” لا تطرح من المشاكل إلا تلك التي تكون قادرا على حلها “ماركس
تفاجئ الرأي العام الوطني ، وهو يشاهد زعماء المعارضة وهم مختلفون، حول قضية سبق لهم وأن اتفقوا على أهميتها وضرورتها، حتى أن البعض منهم كلف نفسه بنشر الدعاية لها ، وهي ما تزال صورة في الخيال تتراءى في الأفق البعيد ،واجتهد البعض الآخر في محاولة إقناع الآخرين بها ، وكأنها حقيقة ثابتة وملموسة، بل وصلت ببعضهم الرغبة في حب الزعامة والذاتية، إلى محاولة إقحام البعض الآخر، دون قيد أو شرط ،ودون الحصول على ابسط الضمانات التي تطمئن على نجاح هذه القضية، فتعبأ وعبأ المجتمع من أجلها وهي ما تزال شبحا لم تتحد ملامح أطرافه ولا حتى أعضاء جسمه الأساسية.
كل واحد منهم استعد دون أن يكون مستعدا للدخول في حوار مع السلطة حتى ولو كان ذلك على حساب المبادئ ومصلحة البلد، تسابق زعماء الأحزاب من أغلبية ومعارضة ،وقدموا الشعب كهدية لكسب ود رأس السلطة محمد ولد عبد العزيز ،و تحركوا إليه أكثر مما تحرك إليهم ، غير أنه من بين هؤلاء يستثنى زعيم واحد، لم يشغل باله بالنظر إلى سيد القصر الرمادي ، فالتزم صمته واهتم كعادته بالاستماع لأصحاب المظالم ، الفقراء المهشمين وتابع مسيرته في تعبئة الجماهير ،غير مبال بما يدور من أحاديث عابرة.
أعلن هذا الزعيم أمام حشد جماهيري يقدر بعشرات الآلاف، بكلمات ستبقى خالدة محفورة في الذاكرة الوطنية ، رفضه الدخول في حوار دون شروط وضمانات ، هذا الموقف القوي المعلن ،من طرف الرئيس مسعود ولد بلخير – وهى حقيقة- هو الذي أدى في نهاية الأمر، من محمد ولد عبد العزيز مراجعة مواقفه، وإعلانه رسميا بمناسبة خمسينية الاستقلال ، عن استعداده التام للحوار مع المعارضة، هنا زال الشك و تحول الشبح إلى حقيقة ملموسة وثابتة .
لا خلاف على أن الحوار مطلب مهم وملح ،لكونه أنجع طريقة وارقي وسائل الحكم ،لتجسيد الديمقراطية خاصة إذا كانت أطراف الحوار، هي المعارضة والنظام وكان الهدف منه هو البناء والتنمية وردم الخلاف ،عندما يكون البلد في أمس الحاجة لتجاوز، أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية تهدد وحدته وتضع الظلال على مصيره.
كل الأحزاب إذن وبدون استثناء داعمة للنظام كانت أو معارضة له، ترى أن الحوار السياسي هو النافذة الديمقراطية الأفضل، لتصحيح المسار وتقويم الإعوجاجات، فيما يتعلق بالقضايا الجوهرية التي تهم أمن البلد ووحدته، وتضمن حسن سير مؤسساته، كمحاربة الفساد ،الرشوة ،سوء التسيير والاستخدام السيئ لثروة البلد ،الإقصاء ،التمييز ،العنصرية ،العبودية ،تشغيل الأطفال ،إصلاح العدالة والإدارة ،طي ملف الإرث الإنساني ، كل هذا لأجل أن يجنب البلد الإنزلاقات غير المتوقعة، كما حصل في ليبيا وسوريا وقبلهما تونس ومصر والقائمة تطول.
بلغت أهمية الحوار عند البعض- وهو فعلا مهم – درجة المساءلة الشفهية، التي كانت موضوع جلسة نقاش علنية فى البرلمان،
اندفعت قيادات الأحزاب المعارضة ونشطت للدخول في الحوار، إلا مسعود ولد بلخير الذي اشترط، أن تكون الدعوة لهذا الحوار، بمبادرة من السلطة وبالأخص رئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز،
بعد شد ومد وكر وفر، التزم رئيس الجمهورية لرئيس التحالف الشعبي التقدمي، بأنه سيأخذ مبادرة الدعوة له( الحوار) إلا أن الأخير أسرها في نفسه ولم يبديها إلا لنظرائه في المنسقية.
ولهذا استغرب ..! واعتقد أن الشعب كله يستغرب..! لم هذا الخلاف وماهى أسبابه؟ ولم الدعوة لمقاطعته؟ بعد أن كان أهم وأكبر عناوين مطالبنا كمعارضة بعد استحقاقات 2009
هل أن جهود و مساعي مسعود ولد بلخير وقدرته على إقناع ولد عبد العزيز؟ هي سبب الخلاف بين أقطاب المعارضة ؟
إذا كان الجواب نعم ، فلا يمكن تصور أي تفسير منطقي لذلك، سوى الغيرة و الحسد والحقد الدفين، لأنه لا يمكن الاعتراض من أحد، على أن هذا الرجل يمكن أن يقوم بمبادرة وطنية، تجر جميع الأطراف للجلوس على طاولة المفاوضات ،وهذا ليس بالأمر الجديد، فقد قام بالعديد من المبادرات في أوقات ظهر أن البلد في أمس الحاجة لها.
اشتهر بالنضال ،لا خدمة لنفسه ولا لشريحة معينة، بل في سبيل خدمة الوطن والمواطنين، حفاظا على السلم الإجتماعى، الذي يعتبر أعظم وأهم انجاز، يمكن أن يقوم به المرء اتجاه وطنه، لكن هذا المجهود وهذه المبادرات والمواقف المتميزة والشهيرة، والتي من بينها نزوله للشارع دفاعا عن الشرعية وحقوق المواطنين، فى موقف قوى تميز به وانفرد في العالم العربي والإفريقي وحتى العالم الغربي، الذي لم يشاهد موقفا كهذا قبله وربما لن يكرر أحد هذه التجربة بعده، فشخصية اعتبارية مثله بحكم المنصب” رئيس جمعية وطنية” يضرب عرض الحائط بكل امتيازات المنصب دفاعا عن الحق ووفاء للمبادئ أمر غريب في عالم عربي وإفريقي يقدس الناس فيه المناصب ويقتتلون فى سبيلها .
هذه المبادرات وهذه المواقف التي تستحق التقدير والاعتبار، بقيت من المسكوت عنه في الأحاديث العامة والخاصة، من أجل تجاهلها ومحوها من أذهان الناس، حتى الصحافة وأقلام الكتاب ساعدوا في ذلك، وفى المقابل سخروا أقلامهم ولمرات عديدة، وبالغوا ثم بالغوا في ترويج وتلميع شخصيات صورية، أقحمت في المعترك السياسي، لتكون بديلا لهذا الرمز المناضل (مسعود ولد بلخير) أو لتكون على الأقل منافسا له فى أوساط الجماهير، لم تبخل هذه الأقلام في حربها الصامتة، ضد مسعود في تسويق قيادات معارضة وأخرى موالية، محاولة منها لحجب أشعة الأفكار والتوجهات الوطنية،التى تميز بها، لذا أرى أنه أصبح لزاما علي وعلى كل أبناء الشعب التقدميين، أن نبين للقراء الكرام ،وقفات من تاريخ هذا الرجل الوطني، الذي تحاك ضده المؤامرات في كل وقت، هذه مسالة أشعر أنها أصبحت اليوم بالنسبة إلى مطروحة، بمعنى أنها أضحت في نظري على الأقل، من الأمور التي ينبغي طرحها، بالاعتماد على شهادات تاريخية تزكى واقعيتها, فهو رجل يمثل أسس وجذور مدرسة الاعتدال، لم يعرف بالاستسلام للضغوط ولا لأي إغراءات مهما كان نوعها و عظمت أهميتها، لأن مصلحة البلد عنده فوق كل اعتبار.
أم هل أن حماس الاستعداد للحوار، امتصه الأمل الضعيف في ثورة الشباب وإضرابات بعض القطاعات ؟ أم أن استيراتيجيته تغيرت نتيجة لعوامل ومعطيات جديدة” الثورة الشعبية في الوطن العربي”.
فعلا هذه الثورة ستؤثر لا محالة، بل أثرت بالفعل على مجريات التطورات السياسية والاجتماعية، ليس على بلدنا فحسب بل على كل المجتمعات، غير أنه كان ينبغي استخدام نتائج الثورة العربية وأسبابها، كمحفزات أساسية ومشجعة للدخول في حوار جاد وسريع، لإعطاء الصورة النموذجية لنضج الطبقة السياسية الوطنية، التي برهنت على نضجها فى شفافية الانتخابات في مارس من العام 2007، الفاصلة الديمقراطية التي لم تعمر طويلا ..
أما إذا انطلقنا وكما يقول البعض، من أن نظام ولد عبد العزيز يلفظ نفسه الأخير، وبالتالي فإن الحوار معه، يعنى إعطاءه فرصة ليتنفس الصعداء، فإني هنا لا أرى فرقا بينا، بين هذه الفترة والفترة السابقة لها، في أواخر أيام حكم الرئيس المخلوع معاوية ولد الطايع، ذلك الحوار الذي تولى ربط خيوطه مع بعض قادة المعارضة، رئيس حزب التجمع من أجل الديمقراطية والوحدة احمد ولد سيدى باب ، باتفاق لم يعلن عن بنوده ، شاركت فيه كل الأحزاب دون اى قيد أو شرط ،إلا التحالف الشعبي التقدمي الذي امتنع عن المشاركة في حوار مع نظام في الإنعاش السياسي،ولهم فى ذلك أكثر من مبرر، فعلى سبيل المثال لا للحصر، انعدام حرية التعبير والرأي ، وحظر الحديث عن الملفين المتعلقين بحقوق الإنسان “العبودية والمبعدين” المعتبرين من المحظورات فى تلك الفترة ،ولهذا كان الاعتراض على الدخول فى الحوار مبررا ومقبولا ومشروعا أيضا، لأن المعترض وهو الرئيس مسعودولد بلخير قدم إقتراحا أفضل، مدعم بالحجج والبراهين المنطقية التى أعتقد أنها الآن ليست متوفرة لدى المعترضين على الحوار فى هذه الظرفية الزمنية الحساسة التي يمر بها العالم الذي أصبح يفضل استخدام الأساليب الحضارية الدبلوماسية على العنف واستخدام القوة.
ولهذا أعتقد أن الرهانات على ثورة و تحركات الشباب هي أحلام نائم وحسابات خاطئة واستغلال سلبيي للزمن وتطورات الأحداث، وبالتالي فإني لا أرى لذلك من وجه شبه غير من تحدثه نفسه بصيد الأسماك فى رمال صحراوية قاحلة، فالشباب تحول من شباب ثائر على واقع أليم، إلى شباب منظر لحزب عصر وقد يثور شباب آخر لتشكيل حزب مغرب.
فالحكومة التي يقود ولد محمد لغظف ليست أفضل الحكومات التي سيرت البلد، بل إنما أعتبرها هي أكثر الحكومات إخفاقا وأقلها تجربة ونضجا ،وليست السلطة التي على رأسها الجنرال المستقيل من رتبته العسكرية هي أحسن السلطات ،بل هي أسوئها وأكثرها تذبذبا وأقلها ثباتا،
لكن هذا كله لا يسد الباب أمام الحوار السياسي، ولا يعطى المبررات للأحزاب فى ارتكاب الأخطاء لتبنيها أو دعمها أو مساهمتها فى تهيئة الظروف لأعمال شغب ضد ممتلكات الشعب .
ومن الأخطاء القاتلة كذلك، محاولة دفع الأحزاب السياسية أو قادتها تحت أى صيغة لتأطير وتوجيه انتفاضات شغب أو أعمال عنف، فالأحزاب تصل للسلطة عن طريق صناديق الاقتراع و بإقناع المواطنين الناخبين بضرورة التغيير والتداول السلمي على السلطة .
لا يمكن أن نتجاهل أن الثورات التي عرفتها بعض الأقطار العربية، جاءت كلها عفوية، ملبية لنداء استغاثة المواطن العربي الذي يصرخ في صمت، تقودها قوى شبابية مستقلة برؤاها عن المشهد السياسي ولا تتلقى الدعم من الأحزاب والفاعلين في الحقل السياسي.
نجحت ثورات بعض الدول العربية الراقية نسبيا (تونس – مصر) مقارنة مع بلدنا وشعبنا القبلي الجهوى الإستعبادى الذي تمتلئ نفسه حقدا ويضيق صدره تنفسا عندما يرى أو يسمع مسعود ولد بلخير يقدم مبادرة لحلحلة أزمة ما أو يعترض على أمر ما لا يخدم مصلحة البلد…نتذكر جميعا أهمية المبادرة التي تفضل بها مساهمة منه للخروج من أزمة فقدان الشرعية إثر انقلاب 2008، كما ساهم بمبادرة لا تقل أهمية عن سابقتها فيما يعرف بأزمة الدولة والتجار، وفي كل هذه الحالات تتسلل ثلة من المتسيسين لهم قلوب مريضة تستتر وراء أقلام أسماء مستعارة سعيا منهم لإجهاض مبادرته و إفراغها من مضمونها و محتواها، ليحاول آخر إخراجها عن طريقهم بطريقة أخرى بتغيير عبارة أو حذف أخرى و تقديم بند وتأخير آخر، كما وقع مع التغيير غير النزيه لبنود المبادرات السابقة 2008 الخاصة باستعادة الشرعية، ومبادرة 2010الخاصة بأزمة رجال الأعمال والدولة ،كل هذا قام به من أجل الوطن ولأجل الوطن فقط وكأنه ينطلق من خلفية البيت الشعرى :
واثبت ثبات الرواسي الشامخات ولا
تركن إلى فشل في ساعة الأمل