عبد الله ولد آمنيش، مواطن موريتاني يعمل في مجال تخزين ونقل السمك لبيعه في حي « امحيجرات »، شمالي مدينة نواكشوط، قبل أيامٍ تلقى اتصالاً هاتفيا يدعوه للمشاركة في تظاهرة للعب « الدبوس »، الرقصة التي يعشقها ويتقنها، لقد غير هذا الاتصال روتينه اليومي.
أوصل سيارته المحملة بالسمك الطازج إلى السوق، وغادر على عجل بعد أن أقنع أحد زملائه بالمناوبة عنه ليتمكن من المشاركة في التظاهرة الأولى من نوعها في نواكشوط، لقد تعود عبد الله على الرقص في البوادي، أما هنا في نواكشوط فوقته مشحون بمطاردة قوت يومه، لذا فهذه الفرصة لا تعوض.
يتذكر عبد الله آخر مرة لعب فيها « الدبوس » خلال مناسبة اجتماعية، فهذه الرقصة جزء من فرح الموريتانيين بالأعراس، وهي تحاكي المبارزة البطولية للفرسان، وتنتهي بانتصار أحدهم على وقع الزغاريد والطبول، وسط حلبة من النساء.
خرج عبد الله ذلك اليوم من حلبة الرقص وقد أصيبت يده، فقد تحولت الحلبة إلى « البجاجة »، وهي زحمة سببها دخول أكثر من لاعب، فكثرة الفرسان تتسبب في بعض الإصابات الطفيفة، ولكنها دليل على أن حصة الرقص كانت رائعة، وقد تتحول إلى مادة دسمة لأحاديث الناس لفترة من الزمن.
إن من يتقنون هذه الرقصة، يحظون بشهرة واسعة في مناطق موريتانيا، ولديهم أخلاق الفرسان، وقد تتم دعوتهم لحضور المناسبات والأعراس من أجل الرقص، وهم يشبهون في زيهم وحركاتهم الفنانون.
مساء أمس السبت، وصل عبد الله وهو يرتدي الزي التقليدي المميز، إلى فضاء التنوع الثقافي والبيئي وسط نواكشوط، شارك في الرقص وكان أحد الفرسان البارزين خلال الأمسية التي نظمها مركز ترانيم للفنون الشعبية (هيئة مستقلة)، لإحياء ممارسة هذه الرقصة الشعبية القديمة.
خرج عبد الله هذه المرة سليماً، فالعرض لا يعدو كونه محاولة لإحياء هذه اللعبة، بوصفها تراثا يدخل في اهتمامات المركز، الذي يعمل منذ سنوات على تنظيم أنشطة لإبراز بعض الفنون الشعبية في موريتانيا، كالمدح النبوي، وبنجه، وشويرات، وأصناف أخرى من الفلكلور الشعبي.
نشأ لعب الدبوس في موريتانيا، أو ما يسمي في بعض المناطق “أنيْـكور”، نتيجة المشاجرات التي تحدث في أماكن تواجد المياه، كالعيون والآبار، كما أنه يحاكي المعارك التقليدية التي تكون أسلحتها بيضاء، وفي بعض الأحيان لا تتجاوز بعض العصي والأدوات البسيطة.
ففي مجتمع صحراوي يعتمد على تنمية الماشية كالمجتمع الموريتاني، تعتبر المياة العملة الأهم على الإطلاق، فحتى وقت قريب ظلت مناطق عديدة من البلاد تجلب الماء من مسيرة ليال على ظهور الجمال والحمير، نظرا لبعد مواردها.
وظل التسابق إلى هذه الموارد السمة الغالبة، وينقلب ذلك التسابق، والأولوية في الحصول على المياه من أماكنها، إلى بعض الخلافات بين الرعاة، فيكون الحسم أحيانا بالقوة، والعصا هي السلاح المتاح؛ فنشأ “أنيكور”، أو لعب “الدبوس”، ومع الوقت وضعت له قواعد وفنيات، يتبعها المتبارون، بغية التغلب على الخصم، في أسرع وقت.
تحول “”أنيْـكور”، في فترات لاحقة من وسيلة لحسم المعارك على المياه، إلى طريقة لاستعراض المهارات والترفيه، في مواسم الأعياد، والمناسبات الإجتماعية، وغيرها.
يتم قطع العصي في الغالب من الشجر المحلي المسمى “تيشط”، يكون طولها في حدود المتر، يزيد أو ينقص قليلا، تُصلى على النار لفترة حتي تتبخر السوائل وييبس العود، بعدها تكون جاهزة للمهمة، وتميز العصا الممتازة من خلال قوتها، وصوتها أثناء اللعبة حين تصطدم بباقي العصي.
تجتمع النساء في العادة حول طبل كبير، ويرددن بعض الأغاني التي تثير الحماس في صدور الرجال، بهدف تشجيعهم على تقديم عرض مميز، فيما يقوم الرجال بالمبارزة بالعصي، مع قفزات و صرخات متتالية، لبث الذعر في الخصم.
ترتفع صرخات النسوة وإيقاع الطبل، وصرخات المتبارين، وصيحات الإعجاب من قبل المتابعين الذي يشكلون حلقة حول الحيز المخصص لحركات المتبارين، ليمضي الكل وقتا ممتعا في خضم مهام حياة البدو الصعبة.
أعادت هذه الأجواء الحماس إلى نفس عبد الله، لساعتين عاش خلالهما حياة الريف في قلب نواكشوط، غير بعيد من السوق الذي ترك فيه سمكه طازجاً، وفي الغد سيعود ليصارع في معركة « غير افتراضية » من أجل الحصول على لقمة العيش.