بقلم:عبد الصمد ولد أمبارك
يكثر الحديث منذ فترة عن أوضاع الحالة المدنية في بلادنا، بفعل انطلاق إحصاء حالة مدنية مؤمنة من طرف الحكومة الموريتانية، بعد وضع الترتيبات الفنية و اللوجستية اللازمة وتوفير تقنيات حديثة تشكل سابقة من نوعها منذ قيام الدولة المركزية، الشيء الذي يطرح عدة تساؤلات عن الخلفية الحقيقة لإشاعة بعض التذمر في بعض الفئات إلي حد التخوف بل التظاهر في بعض الأحيان، و كاٌن امرأ ما يحاك في الظلام علي الرغم من شفافية العملية و تبصر الرؤية الوطنية في توفير الضمانات الحقيقة في سلاسة العملية، والعمل علي إنجاحها علي أكمل وجه، بالاعتماد علي نظام جديد مؤسس علي قاعدة بيانات و معلومات مبنية علي نتائج إحصاء شامل، يعتمد علي إدخال البصمات ووضع آلية للتحقق المباشر من سلامة وثائق المواطنين و الأجانب علي حدً سوي، وإصدار جميع الوثائق المؤمنة مع ضبط تأشيرة الدخول التي تنضاف إلي الجهود الوطنية الهادفة إلي التحكم في حركية العبور عبر نقاط الدخول والخروج إلي الأراضي الموريتانية.
منذ قيام الدولة الموريتانية لم يتسنى للسلطات العمومية علي الإطلاق أن تتجرأ علي القيام بإحصاء حقيقي للساكنة بصفة عامة، بل ظلت السمة العفوية تحكم مسار الشعب و الهوية الوطنية في جل الحالات، و ظلت النزعة مترامية الأطراف بين الجنوب و الشمال، تحكمها الولاءات الجيوبوليتيكية تارة و الأطماع الذاتية تارة أخري، وظلت حالة التردي العملة المتداولة بين مكونات الشعب، حيث الانتماء القبلي الممتد خارج حدود السيادة الوطنية من جهة والتمزق العرقي من جهة أخري.
انطبعت الحياة الاجتماعية خلال هذه الفترات بهوي الذات ذو البعد التاريخي و المغزى الأصولي الذي طغي علي هشاشة مؤسسات الدولة الفتية، ولم تصل حكمة المشرع في إبراز الآليات الكفيلة بحقن ثوابت الأمة بصفة تضمن الاندماج الحقيقي لمكونات الشعب وفقا لمنظومة دولة القانون،إضافة إلي البعد الجغرافي الذي شكل امتداد المساحة و الانتشار الديمغرافي أحد أهم العوامل في تبعثر هوية الشعب المتعطش لهوي الذات و تقلبات الصحاري وتنوع الطبيعة المناخية الراسخة في الخصوصيات الثقافية لمجتمع بدوي أرتبط بالحل و الترحال.
في هذا الإطار تجدر الإشارة أنه منذ قيام الدولة ثمة محاولات علي أرض الواقع لتعداد السكان وفقا للظروف والإمكانيات المتاحة، كان أولها الإحصاء العام للسكان سنة1977 م،مكن من تحديد عدد الساكنة مرفق بنتائج البحث الديمغرافي مع وضع البيانات الأولية للحضر مقارنة بالسكان الرحل،كما مكن من الحصول علي الخصائص السسيوإقتصادية و الديمغرافية لسكان البلد.
في سنة 1988 م أنجزت السلطات العمومية الإحصاء العام للسكان و المساكن، الذي حدد المعطيات العامة للسكان لأول مرة مع تحديث البيانات السسيوإقتصادية و الديمغرافية المحصل عليها سنة1977 م ،مكنت من مواصفات المقارنة النوعية كقاعدة للسكان.
في سنة 2000 م أشرفت السلطات العمومية علي التعداد العام للسكان و المساكن الثالث من نوعه و الذي مكن من تحديد الساكنة حسب الولاية و المقاطعة و البلدية حسب الأعمار و الأجناس، وحقق أهداف ذات مغزى أساسي بين أيدي المقررين السياسيين و كذالك تحقيق مختلف أوجه الحياة الاجتماعية و الإقتصادية في البلد.
في سنة 2006م تم إ جراء الإحصاء الإداري ذو الطابع الانتخابي الذي مكن من إحصاء جميع المواطنين الموريتانيين البالغين سن الرشد18 سنة و الحاصلين علي بطاقة تعريف وطنية فوق التراب الوطني ،مع تأسيس وثيقة انتخابية شفافة انطلاقا من المعطيات المحصل عليها،اعتمدت فيما بعد كقاعدة للائحة الانتخابية الوطنية.
إن هذا السرد لا يرمي بنا في أحضان اليأس أو النظرة التشاؤمية لواقع البلد ،بقدر ما يدفعنا إلي التأمل في طبيعة المرحلة التي تمليها مجموعة من المتغيرات الإقليمية و الدولية وتتربص بها مخاطر عدة،يأتي علي رأسها الإرهاب والهجرة السرية و الجريمة المنظمة بالإضافة إلي البعد الاقتصادي المحدق بالثروات الطبيعية انطلاقا من المؤشرات الإيجابية لتحقيق تنمية بشرية مستديمة.
إننا اليوم مطالبين أكثر من أي وقت مضي كسائر الدول أن نكفل الحقوق و الواجبات في إطار دولة القانون، و ملزمين بصيانة القرارات السيادية و التي في مقدمتها تأمين وثائق الحالة المدنية باعتبارها المرجعية الأصلية لانتمائنا المركزي، بعيدا عن الأطماع و الفرص السياسية العابرة، و التي شكلت في الماضي هزات عنيفة بعثرت أركان الهوية و شتتت مقومات الدولة لدرجة أصبحت تعصف بموروث جماعي داخل البنية الأصلية للدولة القومية .
إن الفاعلين السياسيين من أحزاب سياسية و منظمات مجتمع مدني و قادة رأي ملزمين بأخذ مسؤولياتهم التاريخية في مؤازرة الدولة ’قصد تحقيق أهدافها المشروعة في تأمين كافة وثائق الحالة المدنية للجميع ،انطلاقا من مراعاة المصلحة العليا للبلد، و الابتعاد عن الدعاية المغرضة لتحقيق المآرب السياسية الضيقة و صناعة الأحداث عكس التيار بل خارج التاريخ ،و لا غرابة أن تصنع هذه الأحداث دوائر محسوبة علي أطراف سياسية معارضة لخط الإصلاح و التغيير، ربما تكون هي المستفيد الأول من ضبط وتقويم هوية طالما عبثت بها أيادي غير أمينة علي مستقبل البلد، بل ظلت عرضة لطغمة لا تراعي المصالح المصيرية لهوية الدولة .
إن الاعتبارات الموضوعية تدفعنا اليوم إلي فهم الإملاءات التي فرضت حالة مدنية عصرية من شأنها أن تواكب مشروع تحديث المجتمع الذي تسعي إليه موريتانيا الجديدة.