مرة أخرى نكتوي بنار المنايا ،فيعاد عزف اللحن الجنائزي المعهود .. لحن الفراق ،مدمي القلوب ، موحش المسارات وكاشف هشاشة البشر،المتفنن في الانشغال بالدنيا التي ما لها من استمرار وحده الله، استأثر لنفسه البقاء متعهدا في محكم كتابه “كل من عليها فان ويبقي وجه ربك ذو الجلال و الإكرام” فالموت هو اليقين … وكل ما عداه هراء.
هكذا يؤمن الأصفياء ، ومنهم دون شك محمد ولد المختار رحمه الله محمل إل مخطار ( كما حرفه التداول اللساني وأضفى عليه الارتشاء الفظي سلاسة في النطق) هو أحد أعيان قبيلة “أولاد ابيري” الكريمة، ينتسب إلى إخوتنا “اولاد انتشايت” وهم جماعة فاضلة ، لعبت دورا مهما في تراكم الفضائل والأمجاد المتداولة اليوم في فضائنا الاجتماعي و السياسي.
ولقد كان ألقٌ”اولاد انتشايت” متدفقا عبر كل الأزمنة ،كما كان دورهم مركزيا في حياتنا نحن أهل ابي تلميت بحكم ثراء عطائهم الفكري الذي علمهم الصبر على قيود المدنية وامتلاك ناصية الكثير من فضائل التحضر وقيمه ،ولقد كان محمد ولد المختار نتاجا خالصا لهاته القيم.
فهو سليل الطيبين محمد مختار و اباه، حيث تربي في كنف والده المختار ولد داداه الذي كان من أوائل من استشعروا أهمية البعد الاستراتيجي للاستقرار وما يتطلبه ذلك من مركزة السلط في مراحل الإنشاء ،وهي لعمري خصلة تمسك بها محمد طيلة حياته ، فكان مستقرا الأفكار حازما في سلوكه مقبلا على شأنه وعازفا عن كل أصناف العبث.
كما كان محمد طيب السريرة ،يحمل حديثه حلاوة الأتقياء ،أهل سيد المختار، حيث رضع من عيشة الزهد والإخلاص و لين العريكة ،فكان مزيجا صالحا : يسند الصرامة بشكيمة أهل محمد مختار، والإباء بلطف أهل اباه …. فغدا بصدق رجلا متميزا لم يكن محمد صديقا لأبي فحسب، بل كان أبا رقيبا وموجها وفيا، حافظا للعهد كثير السؤال عن أحوالي ،سعيدا برؤيتي وحريصا على نجاحي، أتذكر جيدا كيف عرفته في إحدى ليالي يونيو سنة 1978، عندما صحبت والدي الذي جاء للسلام عليه، وكان في البيت الملاصق لبيته الحالي ،وسط أقوام استحضر منهم الرئيس احمد ولد داداه مد الله في عمره و المرحوم المختار ولد اعمر. ومع أني كنت طفلا صغيرا فقد خصني بترحيب حار وملاطفة حميمة ثم أجلسني بجانه ، وهو التصرف الذي لا أزال احتفظ بحرار ته في ركن قصي من قلبي، وكان بداية العلاقة التي هي في الواقع قصة وفاء أوثنيها أبي وأتعهد بالمحافظة عليها إلى الأبد محمد ولد المختار، الذي كان زائرا منتظما لبيتنا، هو رجل أصيل، طيب المنظر، خافت الصوت، كثير التأمل و قليل المخالطة، كان يبدي حرصا كبيرا على مصاحبة والدي ويكنيه “لعمر” و كان يمتدحه ويصفه بالشجاعة، ر حم الله الجميع .
قبل أن انقطع عن الإقامة في انواكشوط كنت مدمنا على زيارة المرحوم الذي كان شقيقي سيد محمد يحثني دائما على التواصل معه، مستحضرا بذلك الحديث الشريف ” إن من ابر البر أن يصل المرء أهل ود أبيه…” غير أني لم اكلمه من فترة ،كما كنت افعل ، زرته آخر مرة عندما علمت بتدهور صحته من الأستاذ احمد ولد سيديا الذي التقيته في المسجد السعودي ،وحز في نفسي أن تأكدت من قرب النهاية.
أسكن الله الفقيد الرتب العلا من جنانه وعده مع الأولياء والصالحين، فقد كان بحق مؤمنا مقبلا على شأنه، وألهم أهله الذين هم أيضا أهلنا كل معاني الصبر والسلوان و ليجدوا هنا كل تعازينا القلبية وإنا لله وإنا إليه راجعون خفف الله الفاجعة عن أبنائه وبناته وكل أقاربه الأكارم ، فهم دوحة شامخة رغم الألم الذي يعتصر القلوب ، أثاب الله الجميع.