لقد وضع إعلان وزير الداخلية قرار تأجيل الانتخابات التشريعية والبلدية إلى موعد لاحق, حدا لانتظار وهمي استمر منذ أن حددت نفس الوزارة آجال تلك الاستحقاقات. فقد كان الجميع على دراية بان تنظيم تلك الانتخابات في المواعيد المعلنة مستحيل بفعل غياب الحد الأدنى من الشروط الضرورية لعقد انتخابات طبيعية وهو ما دأبت على التذكير به طيلة الأسابيع بل الأشهر الماضية أحزاب المعارضة الديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني والعديد من الشخصيات المستقلة بل إن عددا من الأحزاب والشخصيات المحسوبة على الأغلبية مافتئوا يتساءلون عن إمكانية إجراء هذه الانتخابات.
غير أن الارتياح الذي سببه هذا القرار لا ينبغي أن يحجب عنا تساؤلا يفرض نفسه بشان نمط سير نظامنا السياسي الحالي ومظهره الديمقراطي.
ذلك أن تأجيل الانتخابات عن موعدها الدستوري ولأجل معروف سلفا يعتبر تصرفا خطيرا من الناحية القانونية ومسؤولية سياسية جسيمة تفتح الباب واسعا أمام أشكال مختلفة من التلاعب بمؤسسات الجمهورية في الظرف الراهن كما في المستقبل.
ونتذكر أن رئيس الجمهورية نفسه كان قد أعلن انه لا يستطيع اتخاذ قرار التأجيل نظرا لما سينجم عنه من “جدل قانوني“…
وعلى كل حال فمن المعروف أن اللجوء لتأجيل الانتخابات لا يكون مقبولا إلا لأسباب وجيهة وعلى اثر توافق حقيقي بين الفر قاء السياسيين وطبقا لروح الدستور. أما هذا التأجيل فلم يستوف تلك الشروط وعليه فانه قد يسبب من الجدل والضبابية أكثر مما قد يجلبه لنا من مساعدة على الخروج من الأزمة السياسية والمؤسسية الراهنة.
وكما تكرر ذلك أحزاب المعارضة فان الموضوع المطروح لم يكن طلب تأجيل الانتخابات بل المطالبة بتوفير الضمانات القانونية لتنظيمها بطريقة شفافة كى تفضي المنافسة المقررة إلى تطبيع الحياة السياسية والمؤسسية في البلاد بعد انقلاب الجنرالات.
وقد كان تعنت السلطة الحاكمة فى عدم مواصلة تنفيذ المسلسل الذي انطلق في إطار إجماع دكار السبب المباشر للأزمة الراهنة على الرغم من الوعود والنيات المعلنة لهذه السلطة .
فقد شرع النظام المتمسك بمنطق القوة وفرض الأمر الواقع و بإرادته الأحادية في فرض أجندته الخاصة على المشهد السياسي، دون أي تشاور حول تنفيذ “إصلاحات” جعلت من المستحيل، من حيث طبيعتها وحجمها وظروف انجازها، تنظيم أي انتخابات ذات مصداقية، أي انتخابات حرة وديمقراطية ونزيهة.
وقد بات النظام يتخبط في أوحال ارتجاليته وعدم تبصره .
ويعتبر الوضع الكارثي للحالة المدنية والإنحارافات المتكررة التي تتخلل عمليات التسجيل أبلغ تجسيد لذلك التخبط ،فالواقع أنه لم تعد هنالك حالة مدنية بكل بساطة ،رغم أن الهدف المعلن لهذا الإصلاح تمثل رسميا في تزويد البلاد بهذه الأداة السحرية لإثبات الهوية الموريتانية الأصيلة .
إن الحكومة عاجزة في الوقت الحالي عن تنظيم أي اقتراع دون إقصاء لوائح انتخابية وعشرات بل مئات الآلاف من الموريتانيين الذين لا يمكن التشكيك في هويتهم ومن بينهم آلاف الشباب الذين بلغوا سن التصويت ولكنهم بقوا عاجزين حتى عن الحصول على بطاقات ولد الطائع غير القابلة للتزوير في انتظار ظهور بطاقات أخرى ستكون بدون شك غير قابلة للتزوير .
فلماذا هذا إذن ؟بكل بساطة لأن اعتبارات إيديولوجية غير مقبولة ومتجاوزة وصداقات خاصة طغت على الروح الجمهورية ومتطلبات الوجاهة والكفاءة في اختيار الإجراءات والأشخاص المكلفين بالحالة المدنية ونتيجة لذلك تبقى الجمهورية الإسلامية الموريتانية (وربما الصومال ) البلد الوحيد في العالم الذي بات من شبه المستحيل تحديد حالته المدنية من الناحية القانونية.ومن ثم وبغض النظر عن التلاعب والشوائب العالقة باللوائح الانتخابية خلال الرئاسيات الأخيرة ،فإن المشكل المطروح يكمن أساسا في دقة التسجيلات التي يفترض انطلاقها إضافة إلى الغياب التام للترتيبات الأخرى والإجراءات الضرورية لشفافية الاقتراع مثل تعيين لجنة مستقلة للانتخابات تكون موضع إجماع و إشراك ممثلي الأحزاب .السياسية فى مختلف مراحل المسلسل الانتقالي الخ ……. هذا علاوة على مواصلة بل وتعميم سياسة الإقصاء والقمع في حق الأحزاب السياسية المعارضة ومناصريها من حيث إقصائهم من وسائل الإعلام العمومية واحتجاز مخصصاتهم المالية وممارسة التمييز والاكتتاب في الصفقات العمومية وهو ما يجعل أحزاب المعارضة عاجزة عن ممارسة أنشطتها الاعتيادية أحرى عن المشاركة في منافسات انتخابية طبيعية .
وهكذا يتبين لنا أن هنالك العديد من الأسباب التي تبرر تأجيل هذه الانتخابات إلا أن الدافع الحقيقي للسلطة ليس هو نفسه بالنسبة للمعارضة .فبالنسبة للسلطة التي تمسك بجميع الأوراق بما في ذلك حواسيب الحالة المدنية والقدرة على تقسيم المعارضة ،فإن هذا التأجيل لم تمله سوى الاعتبارات السياسوية والحسابات التي تتأتى من قصر النظر بعيدا عن أي اعتبار للقانون أو حرص على التوصل لحل وسط مع الفاعلين السياسيين الآخرين . وبالتالي فإن الذريعة التي يبرر بها هذا التأجيل وهي” الطلب المزعوم الصادر عن أغلبية “أحزاب المعرضة “تعكس بجلاء إرادة النظام في الإنفراد بقواعد اللعبة وبالتوقيت للأحداث السياسية ، ذلك أنه رغم الوزن السياسي للرئيسيين مسعود ولد بلخير وبيجل ولد هميد في الساحة الوطنية فإن حزبيهما لا يشكلان لا أغلبية المنسقية (كتجمع سياسي من عشرة أحزاب )ولا أغلبية المعارضة الديمقراطية الشرعية المؤسسية (مؤسسة المعارضة الديمقراطية ).
وقد قرر الحزبان المذكوران لأسباب تخصهما كسر الإجماع القائم من خلال خارطة الطريق التي سلمها كل من مسعود ولد بلخير ومحفوظ ولد بتاح باسم جميع أعضاء منسقية المعارضة الديمقراطية لرئيس الجمهورية قبل أسبوعين والتي لم تجد ردا رسميا حتى الآن، وتحدد الورقة المذكورة إطار وشكل الحوار وشروطه الأساسية والشكلية (التي لا تعني سوى التنفيذ الفوري للتشريع المعمول به في مجال مشاركة الأحزاب والمواطنين في حياة سياسية طبيعية ريثما يفضي الحوار المرتقب للتعديلات المؤسسية والقانونية الضرورية من اجل الخروج من الأزمة الناجمة عن الانقلابات المتتالية التي أنهكت البلاد منذ أزيد من ثلاثين سنة).
وقد تفاجئنا برئيس الجمهورية يقرر إيقاف المسلسل التشاوري المباشر بينه وبين منسقية المعارضة الديمقراطية من خلال اللقاءات المنسقة من طرف السيد مسعود ولد بلخير من اجل فرض شكل جديد للحوار ينسلخ بموجبه الرئيس تاركا مكانه للوزير الأول الذى ليس في الواقع الزعيم الفعلي للأغلبية والذي يدرك الجميع حدود صلاحياته السياسية والدستورية .
بعد ذلك ظهرت “خارطة طريق” جديدة إلا أنها مسلمة هذه المرة من طرف الوزير الأول لتحل محل ورقة رئيس الجمهورية التي كانت موضع رد واضح ومحدد من طرف المنسقية عن طريق كل من مسعود و بتاح .
والظاهر أن “خارطة طريق” الوزير الأول لم تكن تهدف إلا لتمرير فكرة تأجيل الاستحقاقات الانتخابية بناءا على إجماع مزعوم بين المعارضة والأغلبية وهو التأجيل الذي تم إخراجه بوصفه شرطا من شروط المعارضة قبلت به السلطة انطلاقا من روح التوافق كما قبلت بفتح الإعلام العمومي أمام المعارضة .
من هنا يتبين أن الدافع كان سياسيا محضا وليس قرارا مشتركا وموضع تشاور أو نابع من اعتبارات ذات صلة بالمصلحة العامة، ضف إلى ذلك أن الغائب الأبرز في كل هذا الصخب السياسي والقانوني هو بالتحديد الهيأة التي كان يفترض أن تكون في الواجهة وهي المجلس الدستوري وإن كانت تشكيلته وظروف عمله الحالية تجعل النتيجة محسومة سلفا إلا أنه على الأقل كان من شأن رأيه السابق لقرار التأجيل (قبل المرسوم الصادر عن وزير الداخلية) أن يصون ماء الوجه ويعطي انطباعا لاحترام الدستور وتحسيس الرأي العام حول السلامة الشكلية للقرار المذكور .
أما اليوم فبدل أن يكون انطلاقة لحوار صريح ومثمر جاء تعديل الرزنامة الانتخابية ليعمق الهوة والانقسام السياسي في البلد على أساس مشبوه . فقد سبب الارتباك للجميع في صفوف المعارضة كما في الموالاة بفعل غياب التشاور من جهة وسيل الإجراءات الأحادية التي تهدد الاستقرار السياسي والاجتماعي للبلد بكامله ، وتقوض مجمل الترسانة القانونية والمؤسسية التي تحكم الحياة العامة في بلادنا ومن ثم توازناته الاقتصادية من جهة أخرى .
إن انعدام الثقة بين الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين يدخل في صميم الأزمة الراهنة ومن ثم فإن الخروج من هذه الأزمة بوصفه الطريق الأوحد الذي يفتح الباب أمام حوار جاد وصريح يمر حتما باعتماد جملة من الإجراءات الكفيلة ببناء الثقة. ولكن هذا المخرج مرهون بشكل مطلق بإرادة رئيس الجمهورية وليس من الحكمة أن يفتح هذا الباب أمام البعض ويسد أمام الآخرين.
إن بإمكان تأجيل الانتخابات اليوم أن يشكل منطلقا للحوار الجاد الذي يتطلع إليه جميع الموريتانيين على اختلاف مشاربهم إلا أن شرطه الوحيد هو أن تتحلى السلطة بإرادة جادة وتتخلى عن روح المناورة وقصر النظر وأن تفتح المجال واسعا أمام إجماع وطني حول الإصلاحات الديمقراطية الأصيلة التي يتطلع لها الجميع وإلا فإن الأزمة ستستمر وتستمر معها ضبابية آفاق المستقبل .