عدا عن الحيرة ازاء تجليات إبداع “غودي” في فن العمارة ببرشلونة ، فان المدينة الأكثر أوروبية في اسبانيا تبدو عادية وذلك سر تميزها. ليست بها زحمة مرورية كبيرة كما في مدريد ،ولا احتقان في الصراع علي الهوية بين المهاجرين والسكان الأصليين كما في مدن إسبانية أخري
لقد نجحت الحكومات “الكاتلانية” المتعاقبة في عدم تخصيص “غيتوهات” خاصة لفئة دون أخري من المهاجرين ، لذا بدا صديقي الكاتلاني ،مدير بلاندوليت ، الصحافي في قناة التلفزيون الثالثة ،مزهوا وهو يقول لي بافتخار ان احدي تلك الساحات المليئة بالرسامين والزوار نهارا تتحول في الليل إلي ملعب للكريكيت ،تتنافس فيها فرق من الباكستانيين
النقطة السوداء الوحيدة في سجل التعايش مع الأقليات في عاصمة كاتالونيا، هي الحديث عن النقاب والبرقع. لست ادري من الذي جلب ذلك السجال الذي ينفس فيه السياسيون الفرنسيون عن عدم قدرتهم جلب أفكار جاذبة في التنمية والحياة ،تنفع في الانتخابات في زمن الأزمة والخيبات
قال مدير انه بحث طويلا ووجد ان النقاب ليس من الضرورات. وبدون الغوص في حديث فقه الأقليات التي أدرك تماماً أني وصديقي الكاتالاني لا نفتي فيه بالقدر المقنع الا اننا اتفقنا ان لا حاجة للبرقع في شوارع برشلونة كما إن لأهل السياسة شأنا أفضل من تسجيل صورة نمطية غير واقعية عن الإسلام
برشلونة تتنفس الثقافة .هنا تركوا لذلك المهندس الفنان، كامل حريته ليبني العمارة حسب خياله الجامح .العمارات تأخذ أشكالا بهلوانية ، أشجار ،أوراق ورسوم وألوان مختلفة
“غودي” ونادي فريق بارصا، ليسا وحدهما من يساهم في جاذبية المدينة التي اختارتها مجلة” فوربس” كواحدة من أفضل المدن في العالم لمناخ الأعمال
لم نتطرق ،أنا والمدير، كثيرا للبارصا وان كان الجدل الدائر اليوم و يشغل بال الجميع هو كون مؤسسة قطرية هي الراعي الأهم للفريق الكروي الشهير. لست ادري قدر الحساسية وما هي أسبابها ولكن كل ما اعرفه ان ثمة حاجة للمال في زمن الأزمة والمال العربي يثير الجدل أينما حل بشرط ان يقع في أيدي الجهة المنافسة في الغرب، في السياسة كما في الرياضة.
قاومت فكرة إن اشتري قميصا للبرصا ، اهديه لأحد الشبان في قريتنا الذين يلعبون بأقدام حافية ويحفظون أسماء كل اللاعبين.
انتصرت في النهاية إرادة ان لا اشتري القمصان الرياضية فقد كرهت كرة القدم منذ ان انهزم فريق قريتنا في احدي المباريات ولم تشفع لي انتصاراته فيما بعد.
في جامعة” رامون يؤول” التي أخذت اسمها من احد المثقفين الكاتلان، في القرن الثاني عشر، وجدت نفسي أمام فريق عمل مختلف. وجدت حرية مطلقة في الحديث دون أن تواجهني ” تابوهات “وأشفقت علي الشبان الذين سيكونون قريبا جزءا من قبيلة الصحافيين. بدت أسئلتهم المليئة بالحيرة جزءا من التكوين وهو ما أكده ناظر الكلية فيما بعد، حين قال لي نريد دائماً أن نشوش أذهان الطلاب اذ الشك في النهاية هو اقصر طريق للإيمان.
في برشلونة التقيت صديقي، كيم امور، بعد فراق دام عقدا ونيف. كان عائدا للتو من القاهرة وبيروت لتصوير فيلم وثائقي عن واحد من اقدم واشهر المراسلين الإسبان في العالم العربي هو توماس الكوبيرو
لم يفقد كيم أريحيته وحسه الفكاهي الذي غذته السنوات الخمس التي قضاها مراسلا في القاهرة لجريدة “البريوديكو“
راكم الصحفي التجربة وبدا فرحا ومتحمسا للثورات العربية وقال لي أتعرف ان العرب أفضل منا؟ لقد غيروا حكامهم في ثورة حقيقية، اما نحن الإسبان فقد انتظرنا فرانكو حتي يموت لنقول اننا غيرنا كل شيئ.
تنازعنا، وانا كيم، لبعض الوقت ثم اتفقنا في النهاية . كان يريد استعادة قطعة الأرض التي وهبته إياها حين جاء الي في قريتنا مشدوها بالصحراء وحياتها الأسطورية في خياله الغربي. احتكمنا ل “غوغل ارث ” ليقول له المحرك بلغة الصورة ان الصحراء التي شاهدها أخر مرة قبل خمسة عشر عاما امتلأت بالبيوت المتناثرة ولم يعد بها موطئ قدم لاسباني حالم.
قلت لصديقي الكاتالوني اولا ثم الاسباني لاحقا : إنني شخصيا فضلت الركون الي ارض أجدادي علي بعد ثلاثة أميال من قريتنا لاستعادة ما سنفقده قريبا من صمت الصحراء الذي لا يقدر بثمن.
حان وقت الوداع فتلك زيارة خاطفة وقلت لأصدقائي الإسبان ان مدينتهم “برشلونة” جميلة و شعبهم مضياف تماماً مثل عبارات البرقيات التي يبعث بها الرؤساء وهم يعبرون أجواء الغير، حيث لا يكلفون أنفسهم حتي عناء إطلالة من الفضاء ؛ اما أنا فقد تمعنت كثيرا لأن مطالعة المدن مثل قراءة الكتب الجميلة متعة حقيقية لمن عايشها فقط.