48 نقطة تفتيش أمني…وصرامة في مواجهة “البلاغات الكاذبة”
النعمه ـ يعقوب ولد باهداه
بدت الحياة طبيعية في النعمه، شوارعها عامرة بعشرات المواطنين الناشطين في مختلف مجالات الحياة، موظفون عموميون و جنود وممثلو بنوك وشركات حكومية وخاصة ..وتجار ومهربون وسائقون، كوكتيل يتعايش في عاصمة ولاية الحوض الشرقي، غير أن الهاجس الأمني بات حاضرا بقوة، خاصة في عيون وقلوب من يسهرون على تأمين المنطقة..وعلى ألسنة المواطنين في مجالسهم.
الحالة الأمنية هادئة تماما، ورغم كل ما تداوله الإعلام في موريتانيا، فالمدينة وهي تدخل عامها الواحد والتسعين بعد المائة لا زالت تحتفظ بمكانتها في المنطقة، وتتمتع بأهميتها المعنوية والجغرافية بالنسبة لموريتانيا.
هي الوحيدة من مدن البلاد التي تعرضت لثلاث هجمات عسكرية من قوى مختلفة على مدى العقود الستة الماضية واستطاعت الصمود في وجهها والحفاظ على هيبة الدولة ومكانتها في نقطة تبعد 1200 كيلومتر من العاصمة نواكشوط.بعد المسافة جغرافيا لم يكن ليجعل روح الوطن الموريتاني تبتعد من نفوس ساكنة النعمه، هكذا يمكن للزائر أن يستخلص من أحاديث الناس…إنهم يحبون موريتانيا ويخافون “أن تُــلمس منها شعرة”.
مع تأسيس الدولة الموريتانية الحديثة، كانت أولى الضربات الموجهة لها هنا، حيث استهدف “جيش التحرير” مطلع الستينات القاعدة العسكرية التي كانت حينها لازلت تعرف وجودا فرنسيا، غير أن الحكم بإعدام بعض المنفذين كان رادعا، وفي السبعينات هاجمت جبهة البوليساريو المدينة بشكل مباغت، وفي العام الماضي (2010) ضرب تنظيم “القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي” قيادة المنطقة العسكرية الخامسة من خلال عملية انتحارية هي الثانية من نوعها للتنظيم في موريتانيا.
إجراءات أمنية
للوهلة الأولى تتضح ملامح الإجراءات الأمنية، فعلى طول طريق الأمل ما بين نواكشوط والنعمه توجد 48 نقطة تفتيش تابعة للشرطة والدرك، بعضها يدقق في هويات ركاب السيارات، وعددهم ويجمع المعلومات المتعلقة بهم، وبعضها يكتفي بإلقاء نظرة خاطفة ليعطي إشارة بمواصلة المسير.وحدها نقطة تفتيش “أشكيك” في ولاية لعصابه تعتبر ممرا إجباريا على كل سالك لطريق الأمل، فموقعها بين سلسلة جبال الموريتانيد المغلقة لا يمكن معه تفاديها، لذلك تعد نقطة حاسمة.في الحوض الشرقي تبدو الإجراءات أكثر تشديدا فرجال الدرك يسألون ركاب السيارات عن هوياتهم ومن أين هم قادمون وماهي وجهاتهم، وفي حالة كان أحد ركاب سيارات النقل أو السيارات الخاصة لا يحمل معه بطاقة تعريف وطنية فإن وابل أسئلة ستنهال عليه حول قبيلته و”فخذه” من تلك القبيلة ومكان إقامته وطبيعة عمله، وأسئلة متوقعة وأخرى قد لا تخطر على بال المسافر.يصعد رجال الدرك في باصات النقل التي تقل عشرات الركاب، ويتفحصون الوجوه واحدا تلو الآخر، طالبين منهم التلويح ببطاقات تعريفهم، وبالنسبة للأجانب (الماليين تحديدا) يتم تسجيل وثائقهم، ويتسلم الدركيون قوائم بأسماء الركاب ويتحققون من عددهم.
وينحني الدركي لدقيقة أو دقيقتين قرب السيارات الشخصية وأحيانا يطلب من راكبيها الترجل.يقول “محمد الأمين” دركي ينحدر من ولاية لعصابه ويداوم في إحدى نقاط التفتيش بالحوض الشرقي إن الإجراءات الأمنية تهدف إلى تأمين المواطنين من حوادث السير، خاصة وأن قرارا صدر بمنع دخول الباصات وسيارات النقل الكبيرة إلى مدينة النعمه بعد منتصف الليل، والهدف الثاني هو تأمين الوطن والتدقيق في هويات كل من يتنقل بين المدن خوفا من تسلل “إرهابيين”.
هدوء..وحذر
بين طوق الجبال المترامي حولها، تتربع النعمه وسط واد شاسع بمنفذ وحيد تقريبا، وهي تعيش “كما كانت…وكما يجب أن تكون” يقول سيدي بونه وهو رجل في الأربعينات من عمره، مشيرا إلى تسمية أطلقت على أحد أكبر المتاجر وسط السوق “الدنيا هانيَ” أي أن لا شيء يعكر صفو الحياة وهي تسير رتيبة كما كانت.
سوق حيوي، بضائع من مختلف الأصناف، صادرة و واردة، وسيارات رباعية الدفع تتأهب للانطلاق نحو وجهات متعددة : مقاطعات ومراكز وبلديات وقرى الحوض الشرقي المترامية هنا وهناك على بوابة الصحراء الكبرى. تتمتع النعمه بموقع استراتيجي، ولكن عيون الإعلام والرأي العام تحولت للنظر إليها بوصفها نقطة أساسية في مواجهة تنظيم القاعدة، وتناست أهميتها التجارية والزراعية والرعوية و الروحية والعلمية السياحية.
تلمس في كل من تلاقيهم بالمدينة خاصة من العسكريين حرصا منقطع النظير على الدفاع عن موريتانيا والتضحية في سبيل ذلك، ويُـظهرون كثيرا من الجاهزية والروح القتالية المفعمة بالوطنية، والاقتناع بضرورة المضي قدما في تأمين البلاد والعباد، خاصة من عدو كان البادئ بالهجمات والمعتدي لمرات متتالية على الجيش والدولة الموريتانية.علاقات إنسانية حميمة بين العسكريين والمدنيين في النعمه، ومن السهل الانتباه لأي زائر من خارج الدائرة، وحين يكون محل شبهة يتم تقصي أخباره بسرعة ومعرفة حقيقته، ولم يعد الحال على ما كان عليه قبل أن تبدأ القاعدة باستهداف البلاد.لكن في النعمه أيضا يشار بالبنان إلى مهربين ومتعاملين مع القاعدة.. ذلك رجل سبق أن قدم إليه “مختار بلعور” ليلا مهددا إياه، بعد أن تأخر في تنفيذ صفقة شراء كميات من البنزين بعد أن تأخرت عن وقتها…وهذا آخر التقى مرات عدة بأشخاص من القاعدة وهو في يعبر طريقا اعتياديا.
تواجد التنظيم يختلف شكلا ومعنى على طرفي الحدود، ففي الأراضي المالية تسير عرباته بشكل متتالي فيما يصفه أحد المراقبين بأنه استعراض للقوة في بلد انتهج نوعا من عدم الصرامة في مواجهة عناصر التنظيم المسلح، أما في الأراضي الموريتانية فان سيارات التنظيم بالكاد تدخل وفي حال عبرت يكون ذلك بشكل فردي تجنبا لاعتراضها من طرف قوات الجيش المتأهبة.وحدات عدة من الجيش الموريتاني تجوب المنطقة، ولا يمكن لأي سيارة أن تقطع مسافة قصيرة إلا وكانت تحت عيون الجنود الذين يوقفونها بسرعة للتحقق من هويتها، في وقت ترابط فيه الطائرات العسكرية جاهزة لتنفيذ أي مهمات تدخل في وقت سريع، ومع وجود طيارين عسكريين أكفاء وعلى استعداد للإقلاع في أي لحظة.
في النعمه لا مجال للتلاعب بالهواتف أو الرسائل الشفهية، ودفع الحرص على تأمين المنطقة، السلطات إلى التشدد في مواجهة أي بلاغ كاذب، ويستشهد بعض من التقيناهم هنا بحادثتين : حين اتصل شاب من هاتف شخص آخر بصحفي معروف وأبلغه بوجود تحضير لانفجار وشيك، فما كان من الصحفي إلا أن دقق في رقم الهاتف وأبلغ الجهات المعنية، وحين بدأ التحقيق واعتقل الشخص واعترف أنه هو فعلا من اتصل “ممازحا” غير أن ضريبة تلك المزحة كانت ثقيلة: السجن لأربعة أشهر.والسجن أيضا كان من نصيب شاب آخر في منطقة قريبة من النعمه أبلغ صديقا له ممازحا أنه شاهد رتلا من السيارات تابع لتنظيم القاعدة وهو في طريقه للنعمه مما أدى لحالة استنفار.