يجلس الخمسيني سيد أحمد ولد بمب على منصة الجمعية الوطنية (البرلمان)، يراقب عمل موظفيه المنشغلين بترتيب إجراءات التصويت لاختيار رئيس المؤسسة التشريعية في موريتانيا، يشغل ولد بمب منصب السكرتير المركزي في الجمعية الوطنية، وكان شاهداً على هذه الوقائع منذ أول برلمان في موريتانيا مع مجيء التعددية السياسية عام 1991.
سيد أحمد خبير بكواليس البرلمان، هنا كان شاهداً على الميلاد السياسي لكثير من النواب سيكتب لهم فيما بعد أن يلعبوا أدوارا مهمة فى الحياة السياسية، كما يتذكر كيف كانت طباع رؤساء البرلمان المتعاقبين.
يتذكر سيد أحمد تفاصيل تنصيب أول رئيس للجمعية الوطنية، الشيخ سيد أحمد ولد بابَ، عندما وقف وتوجه إلى مقعد الرئيس، وحيى النواب بإيماءة سريعة فيها قدر كبير من التواضع والخجل المشوب بالحذر.
وتعلوا وجه أقدم موظف في الجمعية الوطنية ابتسامة خفيفة حين يتذكر كيف حيى الرشيد ولد صالح نواب الجمعية، وهو يستعد للجلوس على كرسي الرئيس، أما مسعود ولد بلخير فيكن له سيد أحمد الكثير من الاحترام، ويقول عند ذكره بنبرة لا يخفى فيها الحنين: « هنا جلس مسعود قبل دورتين ».
تمر الأيام سريعة أمام أعين سيد أحمد، وتترك في ذاكرته آثاراً تختلف من رئيس لآخر، ذلك ما يؤكده حين يصل الحديث إلى رئيس البرلمان السابق محمد ولد ابيليل، يقول: « كان رجلا بسيطاً، وعمل من أجل تحسين ظروف عمال الجمعية ».
ذاكرة المبنى !
عاصر سيد أحمد « الجمعية الوطنية » التي بدأت مع التعددية السياسية مطلع تسعينيات القرن الماضي، ولكن البناية التي يقع فيها البرلمان كانت هي الأخرى شاهدة على مرحلة سابقة من التاريخ السياسي الحديث لموريتانيا.
تأسس « حزب الشعب » عام 1961، وشغل الرئيس المؤسس المختار ولد داداه منصب أمينه العام، وفي يناير من العام الموالي 1962 دخلت البلاد مرحلة « الحزب الواحد » وتم منع جميع الأحزاب الأخرى من ممارسة عملها، فأصبح « حزب الشعب » هو الواجهة الرسمية الوحيدة للعمل السياسي في موريتانيا.
في ذلك الوقت تم تشييد مقر « حزب الشعب » في القطعة الأرضية التي يقع فيها مبنى البرلمان الحالي، وقد ظلت هذه البناية مطبخا سياسيا نشطا فى البلد، تتخذ فيها القرارات الحاسمة وترسم فيها التوازنات المحلية.
في العاشر من يوليو 1978 حدث أول انقلاب عسكري في البلاد، أطاح بحكم الرئيس المؤسس وأطاح معه بـ « حزب الشعب »، وتحولت البناية إلى مقر لـ « الأمانة الدائمة للجنة العسكرية »، لتنتقل من مطبخ لقرار مدني إلى مختبر للقرارات العسكرية.
تبدلت الأدوار ولكن البناية ظلت دوماً مركزاً لصنع القرار، حتى غاية يوليو 1991 حين أعلنت التعددية الحزبية في موريتانيا، ونظمت أول انتخابات رئاسية وبرلمانية اختفت بعدها « الأمانة الدائمة للجنة العسكرية »، وتحول المبنى إلى مقر للغرفة السفلى من البرلمان الوليد (الجمعية الوطنية).
رحلة طويلة قطعها مبنى البرلمان ليصبح في شكله الحالي، ويتذكر سكان نواكشوط الأوائل كيف كانت ساحته تضم عدة مباني من أبرزها « الهيئة الوطنية للسينما »، التي كانت تجاور « نواب الشعب »، قبل أن يعادي سكان نواكشوط « لغة الصورة ».
في نفس الساحة كانت تقع « مدارس النواب »، والتي كانت تتخذ كإقامة للنواب القادمين من الداخل لحضور دورات « حزب الشعب » ونقاشاته السياسية التي لا تنتهي، فالحزب رغم نزعته « التسلطية » إلا أنه احتضن مختلف الآراء والتوجهات الفكرية والسياسية.
كل تلك المباني لم تعد موجودة، لقد شيدت الحكومة على أنقاضها المبنى الذي بعد الكثير من عمليات الترميم والتحسين أصبح في شكله الحالي.
تناوب العسكريين والمدنيين !
منذ استقلال موريتانيا والحكم فيها محل جذب وشد ما بين العسكريين والمدنيين، ذلك ما بدا واضحاً في التناوب على رئاسة البرلمان، تناوب إن لم يكن مقصوداً فهو يعكس لُب ما يسميه البعض « أزمة الحكم » في موريتانيا.
كان الشيخ سيد أحمد ولد بابا، هو أول رئيس للجمعية الوطنية في موريتانيا، خلال الفترة من 1991 وحتى 2001، وهو عقيد في الجيش تقاعد قبل أن يصبح دبلوماسياً ثم رئيساً للبرلمان خلال ولايتين متتاليتين، ليصبح الموريتاني الوحيد الذي قاد البرلمان لولايتين.
خلفه في هذا المنصب الرشيد ولد صالح، وهو مدني كان من أبرز الأطر الموريتانيين المختصين في مجال التعليم، دخل البرلمان عام 2001 قادماً من منصب وزير الاتصال والعلاقات مع البرلمان الذي شغله طيلة 8 سنوات، واستمر رئيساً للبرلمان حتى انقلاب 2005.
مرت البلاد بفترة فراغ دستوري خلال المرحلة الانتقالية، انتهت بانتخابات تشريعية عام 2006 حملت المعارض مسعود ولد بلخير إلى رئاسة البرلمان، كأول معارض وأول شخصية تنحدر من شريحة « الحراطين » تشغل هذا المنصب.
في عام 2013 أصبح محمد ولد ابيليل رئيساً للبرلمان، وهو إداري مدني تدرج في مناصب إدارية بارزة، وشغل منصب وزير الداخلية في عهد الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز، وبناء على تقلده لمنصب رئيس البرلمان بدأ الموريتانيون يتحدثون عن « عُرف » للتوازن في السلطات يمنح « الحراطين » رئاسة البرلمان.
في الانتخابات الأخيرة (2018) انكسر هذا العُرف حين أصبح الشيخ ولد بايه رئيساً للبرلمان، وهو عقيد متقاعد تماماً مثل أول رئيس للبرلمان، وانتهت بذلك هيمنة المدنيين على رئاسة الجمعية الوطنية.