البضائع المتجهة من موريتانيا إلى مالي تشحن في رزم لا يتم تفتيشها
باسكنو ـ يعقوب ولد باهداه
أخيرا وصل “هدّو” بعد أن قطع 430 كيلومترا بين مدينتي تمبكتو المالية وباسكنو الموريتانية، محطته الأولى قسم الشرطة حيث بات تسجيل الدخول إجباريا للركاب، وهم في هذه الحالة أفراد عائلتين من عرب مالي، قدموا من “الصحراء” كما يطلقون على تمبكتو.
طريق اعتاده الرجل المعروف في باسكنو، وبعيد انتهاء إجراءات التسجيل قال هدو لصحراء ميديا : “كل شيء على ما يرام، لا مشاكل ولله الحمد.. انه إجراء روتيني”. ولكن لهذه الرحلة نكهة خاصة، ففي هذه المرة استعان بسائق آخر ليقود السيارة الثانية، لقد اقتنى “هدو” سيارتين جديدتين من تبمكتو إحداهما تحمل لوحة الغابون، والأخرى تحمل لوحة النيجر… دخلت السيارتان دون جمركة، والهدف منهما هو توسيع شبكة النقل بين جانبي الحدود، في منطقة لم تكن تعرف معنى الحدود.
بالنسبة لـ”هدو” وغيره من الناشطين في النقل وفي التجارة تمثل باسكنو أنشط نقاط التماس الحدودي بين موريتانيا ومالي، فالمدينة عرفت منذ مطلع تسعينات القرن الماضي انتعاشا غير مسبوق منذ إعادة تأسيسها من قبل المهاجرين إليها منتصف القرن الثامن عشر.
بفضل موقعه على بعد 7 كيلومترات من الحدود مع مالي كان مركز فصاله ـ انييري الإداري (65 كلم جنوب شرق باسكنو) قد أخذ الدور التجاري الأبرز ساحبا البساط من تحت أقدام باسكنو، غير أن مصائب قوم عند قوم فوائد، فحين اندلع التمرد العربي والطارقي في مالي، كانت باسكنو وجهة مفضلة للاجئين العرب، وهم في غالبيتهم الساحقة من “البرابيش” الذي أقاموا في مخيمات على تخوم باسكنو، واختار بعضهم الدخول في المدينة والاندماج في الحياة العامة، ليتحولوا لاحقا إلى أبرز الفاعلين التجاريين، أعطوا لباسكنو روحا جديدة جعلتها تحتل قمة السلم التجاري الاقتصادي في المنطقة.
كان ذلك مابين 1991 و1993، وأما بعد توقيع اتفاقية المصالحة في مالي نهاية التسعينات فقد اختار عدد كبير من اللاجئين البقاء في باسكنو وغالبيتهم اختاروا الهوية الموريتانية، ويؤكدون أنهم عرب موريتانيون بالدم والانتماء والجغرافيا، في حين أن أغلب العائدين كانوا من الطوارق، قبل أن تعلن الأمم المتحدة نهاية اللجوء عام 1998.
اليوم باتوا أهم فاعل تجاري في باسكنو، لكنهم ليسوا وحدهم في الميدان، فبحسب امبوي ولد الداه أستاذ اللغة العربية في ثانوية باسكنو والمطلع على المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية في المنطقة، فقد عرف العقد الأخير من حكم الرئيس الأسبق معاوية ولد الطائع بروز عدة أسماء مهمة، دخلت المجال بقوة، وشكلت مجموعات ضغط تجاري تمكنت من التغلغل في المنطقة، ولا زال لها دور حتى اليوم رغم تغير المعطيات.
تجارة متبادلة
في باسكنو محطة معروفة للسيارات المتجهة نحو تمبكتو، تنقل البضائع من نواكشوط إلى باسكنو في رزم كبيرة كتب على كل منها اسم التاجر الذي تتجه إليه، بحسب العاملين في تنظيم هذه الرزم فإنها لا تفتش وتخضع لمعيار الثقة فقط التي اكتسبها “دمبَ” الذي عرف منذ سنوات طويلة بوصفه أبرز منظم للشحن التجاري من نواكشوط وحتى تمبكتو، مرورا بالمحطة الأبرز : باسكنو.
تتناثر الرزم في ساحة مخصصة لها يتوسطها ميزان لتحديد حجم كل منها، وفي الانتظار سيارات رباعية الدفع يتفاوت عددها يوميا.
علي ولد جدو، الأستاذ في أحد المعاهد في تبمكتو، قال لصحراء ميديا إن طبيعة العلاقات الجغرافية والاجتماعية تعطي بعدا خاصا للتبادل التجاري بين الطرفين. وأضاف ان البضائع القادمة من موريتانيا هي أساسا الأقمشة والملابس التقليدية وأثاث المنازل في حين أن البضائع القادمة من مالي تتمثل في الشاي وأعلاف الحيوانات والخضروات…الخ.
يوميا تغادر 3 إلى 5 سيارات عابرة للصحراء نحو تمبكتو، وأما الشاحنات القادمة من تمبكتو فهي ما بين 3 إلى 4 يوميا بحسب “أباه” أحد العاملين في شحن البضائع، والذي قال لصحراء ميديا إن حمولة تلك الشاحنات تبلغ 33 طنا كحد أقصى، لكنه أكد أن الشاحنات القادمة من الجنوب تراجعت خلال أيام معركة “وقادو”، “ولا زال تأثير تلك المعركة مستمرا على خط الشاحنات التجارية”، يقول اباه.
خصوصية أخرى تميز المنطقة وتزيد من حجم النشاط التجاري، إنها “الأسواق الأسبوعية”، أو “السوك” كما يطلق عليها السكان، فلكل مدينة أو بلدة سوقها الأسبوعي والمحدد بيوم معين، تكون فيه قبلة للتجار والمتسوقين من مختلف المناطق في جانبي الحدود… ومرة أخرى يبتسم الحظ لباسكنو نظرا لموقعها الجغرافي.
المخدرات والسجائر
“فلان تخلط مع لخفيف”، تعبير يطلقه السكان المحليون على أولئك الذين تغير وضعهم الاقتصادي فجأة، وهم كثر في باسكنو.. و”لخفيف” ليس إلا المخدرات التي شاعت تجارتها منذ تسعينات القرن الماضي، حيث تسلك طريقا صحراويا طويلا يقطع آلاف الكيلومترات حتى بورسعيد في مصر، أو بور سوادان في السودان.
الاتجار في المخدرات ظل أمرا عاديا، بل ومرغوبا بوصفه أسهل وأسرع طريقة للثراء، ولكن لا يمكن التطرق للمخدرات دون الحديث عن السجائر، فقد كانت مخدرات من طراز آخر، وبحسب أحمد ولد إبراهيم المعلم المتقاعدة والمقيم في باسكنو، فقد كانت تجارة المخدرات والسجائر رائجة قبل 2005.
وقال ولد ابراهيم (67 عاما) لصحراء ميديا انه شخصيا عمل لسنوات في تجارة السجائر من ازويرات حتى الجزائر، “أحيانا تنطلق قافلة من 40 إلى 50 شاحنة MANكبيرة لتقطع 1800 كيلومتر، 800 في موريتانيا و1000 في مالي، وعلى طول هذا الخط كان كل شيء يسير بشكل طبيعي حتى الحدود الجزائرية هناك يبدأ التحدي”، حسب تعبيره. مبرزا أنه لا يمكن إطلاق صفة “المهرب” على من يقوم بعمل لا يجد من يمنعه أو يحرمه بل إن بعض الفاعلين الاقتصاديين البارزين كانوا شركاء في العمليات مما وفر لها الحماية.
وأكد أحمد ولد ابراهيم، المنحدر من افديرك بولاية تيرس زمور، أن كل شيء تغير منذ هجوم الجماعة السلفية للدعوة والقتال (القاعدة لاحقا) على ثكنة الجيش الموريتاني في لمغيطي يونيو 2005، حيث بدأ الموت يتسلل إلى خط أزويرات ـ تمنراست (الجزائر)، لينتقل النشاط إلى جانب آخر من الحدود، إلى هنا في الحدود الشرقية والجنوبية الشرقية حيث كانت الرقابة أقل.
لكن المتغيرات الجديدة وأبرزها الإجراءات التي فرضتها السلطات الموريتانية حدت من تجارة المخدرات وإن لم تقض عليها، لكنها حولتها إلى فعل مجرم، لا يمكن لأي كان البوح أو التظاهر بأنه يعمل فيه، باستثناء مجموعات قبيلة داخل الأراضي المالية باتت معروفة بنشاطها في المخدرات وفي التعامل مع عناصر “القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي”.
كل التجار الذين قابلتهم صحراء ميديا في باسكنو والمناطق المجاورة لها، لا يعترفون بممارسة تجارة السجائر أحرى المخدرات… غير أن رائحتهما لا زالت تفوح .. وإن باتت محدودة، بفعل الخوف المستشري من عقاب السلطات أو نزع الطرف الآخر لثقته ممن يتعامل معهم.