء المنسقية يدركون قبل غيرهم أنه ليس باستطاعتهم تسيير ثورة، ليس فقط لرفض الشعب الموريتاني لها، وإنما لأن الثورة تناقض جوهرهم وجلودهم المدبوغة بالتكلس و التنطع والادعاء والتزوير وعشق السمسرة والمنافع الضيقة… ثم إن للبيت ربا سيحميه قطعا من زيغ أهل الزيغ و فساد أهل الفساد.
لقد ارتفعت جعجعة المنسقية حتى غطت الآفاق، وهي منذ سنة تدعو للثورة، وتهدد بالزحف الوشيك، فماذا حدث؟.. لم يحدث شيء.. وماذا يمكن أن يحدث.؟. ليس إلا ابتلاع مرارة الخسارة.. إن البديل الذي تدعو له المنسقية هو الفوضى والعودة لأنظمة الحصص، والفواتير، أنظمة مستعدة لتأجير عقول أصحابها في تعميم السخف والطيش و تسخير آلاتها الدعائية لتسميم الأجواء والأراضي..
يجب أن ننظر إلى “دار أصحاب النصيحة”.. زعماء أحزاب سياسية مسنون أمضوا عمرهم رافضين للتناوب داخل أحزابهم، يتلفظون بسيئ القول.. ماذا يمكن أن يغيروا وهم لم يغيروا أي شيء بأنفسهم؟.
أحزاب تعتنق فكر ما وراء البحار والقارات ونظريات مقبورة فشلت في بلدانها الإلحادية فكيف بها في أرض المنارة والرباط.. بلاد القرآن والديوان.
مجاميع من كبار موظفي الأنظمة السابقة التي أهلكت الحرث والنسل، لم يجرؤ أي منهم على الاعتذار للشعب الموريتاني عن مشاركته في الفساد والإبادة والقمع والإفلاس الأخلاقي.. و إذا بهم اليوم يخرجون في الناس خطباء ومصلحين ومناضلين و مجاهدين.. ولا تزال رائحة فسادهم تزكم الأنوف.
إنها مهزلة أن يجتمع شتات المفسدين، من نظام الحزب الواحد، ونظام الرصاص والتجويع، والتهجير، ليتحولوا إلى دعاة للإصلاح و رهبان للتغيير..!
وإنها لمهزلة أمر أن يحاول البعض إقناعنا بتغيير التغيير الذي أنضجه الشعب الموريتاني عبر صناديق الاقتراع.. ورضيه، فإذا بهم يرفضون خيار الشعب، ويجترون منظومة الخطاب الخشبي عن النضال والجهاد والكدح..!!
إن الزبد الذي يراكمه أكابر المنسقية يذهب كل يوم جفاء، والذي يدعو للشفقة أن هؤلاء خرجوا بمسارهم عن كل المبررات المعقولة.
فلا هم دعوا إلى الاحتكام إلى الانتخابات الوشيكة، ولا هم اقتنعوا بأنهم خسروا لعبة الشوارع، ولا هم يبنون اتهاماتهم على وقائع وأدلة، وإنما استعذبوا جناياتهم اللفظية، وراحوا يتمرغون في وحل المزايدة الهابطة.
ماذا ننتظر من تسيير الوزراء والولاة والمسؤولين السابقين، ولم يورثوا هذا الشعب سوى جثة وطن. ماذا ننتظر من أيادي الفوضى والفساد، وألسنة الفحش والبذاءة..
ماذا ننتظر من قامات شبحية حربائية تتلون بلون مصالحها الضيقة، و تعزف في مزامير الفتنة والشقاق..
واهم من يتصور للحظة أن بمقدور هؤلاء إقناع الشعب بغير اختياره، أو بغير مصالحه. هذا الشعب المحب للوئام والسلام والاستقرار والأمن والطمأنينة والسكينة والألفة والمحبة، يجد نفسه اليوم في مواجهة مشعلي الفتنة، الذين سخروا ظهورهم مراكب للبسوس، و أفرشوا ضمائرهم أسِرّة للشر، ولكن قريبا يقول الشعب الموريتاني كلمته مرة أخرى في انتخابات نزيهة سيشاركون فيها ويهزمون ليعودوا لرص صفوف الفتنة. تلك شنشنة نعرفها فيهم.. هي طبعهم، والطبع أغلب.
لقد استنفد زعماء منسقية المعارضة كل رصيدهم من الشتائم والوقاحة، فما حققوا مكسبا، وها هو الرأي العام يعزلهم في تظاهراته واستقبالاته الحاشدة لرئيسه، لكنهم لا يفقهون.. لا يتعظون.. لا يخجلون.
ينوي زعماء المنسقية، أو يتمنون تحطيم البلد من أجل دفعه إلى حرب أهلية وفصله قبائل وشرائح ودويلات عساهم فيها يجدون وظيفة أو عمولة.. لكن هيهات، فموريتانيا لم تعد ذلك البلد السهل، وشعبها بات يعي حقيقتكم، وأهداف مساعيكم، وزيف مثلكم.. وهو قادر إذا لم تكفوا عن غيكم على رد كل صاع جمرا وتصلية.. وكونوا على ثقة أنكم لن تكسبوا هذه المعركة التي خسرتموها قبل أن تبدأ.. وثقوا أن لنا نفسا طويلا، وخبرة بألاعيبكم، وبتفكيركم، وسفاحة أحلامكم، وسرعة إدباركم عند المواجهة…
إنكم يا زعماء منسقية المعارضة، اخترتم الطريق الخطأ، فبادروا إلى تلافي المزيد من السقوط في الهاوية، وعودوا إلى جادة الصواب، فلا مساومة ولا تنازل ولا حوار، وإنما هي صناديق الاقتراع. آن لكم أن تنتهوا من ألاعيب التشويش العبثية وعنتريات الإفلاس السياسي، فلن تتمكنوا من الإقلاع بريش الزور والبهتان.
إنكم في واد، وتنفخون في رماد، ولن تربحوا من “لعبة إتقان الفوضى”.. فالحكم لا يكون إلا بالسلمية أو القوة، أما الأخيرة فلها رجالها وفرسانها، وأنتم المقعدون سياسيا ومعنويا، وأما الأولى فالشعب رد عليكم ببلاغة لا تجيدها إلا صناديق الاقتراع..
آن لكم أن تعرفوا أن الببغاء لا تقود جوقة الإبداع، وتدركوا أنه لا توجد في التاريخ ثورة ببغاوات، ولا حالة واحدة أوقفت فيها القوى الظلامية قوافل البناء.
آن لكم أن تنزلوا مرة واحدة من مصاعد الشيطان، وتتقوا الله في بلدكم وشعبكم، و إلا فلتشفقوا على أنفسكم، فالسقوف التي تتبع الريح لا تبقى في الأعلى، وإنما تهوي فاقدة القيمة.
إن منسقية أحزاب المعارضة الموريتانية ترفع منذ شهور شعار: “رحيل النظام”، وأعلن زعماؤها خلال الفترة الأخيرة رسميا وعلنا عبر الوثائق بالصوت والصورة والكتابة وعبر المهرجانات الشعبية أنهم سيطيحون بالنظام الحاكم بالقوة أو عبر ثورة شعبية.
وهكذا انتقلت المنسقية من معارضة ديمقراطية محاورة، تعترف بشرعية النظام كونه نظاما منتخبا من الشعب، إلى معارضة انقلابية تسعى للإطاحة بالنظام في الشارع العام دون قانون ولا عرف ولا دستور و لا مستند شرعي.
فما معنى هذا الإجراء، وما هي مبرراته، وما هي دواعيه، وما خلفياته، وما أسبابه، و إلى أي نتيجة يمكن أن يؤدي إذا كان الوصول للحكم لا يتم بطريقة ديمقراطية شفافة واضحة ومقنعة للرأي العام.. هل كل من ليس في الحكم يحل له أن يصل إليه بأي ثمن، وأي وسيلة؟ هل كل من أبغض رئيسا منتخبا لضغينة أو غل في قلبه أو لأنه لم يمش في هواه أو لم يحقق رغباته اللامشروعة يحق له أن ينزع منه يده و يخلعه متى شاء بالقوة؟.
إن التغيير يجب أن يكون وفق أحد طريقين لا ثالث لهما في دولة مسلمة ديمقراطية.
الطريق الأول: أن يتم التغيير من خلال الانتخابات عبر صناديق الاقتراع، بطريقة ديمقراطية شفافة وهو التغيير الشعبي السلمي المنشود في كل أنحاء العالم، والذي يمثل خلاصة الديمقراطية وهدفها الأول.
ونحن في موريتانيا احتكمنا إلى انتخابات عامة بحضور العالم، وتحت إشراف المعارضة لأول مرة في تاريخ المنطقة، وفي ظل أول حكومة توافقية في تاريخ الدولة. وقد فاز الرئيس محمد ولد عبد العزيز في الشوط الأول من تلك الانتخابات بنسبة 53% من أصوات الشعب في 18 يوليو 2009. و اعترفت جميع مكونات الطيف السياسي بما في ذلك المعارضة بنتائج هذه الانتخابات و بشرعية الرئيس المنتخب لمأمورية من 5 سنوات.
فهل أكمل الرئيس ولايته التي انتخب على أساسها من الشعب، وفق عقد موثق قانونا وعرفا وأخلاقا، حتى تطالب المعارضة برحيله؟.
هل أخل الرئيس بشروط البيعة و العقد الموثق بينه وبين الناخبين؟
هل أخل بأي من شروط الرئاسة وضماناتها العمومية المتعلقة بحرية التعبير وتسيير الشؤون العامة على أحسن وجه ممكن، وتوفير أجواء الاستقرار؟ فإذا كان قد أخل بشيء من ذلك – و لم يفعل ـ فإن هنالك آلية ديمقراطية لعزله، عن طريق ملتمس برلماني تبت فيه المحكمة السامية عند الاقتضاء.
إن كل المسوغات التي تصدع بها المعارضة لا تبرر الإطاحة برئيس منتخب، أحرى إذا كان يحقق إنجازات نوعية لم تكن متوقعة بأي حال، ولم يقم بها أي نظام من قبله.
إذن تأسيسا على البراهين العقلية و النقلية أعلاه تسقط ورقة التوت الطارئة المتعلقة بعدم شرعية الرئيس. كيف يتنكر اليوم زعماء المعارضة لشرعية الرئيس محمد ولد عبد العزيز و قد اعترفوا بصحة انتخابه حيث كانت أحزابهم وحكومتهم ولجنتهم المستقلة للانتخابات هي التي أشرفت على الانتخابات الرئاسية وإعلان نتائجها وترسميها.
الطريق الثاني: أن يكون إسقاط الحكم مستندا إلى أدلة شرعية على عدم أهلية الحاكم… و هذا أمر بالغ الخطورة بينه الشرع توضيحا شائعا ذائعا دون لبس ولا غموض وليس لأحد أن يزايد عليه برأي أو اجتهاد أحرى أن يخضعه لهواه أو نزواته لأن الخلل في التعاطي مع هذا الأمر يجر الأمة إلى شر و بلاء و تشرذم و هوان.
و نظرا لأهمية و خطورة هذه المسألة و الحديث الدائر في صفوف “الخوارج” من المعارضة المتطرفة المتوعدة و المهددة بالخروج على الحاكم و عزله و على النظام و إسقاطه، لا بد من الإسهاب و لو قليلا في الحديث و التذكير ببعض الثوابت مما عليه إجماع الأمة. فالنبي – صلى الله عليه وسلم – بين هذا الباب أتم بيان، وأحاطه بأوامر وأحكام لا يمكن تجاوزها إلا عند غلبة الهوى واستحكام الجهل، وحذر التحذير الشديد من المفارقة، ولو كانت يسيرة، وبين في أحاديث كثيرة صحيحة و متواترة، أن من استذل الإمارة لقي الله عز وجل ولا وجه له عنده، وأن من أهان سلطان الله فإن الله سيهينه. وحفاظا على هذا الأصل، وحماية لجنابه، حرَّم أهل السنة والجماعة التشهير بولاة الأمر، وذكر معايبهم، وسبهم، وسوء الأدب معهم، إلى غير ذلك من الأمور التي تُضعف هيبة السلطان، وتنقص مكانته في القلوب، مما يوهن عقد السمع والطاعة، ويفرق الجماعة. وهذا النهي ليس تعظيماً لذوات الأمراء و لا تزكية لنفوسهم و لا تعصبا و موالاة لجنابهم وإنما لعظم المسئولية التي وكلت إليهم في الشرع من لَمِّ شمل الأمة و الحفاظ على بيضتها و درء المفاسد عنها والتي لا يٍقومون بها على الوجه المطلوب مع وجود سبهم والوقيعة فيهم، لأن سبهم يفضي إلي عدم طاعتهم في المعروف وإلى إيغار صدور العامة عليهم مما يفتح مجالاً للفوضى التي لا تعود على الناس إلا بالشر المستطير، كما أن سبهم ينتهي بالخروج عليهم وقتالهم وتلك الطامة الكبرى والمصيبة العظمي. و قد تقبلت جماعة الأئمة من السلف هدي الرسول صلى الله عليه و سلم و أوامره و لم يزايد عليها و يعترض عليها سوى الخوارج و الأزارقة لعنهم الله. و الأحاديث الشريفة الصحيحة التي تتناول هذا الموضوع كثيرة و لا يتسع المجال لسردها كاملة. فمن أراد أن يستبرئ لدينه و عرضه و يتقي الشبهات و مخالفة أمر الله تعالى و رسوله صلى الله عليه و سلم فليرجع إليها في مظانها من كتب الحديث و السنة. و تحث كل هذه الأحاديث و تأمر بالسمع و الطاعة لولي الأمر و إن كان ظالما عسوفا، فيعطى حقه من الطاعة و لا يخرج عليه و لا يخلع إلا لكفر بواح… فعن عبادة ابن الصامت – رضي الله عنه – قال: “دَعَانَا رسول اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَبَايَعْنَاهُ فَكَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا على السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ في مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ قال إلا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ من اللَّهِ فيه بُرْهَانٌ. (رواه البخاري). و إثبات كفر الحاكم يحتاج إلى براهين واضحة و أدلة ساطعة يقرها و يزكيها عدول الأمة وعلماؤها من خلال إصدار فتوى موثقة. فكل ما عدا كفر الحاكم في قضية العزل، هو خلافات واجتهادات.. بل إن الأغلبية الساحقة من فقهاء السنة اعتبروا غير ذلك في مصلحة الحاكم وطاعته وعدم منازعته الأمر.
محمد ولد عبد العزيز من أكثر حكام البلاد إسلامية وخدمة للدين، فتح إذاعة القرآن الكريم، أمر بإنجاز مشروع “مصحف شنقيط”، أمر بإنجاز بناء أكبر مسجد في تاريخ البلاد، أسس أول جامعة إسلامية موريتانية (جامعة شنقيط)، أمر بتمويل المحاظر، خصص مرتبات للأئمة، أمر بترقية التعليم الأصلي ورعايته، والسهر على بيوت الله وحرمتها ورعاية العلماء وخدمة الحجيج، أوفد بعثات الدعوة للدول الخارجية.. طرد الصهيونية من بلاد المنارة والرباط، فعل العمل الإسلامي على الصعيد الداخلي والدولي.. ومعروف بشهادة الكثيرين أنه يصلي جل أوقاته في المسجد، ومعروف بتدينه وحبه للدين ولكل ما ينصر الدين…
بهذا تبطل كل حجة و ينتفى كل مبرر و دليل شرعي في هذا المجال.. فنحن هنا من الناحية الشرعية أمام عقد و بيعة بين الحاكم وشعبه لمدة خمس سنوات، ولا يجوز شرعا نقض هذا الحكم إلا بآلية انعقاده، أي بصناديق الاقتراع.
هنا انتهت مبررات الخيار الثاني، فالشرع والاقتراع اجتمعا لصالح شرعية الرئيس محمد ولد عبد العزيز وعدم منازعته الحكم طيلة مأموريته. فمن فعل شيئا من ذلك فقد فارق الجماعة و عصى الله و رسوله و من مات على ذلك مات ميتة جاهلية. و كأن من يقترفون هذه الخطيئة أمنوا مكر الله فرضوا بأن يكونوا من الخوارج… أو أنهم لم يقرؤوا قوله تعالى: “فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم”. فإما فتنة ملمة و مصيبة عظيمة و فضيحة مشينة في الدنيا و إما عذاب مهين أليم في الآخرة أو الاثنان معا. أعاذنا الله من غضبه و سخطه بمنه و فضله.
ونعود للمبررات السياسية.. ما هو البديل عن الحكم الحالي. هل هو منسقية أحزاب المعارضة العاجزة عن تسيير أحزابها وتأمين التناوب السلمي داخلها.. ما الذي يفتن المواطن الموريتاني ويغريه بتسيير مسؤولي المعارضة الحالية الذين كانوا وزراء ومسؤولين للأنظمة البائدة التي أهلكت الحرث والنسل، وعاثت في الأرض فسادا.. ولا تزال أوراق فسادها تتساقط.
هل قدمت منسقية المعارضة الموريتانية برنامجا مقنعا للشارع الموريتاني، ضم خططا اقتصادية واجتماعية وسياسية؟ ماذا قدمت غير برنامج الهجاء والسباب و الشتائم.. والدعوة لإسقاط النظام؟ و كأن هدم البئر هو الحل السحري..
إن امتطاء شرعية اللاشرعية هو سلاح في نحر صاحبه، والدليل على ذلك أن الشعب لم يتجاوب مع هذه الدعوة، ولم ينظر إليها بجدية وإنما قابلها بسخرية لاذعة تمثلت في إحجام الأغلبية الساحقة عن حضور نشاطات ومهرجانات المنسقية.
إن نتائج شرعية اللاشرعية كما نشاهدها في عشرات الدول، لا تشجع العقلاء على طرح الفوضى بديلا، بل تترك المجال مفتوحا للاندفاع اللاعقلاني في طريق محفوف بالمخاطر والمهالك، ولا يؤدي أبدا المصلحة الوطنية مهما دار ولف وراوغ و راكم من تماثيل المبررات الخشبية.
إذا كان المثل الألماني يقول “إن الإتقان وحده لا يكفي” فمن المؤكد “أن الفوضى لن تكفي”.. إن يد الفوضى لا تصلح، والشرارة لا تطفئ، والمخالب لا تداوي الجرح، والشوك لا يتحول أبدا إلى ورود.. والشيطان حتما لا يقود قاطرة الإصلاح.
والسلام على الحبيب المصطفى يوم تدَّعون، ويومِ تتقوَّلون، ويوم تتشبهون بالأسود ثم تستيقظون على حقيقتكم الأرنبية وقد ذهبت أدراج هلوسة الأحلام.
الخرطوم في 23 إبريل 2012