قد يبدو في العنوان شيءٌ من القسوة والتشاؤم؛ وقد يرى فيه البعض إثارة وحساسية. لكن السؤال عن وضع البيضان ومستقبلهم، أصبح مبحثا بالغ الجدية والوجاهة ولَمْ يَعُد يفاجِئُ أحدا. لا لصعوبة المرحلة التاريخية التي تعيشها هذه المجموعة الشعبية وما يواجهها من تحديات سياسية وديمغرافية وإستراتيجية وحضارية فحسب، وإنما لكثرة انتشار هذا السؤال وأمثاله بين الناس.
فمصير البيضان ودولتِهم وحضارتِهم ومركزِهم السياسي والديمغرافي… وإلى أين يسيرون؟ وهل ينقرضون؟ وما مدى استفادتهم من الدولة والأرض؟ وما هي حصونهم وضماناتهم؟ ومن يتكلم باسمهم ومن يدافع عنهم؟… إشكالاتٌ باتت تـُطرح يوميا من قِبل أفراد هذه المجموعة، شبابا وشِيبا، رجالا ونساء، مثقفين وبسطاء، تصدُر من قلوبهم وعن قرائحهم، بنفس النبرة البسيطة والعميقة في آن واحد.
فهل يواجه البيضانَ مِن التحديات والمخاطر ما لا يواجه غيرهم؟ وهل يتناقض طرح مثل هذا الموضوع مع الطرح الوطني ومفهوم المواطنة الذي تقوم عليه الدولة الحديثة؟
هل من المفيد أو مِنَ الممكن تغطية هذه الهواجس والحقائق التي تلُوح اليومَ بقوة في سماء موريتانيا، أَمْ أنَّ مِنَ الأنْسَب طرح الموضوع وإنزاله إلى الأرض ومعالجته بشكل واعٍ ومسئول قبْلَ أنْ يَعْبَثَ به العابثون والمرتزقة والأجانبُ واللامسؤولون؟
قبل الشروع في تحديد مفاهيم هذا الكلام ومنطلقاته، سيكون مِن المناسب التقديمُ بين يَدَيْه بجملة من المداخيل العامة:
المدخل الأول: سيكون من المستغرَب أن يرى أحدهم في الموضوع أيَّ نوع من ضيق النظرة وإثارة النعرات… ذلك أن لكل طائفة بشرية من الهموم والتحديات ما قد يواجهها لوحدها، كما قد يكون لها من ذلك أيضا ما يشملها والمجموعاتِ الوطنية الأخرى، دون أن يكون في ذلك تعارض مع مبادئ الأخوة والتاريخ والمصير المشترك.
المدخل الثاني: أن هذه المعالجة منطلقة، في أساسها، من هواجس الناس وسؤالاتهم. فلا يحق لأي جهة، سواءً كانت أكثرية أو أقلية وسواءً كانت في الحكم أو في المعارضة أو كانت إيديولوجية أو عرقية، أن تصنع للناس قضيتهم وتمليها عليهم. بل إن دور النُخَب والساسة هو صياغة القضايا بناء على حاجات الناس وهواجسهم والسؤال على ألسنتهم.
المدخل الثالث: أنه بتجاهُلنا لاستشكالات الناس والحقائق الواقعة أمام أعيننا، نكون قد خدعنا أنفسنا وخذلنا شعبنا ووطننا بكل مكوناته. فواجب كل مواطن، كما يقول ريموند آرون، هو التمسك بالحقيقة حتى في مواقفه حيالَ الوطن؛ وإنَّ واجب كل مُواطنٍ الموتُ من أجل وطنه.. لكنْ ليس هناك أيُّ شخص مُرْغَمٌ على الكذب من أجل هذا الوطن!
المدخل الرابع: أن هذه المعالجة تنطلق من بعض الصفات الخاصة بالبيضان والمرتبطة بهم أكثر من غيرهم من المجتمعات الشقيقة والمجاورة. من هذه الصفات:
1. بدواة البيضان وغياب مفهوم الدولة المركزية في عقلياتهم وعبر تاريخهم السياسي.
2. قلة عددهم وضعف نموهم الديمغرافي وافتقارُهم إلى أي مَدٍٍ شعْبي على الكرة الأرضية من خارج حدود ما يسمى “اتراب البيضان”، إضافة إلى تَشَتُّـتِهِم عَبْرَ صحراء شاسعة وفي دول مختلفة.
3. بدائية وارتجالية الأشكال والأدوات التي تبنى بها الظاهرة السياسية في بلاد البيضان وضعف مادتهم السياسية وافتقارها إلى القضية وتقادُم أساليبها وارتباك قياداتها وخروجه عن الموضوع وإهمالهم للأسئلة الكبرى والهواجس الشعبية الحقيقية.
4. ترَسُّخُ بعض العادات السلبية في المجتمع، مثل عدم الاعتماد على النفس في كثير من الخدمات الضرورية للحياة، مثل خدمات المنزل التي أصبح أغنى الأغنياء في الخليج أوربا يقومون بها بأنفسهم دون الاستعانة بأجير.
5. استفحال كابوس الهجرة بشكل مرعب وغير مسبوق إلى أرض البيضان وعبرها.
6. أن مجتمع البيضان، كغيره من المجتمعات الصحراوية، مجتمع جامد يتعذَّر عليه التفاعل صِحِّيًا مع المجتمعات الأخرى، إلا إذا كانت هناك غَلـَبَة مُسَلَّمٌ بها وتحصين ميداني أو ثقافي فعّال… على العكس تماما من المجتمعات المائعة التي يسهل عليها التعامل والتفاعل مع مختلف المجتمعات والأوضاع.
7. أن المد الشعوبي والجَسَرة على الثقافة الأصيلة، بما في ذلك اللغة العربية والثقافة الإسلامية، لا تأتي من الجنوب والشمال والشرق والغرب فحسب، بل إن الشعوبية الثقافية القادمة من داخل أوساط الأجيال الأولى من البيضان المتعلمين أخطر وأعمق.
المدخل الخامس: أنه قد أصبح لهذا الأمر من الراهنية والإلحاح، ما يجعل النخبَ الصادقة والساسة الملتزمين يبتعدون عن المجاملة حِيالـَه أو أن يَعْبَأوا بالحساسية المصطنعة والعُقد التي تحوم حوله. فهل من المنصف أو المفيد أن تبقى كلمة “البيضان” مختصَرَة في أمور تراثية بسيطة، كأدوات الصناعة التقليدية والموسيقى والشعر الشعبيين؛ وأن يكون من المحظور والمثير معالجة أوضاع هذه المجموعة وهمومها السياسية في مَحْفِل رسمي أو عمومي أو في كتابة جدية؟
المدخل السادس: أن الخطابات والترشحات والأحزاب الموريتانية التي تحمل قضايا طائفية وأحيانا عنصرية صريحة والدعوة إلى إحصاءات عرقية وتمردات عنيفة… أصبحت في حكم المعتاد ومشرَّعة ومقبولة وطنيا ودوليا، شريطة أن لا تكون لها مرجعية “بيضانية” محض، لتبقى هذه الأخيرة ملفوفة بلبوس الحواجز النفسية والعقد السياسية.
مفاهيم وحقائق:
خلافا لِكلِّما يمكن أن يُحاك من خَيالات سياسية وتاريخية، وبغض النظر عما خلـَّفته بعضُ الممارسات الاجتماعية البغيضة، المتعلقة بالاسترقاق الذي عرفه هذا الشعب كغيره من شعوب الدنيا، فإن كلمة “البيضان” تُطلق على ذلك المجتمع الذي يتكلم اللهجة العربية الحسانية؛ والمنتشِر فيما يعرف تاريخيا بـ “اتراب البيضان”، التي تشمل اليوم أراضي الجمهورية الإسلامية الموريتانية ونواحي أخرى تخضع لسيادة دول مجاورة. وقد تأسست لهذا المجتمع مكوّناتُ شخصيته عَبْرَ أحداث تاريخية كبرى، يمكن حصر أبرزها في ثلاث:
أولا: وصول طلائع الفتح العربي الإسلامي إلى الطرف الشمالي من البلاد سنة 734م.
ثانيا: قيامُ حركة المرابطين حوالي سنة 1029م. وقد رافق نشأتَهم اعتناقُ مجاوريهم من أهالي سِلَّى وتكرور للإسلام، فكانوا عونا لهم على مجابهة الأزمات التي واجهت دعوتهم في بدايتها.
ثالثا: انتشار قبائل حسان في البلاد على عدة مراحل قبل نهاية القرن 15م. ليستكمل القطر عناصر سكانه وتحل لهجتهم العربية الحسانية محل اللهجات الصنهاجية (كلام ازناكة) في طول “تراب البيضان” وعرضها.
ظل البيضان، على مدى القرون الماضية، هم أصحابَ الكلمة الأولى والأخيرة في هذه الأرض (اتراب البيضان)، الممتدة من اكليميم شمالا إلى مدينة اللوكه جنوبا. ومن المحيط غربا إلى صحراء النيجر شرقا. ذلك أن السلاح والهيمنة الميدانية كلها لهم والاقتصاد بأيديهم والعلوم والروحانيات هم أصحابها وأئمتها والثقافة والإبداع من خيالهم وعلى أذواقهم والدولة الحديثة خيارُهم. فأنى للقرار أن يتجاوزهم؟
إلى يوم أمس، لم يكن في الأمر جدال أو اعتراض وكان التعايش مستقرا طِيلةَ مراحل التسيير الذاتي. إما بسبب الغلَبَة المسلَّم بها وإما بسبب عدم وجود تدخل أجنبي وإما لعدم وجود تضارب في المصالح. بل إن قبول المرء ضمن هذه المنظومة البيضانية الصلبة، كان من أهم الطموحات الاجتماعية والدينية في المنطقة كلها.
غير أن الدولة الحديثة والصّنْعة الديمقراطية الأخيرة، ساهما بشكل ملاحظ في تناقص الاستقرار والثقة المتبادلة تاريخيا بين الإخوة المتعايشين في هذه البقعة من الأرض. يضاف إلى ذلك – بطبيعة الحال – زيادة الوعي والتمدرس بين أفراد الطبقات المظلومة وما نجم عن ذلك من رفض للظلم والمطالبة بالحقوق على وتيرات مختلفة وبلهجات متباينة.
في أيام المختار ولد داداه، نُظمت مظاهرات وإضرابات عنيفة ووزعت منشورات شديدة اللهجة ردا على إضافة ساعتين من العربية إلى التعليم الوطني أو إدماج خرجي الجامعات العربية في الإدارة، فكان رد السلطة أعنف، مما أحدث قتلى وجرحى وجَوًّا من عدم الثقة، مازال على حاله إن كان لا يزداد.
وخلال فترة ولد الطايع، حاول ضباط زنوج أن يستحوذوا على السلطة بالقوة، ولن يكون قلبُ الأمور رأسا على عقب حينَها بالعسير. وكانت ردة فعل ولد الطايع أعنف ومازال الجميع يعيش مخلفاتها.
أما اليوم، فقد بات من المعتاد سماع تلك الأصوات والدعوات الصادرة على أفواه وأقلام مجموعة من النشطاء السياسيين المنحدرين من فئة الحراطين (المُتزنِّجين منهم على وجه الخصوص)، والتي تتبرأ من البيضان والانتماء إليهم، وتصفهم بأنهم شرذمة قليلون من الغزاة وقناصة العبيد. مع شيء من التهديد وتقسيم البيضان إلى عرب وبربر وحراطين…
معظم الناس يدرك أن اللبن يغلي فوق النار، لكن الكثير منهم يهابون الموضوع ويرَهبونه ويكِلونه إلى الدولة أو إلى المجهول، ناسين أن المثقف أو الإنسان العادي يمكنه أن يقول من الآراء ويطرق من المواضيع ما لا يمكن للدولة والسلطات السياسية والأمنية أن تتلفّظ به لحظة واحدة.
وسواء شئنا أمْ كرِهنا، فقد عرفت المسألة منعطفا دقيقا وظواهر جديدة – بالمعنَيَيْن الكَمِّي والكَيْفي – مما يحتم علينا شيئا من مصارحة النفس ومصارحة الغير. وذلك بطرح جملة من الحقائق المتجاوزة في واقعنا المعيش قديما وحديثا، علَّنا نصل إلى عقد اجتماعي أقوى ونتصرّف بالشكل المناسب، قبل المباغتة وفوات الأوان:
الحقيقة الأولى: أن كلمة “البيضان”، وإن كانت تطلق، كما سلف، على ذلك المجتمع الذي يتكلم اللهجة العربية الحسانية، والمنتشِر فيما يعرف تاريخيا بـ “اتراب البيضان”، إلا أنها تقتصر أيضا، حسب مفاهيم أخرى سائدة، على “البيضان البيض”، أو البيضان المنحدرين من أصول عربية وبربرية. وهو اصطلاح كثير الورود وقطعي الدلالة داخل الفئتين والمجتمع الموريتاني بأكمله.
الحقيقة الثانية: أن البيضان المنحدرين من أصول عربية وبربرية، ظلوا، على مدى القرون الماضية، هم السادة، مستأثرين بالسلاح والاقتصاد والعلم والروحانيات والثقافة والقرار السياسي… مهمِّشين ومضطهدين للطائفة الأخرى: البيضان السمر أو السودان أو الحراطين أو الأرقاء والأرقاء السابقين (العبرة بالمُسَمَّيات والمَضامين وليست بالأسماء والعناوين)، الذين ظلوا على مدى القرون الماضية يُستعبَدون ويتعرضون تحت طائلة الرق لأبغض الممارسات وأبشع صنوف الظلم والحرمان…
الحقيقة الثالثة: أن هناك احتمالين للتصنيف. أحدهما يعتمد المقاربة الثقافية، ويؤدي إلى أن كل من يتكلم اللهجة الحسانية ويسكن بلاد البيضان وينتمي إلى قبائلهم ويمارس عاداتهم… هو من جملة البيضان، سواء كان من أصول عربية أو بربرية أو زنجية. أما التصنيف الثاني، فيعتمد المقاربة العرقية المتمحِّضة، ويعتبر أن كل إنسان أسود على وجه الكرة الأرضية، هو من أصول زنجية إفريقية. وبذلك يكون الحراطين زنوجا معربين.
الحقيقة الرابعة: أن موريتانيا تشهد – في واقع الأمر – انحسارا مشهودا للممارسات المتصلة بالرق وذلك على مختلف المستويات، لكنه مازالت هناك مخلفات للرق وستبقى ردحا من الزمن. غير أن ما لا يدركه الكثير من الناس، هو أن “مكافحة الرق” نفسها، لها مخلفات أدق وأخطر ويمكن للكثير من الأفكار والمشروعات السياسية والثقافية والمالية أن يتسرب إليها من داخل البلاد ومن خارجها.
الحقيقة الخامسة: أنه، إلى حد سنة 1984، لم يتبوأ أي من أبناء مجموعة الحراطين منصب وزير في الحكومات الموريتانية المتعاقبة، أما اليوم فإن المنصب الوحيد الذي لم يتبؤوه، هو منصب رئاسة الجمهورية.
الحقيقة السادسة: مما يدركه الجميع، أن ميزان النمو الديمغرافي مختل بشكل ملاحظ لصالح الفئة السمراء. وما ذاك بسبب كثرة هذه الفئة، التي تعتبر من أقل المجموعات البشرية في العالم، بل إن الاختلال راجع أولا وأخيرا إلى عقليات وسلوكيات اجتماعية واقتصادية تسلكها فئة البيضان البيض، ستؤدي حتما إلى انقراضها بشكل شبه تام من على ظهر الأرض. وجدير بالذكر أن هذه العادات والعقليات أقل تجذرا في بيضان البوليزاريو وأزواد والساقية الحمراء ووادي الذهب منها في بيضان موريتانيا.
الحقيقة السابعة: أن ما يَتَّكِلُ عليه البيضان البيض ويغترون به، هو استئثارهم – حتى الآن – بمنصب رئاسة الجمهورية وبعض المناصب العسكرية والأمنية العليا وشيء من التفوُّق التجاري والمالي المؤقت. يقول أب الاستراتيجيات الصيني سُونْ اتْزُو: “إذا أُعطي للخصم حبلٌ طويل بما فيه الكفاية، كثيرا ما يحدث أن يشنق به نفسَه”! والجيش، كما يقول الجنرال ديغول، لا يعني الجنرالات والعقداء وكبار الضباط، بل إن الجنود الصغار هم مادة الجيش.
الحقيقة الثامنة: أن النتيجة – والحال هذه – معلومة ومحسومة. ومَفادها أن أجيالا من الإخوة الحراطين، الذين حظوا بالتعليم والوعي، ستمسك في السنوات القادمة زمام الأمور في موريتانيا، وتستأثر به إلى الوقت الذي يتكامل فيه اكتساحُ البلد من قِبَل أفول المهاجرين القادمين من غرب إفريقيا، ذات 296186492 نسمة، حسب إحصاءات سنة 2009.
الحقيقة التاسعة: أن النتيجة أعلاه لا توحي بأي مشكل، فهذا عصر الديمقراطية وحكم الأكثرية. وهؤلاء إخوة، لهم نفس الانتماءات الدينية والثقافية والجغرافية… لكن السؤال يبقى واردا هنا ومشروعا عن الوضعية السياسية والاجتماعية والنفسية التي ستحصل عندما ينقلب التاريخ رأسا على عقب ويصبح تابع الأمس متبوعا ومتبوعُه تابعا؟ فهل ستتقبل المجموعة الشعبية المهزومة الأمر وتتغلب على عقدة التفوق؟ وهل ستتخطى الفئة المنتصرة عقدة الدونية وروح الشنآن والرغبة في الانتقام من ألف سنة من التاريخ؟ وهل سينجو الجميع من الإغراءات والإرْجافات المدمرة التي تأتي من داخل البلاد وخارجها؟
الحقيقة العاشرة: أنه إذا كان التركيز في الحلقة الأولى من هذا الموضوع على أوضاع البيضان الموريتانيين، فهذا لا ينفي أن مجموعات البيضان الموجودة في دول أخرى مجاورة، هُمْ أشقاء لبيضان موريتانيا، شئنا ذلك أمْ أبينا، إذ لا فرق بين الفئتين في الأصل والتاريخ واللسان والعادات والمصير المشترك… فإلى متى يبقى التواصل شبه معدوم.
لهذه الأسباب وغيرها، يتساءل الموريتاني العادي: هل من الجائز اليومَ والمفيد في الظروف الحالية، التدقيقُ في هوية البلد أو مراجعتها والتوقفُ عند بعض الحقائق التاريخية والسياسية والاجتماعية؟
هل تُعتبر المقاربة العرقية ومعالجة أوضاع ومصائر مجموعة شعبية ما، لا تجوز – في دولة القانون والديمقراطية – إلا للأقليات صاحبة الحقوق المهضومة أو تلك التي لم تصل يوما إلى سدة الحكم؟
هل بإمكاننا أن نثَبِّت أسسا متينة للمواطنة والتعايش الأهلي، قبل تحقيق المشروع التقليدي المتمثل في بناء دولة موريتانية قوية وحديثة؟ وإلى أين وصل حلم الطفولة هذا؟ وماذا يواجهه من تحديات؟ وهل هو قابل للتحقُّق؟
هل من سبيل إلى بناء وإعادة بناء الثقة بين مكونات الشعب دون إيجاد مرجعية محسومة، متفق عليها ومسلَّم بها من قِبل الجميع؟ وأي ثوابت يمكن للموريتانيين أن يتفقوا عليها، بعد أن أصبحت اللغة العربية وتعريب الإدارة يثيران الحفيظة في موريتانيا، تماما كما يثير الهولوكست ونكرانه حفيظة آخرين؟
هل مازالت الشرعية التاريخية واردة في عهد الديمقراطية وحكم الأكثرية؟ وهل سيجد الموريتانيون في الديمقراطية الطائفية وتقسيم المناصب السامية بين الطوائف عامل استقرار وحلا مقبولا من طرف مكونات الشعب؟
مرحلة الحسم:
من مسلَّمات اكلوزفيتش الإستراتيجية، أن الحدَّ من سلبيات معركة خاسرة تجري، أوْلى من خوض معركة جديدة”.
وكل مشروع، حتى ولو كان ناجحا ومتكاملا، يحتاج في جميع مراحله إلى المراجعة والتدقيق. وبعد خمسين سنة من حصولها على كيان مستقل، عرف كثيرا من التعثرات والانتكاسات؛ وقليلا ما تتحقق فيه التطلعاتُ والأمجاد، تكون موريتانيا قد بلغت مرحلة الحسم:
· حسم البقاء،
· حسم هوية الدولة ومرجعيتها،
· حسم الانتماء الاختياري لهذه الهوية والمرجعية،
· ثم البحث عن وسائل جديدة لامتلاك المجتمع الدولة الأرض، ووسائل أخرى لتحديد مدى انتماء المجتمع لهذه الدولة وتلك الأرض.
كان الناس يَسألون – في كل محطة من محطات المشروع الموريتاني المتعثِّر – عن وضع الأقليات وحضورهم ومواقفهم. وكانت الأقليات الموريتانية، شأنها في ذلك شأن الأقليات في العالم، أكثر تنظيما وقدرة على طرح همومها وتقييم أداء نُخبها ونضالها… لكن قلق عامة البيضان اليوم وخاصتهم على مستقبلهم السياسي، أمر جديد نسبيا ويحمل معاني عميقة وعناصر متعددة الأبعاد وجاء في ظروف متميزة وظواهر إقليمية ودولية عاتية، لم يكن الكيان الموريتاني بأكمله مهيئا في الأصل لمواجهتها.
كابوس الهجرة:
ولها علاقة وثيقة ومباشرة بالجريمة واختلال التوازن الديمغرافي والبطالة وانحدار الأخلاق والضغط على القطاعات الخدمية كالماء والكهرباء والصحة والسكن والوقود والنقل…
لا وجود في موريتانيا للأرقام والإحصاءات الدقيقة ولا توجد بها أي دراسة علمية ولا تقرير إستراتيجي في أي مجال، وكأننا الشعب الوحيد من شعوب الدنيا الواثق من قدرته على بناء دولة حديثة بالاعتماد على شيء من ارتجالات البدو وخَطرات الجهَّال.
لكن منظمة الهجرة الدولية قالت في تقرير لها أصدرته يوم 31 يناير 2010، إن موريتانيا أضحت المقصد الأول للمهاجرين الأفارقة من دول جنوب الصحراء. وأن 84 في المائة من بين 100 ألف مهاجر يوجدون في الوقت الراهن في موريتانيا، ينتمون لجنسيات افريقية. وأشار التقرير إلى أن 87 في المائة من هؤلاء المهاجرين يعملون بالعاصمة نواكشوط في القطاع الاقتصادي غير الرسمي في مهن خادمات منازل وسائقين ومزارعين وصيادي أسماك. وقال التقرير إنه بالرغم من أن موريتانيا أًصبحت وجهة رئيسية للمهاجرين من دول غرب إفريقيا، إلا أن موريتانيا نفسها تعاني من هجرة أطرها المتعلمة إلى الخارج، خاصة صوب أوربا بحثا عن فرص معيشية أفضل. والكل يعلم أن الأرقام أضخم من هذا وما ذاك إلا البداية.
إن القارة الأوربية، التي يزيد عدد سكانها على 700 مليون نسمة، وهي أكثر مناطق الدنيا غنى وتحَضُّرا وتنظيما واحتياجا إلى اليد العاملة، وتحُول بينها وبين إفريقيا محيطات وبحارٌ ودولٌ وآلافُ الكيلمترات، تؤرق الهجرة مضاجعها وتشكل هاجسها وكابوسها الأول. أما الولايات المتحدة الأمريكية التي تواجه الهجرة من المكسيك عبر نهر ريو اكراندي، لم تجد بُدا من بناء جدار عازل بلغ طوله 1200 كيلومتر.
وموريتانيا، إما أن تبقى على حالها فقيرة بائسة، عندئذ سيُعتبرُ كل مهاجر وفَدَ إليها بمثابة مَن ينتزع اللقمة من أحد مواطنيها الجياع أو يضايقهم في فرص العمل والخدمات الشحيحة، كالماء والكهرباء والصحة والسكن والوقود والنقل. وإما أن يجد البلد طريقا لاستخراج جزء من معادنه الكثيرة أو سبيلا لزراعة جزء من أراضيه الخصبة أو تنمية واستخراج ثروته الحيوانية والسمكية الهائلة… فهذا إن حصل في الظروف والتمَوْقع الحالي، سيصبح الموريتانيون، بين عشية وضحاها، أجانب في بلادهم وسيُبتلعون ابتلاعا وهم لاهون في حلقات مفرغة من الأساطير السياسية والشكليات الروتينية.
وللهجرة عدة أبعاد ومخلَّفات معقدة وخطيرة وأحيانا يكون حلها مستحيلا. فعلى المستوى الأمني، لم يعرف الشعب الموريتاني العادي، بمختلف طوائفه، الجريمة المنظمة والمبادرة إلى القتل من أجل هواتف أو قطع السيارات أو حزمة من النقود. وفي حال انحراف فرد من أفراد الأسرة أو القبيلة أو الحي السكني، لن يصعب تحديد مكانه وتحييده عن طريق الأهالي أو السلطة. لكنْ، بوجود أمواج عاتية ومتزايدة يوميا من المهاجرين الفارين من الحروب والمجاعة والاقتتال والمغايرين في الخلق والقيم والأهداف، ستكون محاولة ضبط الأمن في مدينة مثل نواكشوط هاجسا من هواجس الخيال.
نفس الشيء بالنسبة لمحاربة البطالة، خصوصا عندما يتعلق الأمر بسائقي وملاك سيارات الأجرة والبنائين وخدام المنازل والمطاعم والفنادق وخريجي معاهد التكوين المهني…
الإجراءات التي تحاول الحكومة منذ وقت اتخاذها في الموضوع، لن تكون مجدية إلا بخطة محكمة وجهود ومعجزات بشرية ومالية وتقنية خارقة وتنسيق شعبي وإقليمي ودولي صادق. فلو انخرط الموريتانيون بأكملهم في الجيش والدرك والحرس والشرطة، هل سيتمكنون من حماية حدودهم من جهة الصحراء الكبرى والمحيط الأطلسي والنهر. هذا الأخير الذي قال فيه اكلوز فيتش: “إن نهرا محصنا بشكل فعّال نادر في التاريخ”. كما أن نواكشوط، التي تحتوي على أزيد من ثلث المواطنين، مدينة ضعيفة بموقعها وتركبة سكانها وفوضوية عمرانها.
الاهتمام الدولي المتزايد والغامض بالمنطقة:
“إن الأرض دائما ثمينة عندما تكون خالية أو قليلة السكان”. هذه المقالة المأثورة عن خبراء استراتجيين كبار، لا توحي بأن القوى الدولية والإقليمية ستهمل أو تتورع عن الأرضي الشاسعة التي الخاضعة لسيادة موريتانيا أو النيجر أو مالي…
فموريتانيا التي تبلغ مساحتها 1.030.700 كيلومترًا مربعًا، لا يسكنها سوى 3 ملايين نسمة وتتصاعد فيها مؤشراتُُ النفط والغاز والذهب واليورانيوم، إضافة إلى كونها، كما يصرّح الغربيون، أصبحت وجهة جديدة ومَعْبرا رئيسا لتنظيم القاعدة وعصابات تهريب المهاجرين السريين وتجار المخدرات والسلاح… تخضع سلطتها وجيشها ونُخَبها ومواطنوها لضغوط دولية وتحرُّشات أجنبية فظيعة ومتصاعدة.
في لقاء احتضنه مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية حول “ديناميكية الإرهاب في شمال إفريقيا” يوم 17 فبراير 2010، قالت نائبة كاتب الدولة الأمريكي في الدفاع، المكلفة بإفريقيا فيكي هودلستون: إن بلدان الساحل لا تستطيع لوحدها مواجهة تهديدات تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، مؤكدة أن الولايات المتحدة تعمل على دعم هذه البلدان في مجال التنمية ومحاربة الإرهاب. وأبدت هودلستون مخاوفها من التهديدات المتزايدة لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في منطقة المغرب العربي والساحل، قائلة إن السكان المهمشين في دول المنطقة يشكلون فريسة سهلة للتجنيد من قبل تنظيم القاعدة. وقالت إن هذا التنظيم يلجأ بشكل متزايد للاتجار في المخدرات لتمويل عملياته.
لقد رأى البعض في هذه التصريحات وغيرها بعض الإشارات الدالة على قرب حدوث تغيرات كبرى في نظرة المجتمع الدولي إلى هذه المنطقة التي تشكل واجهة أمنية لضفتي البحر الأبيض المتوسط:
1. أنه إذا كان تسليح المجموعات الهامشية والقبائل سهلا على المجموعات المذكورة أعلاه، فهو أسهل على القوى العظمى والدول المجاورة وشركات النفط العملاقة.
2. عجز بلدان المنطقة عن محاربة الإرهاب أمر بديهي، لكن المقصود من وراء ذكره الآن هو التلويح الأمريكي بأن فرنسا، صاحبة النفوذ تقليديا في المنطقة، لن تستطيع ضبط الأمور بوسائلها الاقتصادية والتقنية الذاتية.
3. أنه إذا ما صدقت معلومات ونُبُؤات الدراسات الجيولوجية والإستراتيجية العديدة، والتي تؤكد وجود احتياطات من الغاز والنفط والذهب واليورانيوم في المنظقة ، فإن أهمية المغرب العربي والساحل ستضاهي أهمية الشرق الأوسط، الذي لم يعد فيه حَيّز لوجود أجنبي إضافي.
الإكتشافات التي تقوم بها مختلف الشركات والتي ستؤكد – حسب الخبراء – احتياطيات هامة في السنوات المقبلة في حوض تاودني والمنطقة البحرية العميقة من الحوض الساحلي، كلها أمور ستجعل من هذا البلد بلدا آخر. وبفضل موقعها المحاذي للمحيط الأطلسي، فإن موريتانيا توجد على مقربة من الأسواق الكبرى المستهلكة للنفط. حيث تصل الناقلات موانئ أوروبا الغربية في أقل من عشرة أيام وموانئ الساحل الشرقي الأمريكي في أقل من ثلاثة أسابيع دون عراقيل جيوسياسية.
يضاف إلى هذا كله بُعدٌ آخر، في غاية الأهمية والأثر على مستقبل الصحراء وقيمتها. وهو أن الشمس أصبحت – برأي الكثير – مصدرا رئيسا للطاقة في المستقبل. وعندنا في هذا الصدد، المشروع المغربي ذو البعد الدولي، الذي يسعى إلى امتلاك التكنولوجيا الحديثة المعتمدة في مجال الطاقات البديلة الصديقة للبيئة وتوسيع استعمالها في بقية دول المغرب العربي، خاصة موريتانيا التي سيجري ربطها مع شبكة مغربية، مرتبطة بدورها بالشبكة الكهربائية الأوروبية.
فقد أعلن المغرب عن البدء في أكبر مشروع للربط الكهربائي عبر الطاقة الشمسية، وتمتد منشآته على مساحة عشرة آلاف هكتار. وسيمكن المشروع من توفير ما يوازي مليون طن من البترول سنويا وتجنب انبعاث 7 ر3 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون. وفي حدود 2020 ستكون جميع احتياجات الدار البيضاء من الطاقة الكهربائية، مستمدة من هذا المشروع.
في حالة نجاح استعمال الطاقة الشمسية على قطاع واسع – وهو أمر يسرُّ العديد من قادة وعلماء العالم لعدم إضراره بالبئة – ستكون موريتانيا وقتها من أهم بلدان العالم المصدرة للشمس.
الصراع العرقي ظاهرة كونية:
على الرغم من الأخوة والارتباط الوثيق بين طوائف المجتمع الموريتاني المسلم، إلا أن ردَّات فعل الشعوب لا تأتي أبدا بـ “شكل واع”، خصوصا المتخلِفة منها، التي غالبا ما تأتي ردة فعلها على شكل أقوال وأفعال عنصرية، خصوصا في وقت الأزمات والمناسبات الانتقالية والانفلاتات وحالَ ضعف الدولة ومؤسساتها. ثم إن مِيزَة “وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم منْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ”، لا تُنال إلا في جنة المأوى.
وفي هذا المعْنى، ستتراءى أمامنا نظريات ومعطيات سياسية معاصرة، لا يمكن تجاوُزها، لِما لها من تأثير على الأشْكال والأدوات التي أصبحت تُبنَى بها الظاهرة السياسية في عالم اليوم، بما في ذلك موريتانيا نفسها.
فعلى المستوى العالمي، دخلت السياسة الدولية مرحلة جديدة، لم يتردد معها مفكرون كبار في طرح تصوراتهم لنهاية التاريخ وعودة التنافس التقليدي بين القوميات. يقول صمويل هانتيجتون في كتابه “صراع الحضارات”: “إن المصدر الأساس للصراع في هذا العالم الجديد لن يكون إيديولوجياً أو اقتصادياً، بل إن التباينات بين الجنس البشري والمصدر المحوري للصراع سيكون ثقافيا. وستظل الدول القومية أكثر الوحدات الفاعلة في الشؤون الدولية وستكون الفوارق الفاصلة بين الحضارات بمثابة خطوط القتال في المستقبل، ليشكل الصراع بين دول وجماعات ذات حضارات مختلفة آخر مراحل تطور الصراع في العالم المعاصر”.
وبغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع هذه الطروحات السائدة اليوم، فإن الحقيقة القائمة أمامنا، تفيد بأن الاثنتين وتسعين ومائة دولة (192) والأعضاء في الأمم المتحدة والمكونة لعالم اليوم، هي “دول قومية”، أي أن كلا منها عبارة عن دولة “الجماعة الشعبية ذات السيادة”. لا يؤثر في ذلك وجود أقليات وهوامش، كما لا يتنافى ذلك مع المقاربات القانونية لمفهوم الوطنية.
ومنذ سنوات التسعين من القرن العشرين إلى اليوم، تبيَّنَ أن أغلب الصراعات تنشب على أسس عرقية وثقافية. (الصرب، الكروات، البوسنيون، الألبان، الشيشان، التيموريون، الأبخاز، العراقيون، الروانديون، جنوب السودان ودارفور…).
وفي أوربا، يُلاحَظ أن أكثر الشخصيات والأحزاب السياسية عراقة واعتدالا في اليمين واليسار، لم تجد بُدًّا من سرقة خطاب اليمين المتطرف، إرادةَ الحصول على أصوات الناخبين الأوربيين الناغمين على المهاجرين والخائفين من تغيير الوجه الحضاري لبلادهم. (فرنسا، هولندا، ألمانيا، إسبانيا، الدنمرك… وأخيرا السويد).
يضاف إلى ذلك كله، أن الدول المجاورة لموريتانيا، لها – بشكل أو بآخر – مرجعيات حضارية محسومة، بغض النظر عن نسبة الهوامش فيها والأصول العرقية لحكامها. فمرجية الدولة والشعب في السينغال “وُولْفِية” ومرجعية مالي “بمبارية”، على الرغم من وجود ثقافات وأعراق مغايرة. وإذا نظرنا إلى المغرب والجزائر، فإن للدولتين مرجعية عربية لا جدال فيها، على الرغم من كثرة الحضور والنشاط الأمازيغي فيهما.
أما في موريتانيا، حيث ساحة الفعل السياسي والإعلامي مفتوحة إلى حد الفوضى، فقد أصبحت الدعوات العصبية والطروحات العرقية أكثر فاعلية وأقدر على تحصيل قواعد شعبية وَفية ومجاَّنية من الطرح الوطني التقليدي، الذي صار ضربا من ضروب المجاملة والبروتوكول الرسمي ولا يشغل بها نفسه إلا بعض من ساسة البيضان الهواة.
أيُّ قضية تحملها نُخَب البيضان؟
بلغت المادة السياسية التي تنتجها طبقة البيضان السياسية درجة من العقم والملل والتكرار غير مسبوقة.
فعلى سبيل المثال، ظن الظّان أن مشروعا وطنيا عملاقا يتحقَّق أو في طريقه إلى التحقق، عندما أطل علينا زعيمان سياسيان كبيران يوم 14 فبراير 2010 ليقولا إن التشكيلات المكونة لمنسقية المعارضة اتفقت، بعد ما يزيد على شهرين من الشد والجذب، على شكل القيادة الجديدة لهذه المنسقية.
وقبل ذلك بيومين، وقعت خلافات حادة داخل الأغلبية بلغت حد الشجار البدني بسبب التنافس على أشياء تافهة كما ذاع. لتتوالى بعد ذلك الجلسات والمؤتمرات الصحفية والبيانات التي تخبرنا بأن منسقيات للأغلبية وأخرى للمعارضة قد تأسست أو اجتمعت.
فماذا سينسِّقون؟ وهل مِن فرق بين الساسة المحترفين والساسة الهواة، سوى انشغال الطائفة الأولى بما يلامس وجدان الناس ومصائرهم في العمق، بينما لا تمارس الطائفة الثانية السياسة إلا من أجل إضاعة الوقت بعد التقاعد وللثرثرة حول ما يتناثر من مائدة الأحداث اليومية وللبحث عن الوظائف والعناوين والرفاهية الزائدة؟ ولصالح مَنْ ستكون إضاعة الوقت؟
الطبقة السياسية الزنجية ونخَبُهم المثقفة، وكذلك بعض نشطاء الحراطين “المُتزنِّجين” وغير المتزنجين، عندهم قضايا سياسية واضحة ومحددة إلى حد كبير وتحظى بقواعد شعبية ثابتة تلتفُّ حول رموز وشخصيات أبعد ما تكون عن المجاملات والرفاهية وإضاعة الوقت، مما جعل أصوات الواعين من بني جلدتهم لا تَحيدُ عنهم إلا لِماما.
مقابل هذا كله، تفتقر الفئة الأخرى من البيضان إلى الرمزية السياسية ورجال يُعتبرون من قِبَل الوسط الاجتماعي الواسع حلا مقبولا، يحملون قضية محددة قادرة على استنهاض وتوحيد جماهير عريضة حول خطاب سياسي محدَّد، يتجاوز الجهة والقبيلة والمنفعة الشخصية…
نواكشوط مقبرة البيضان:
تؤثر المواقع الجغرافية والأجواء الطبيعية على أبدان البشر وقرائحه وتكاثره ونفسياته تأثيرا يفوق تأثير الهيروين على الأعصاب. فالبَعوض وحمَى الملاريا والرطوبة والملوحة والتعفنات، مؤثراتٌ طبيعية لا تقاومها ولا ترتقي معها المخلوقات الصحراوية الصرف، كالبيضان والإبل والغزلان… وتلك هي مميزات مدينة نواكشوط التي يدَّارك فيها الموريتانيون يوما بعد يوم.
يضاف إلى ذلك أن المجتمعات الصحراوية جامدة بطبعها وصلبة، أي أنه لا تتفاعل صحيا مع الأجسام الاجتماعية المائعة، مثل مجتمع نواكشوط الذي يغزوه كل يوم شَعبٌ قادم من مشارق الأرض ومغاربها، مما جعلهم أجانب في عاصمتهم.
ولمعرفة تأثير هذا على ذاك، يكفي أن نقارن بين ما أفرزه مجتمع البيضان، على رمال الصحراء وفي أصعب الظروف، من المؤلفات الهائلة والأعلام الإبداعات والطبائع من جهة، وبين سلوك وأهداف وهِمَّة وهواية مَن يولد من البيضان ويترعرع في مدينة نواكشوط، دون تأطير أو سَنَد مرجعي وفرجة تربوية من خارج هذه المدينة من جهة أخرى.
يقول أحد المؤرخين الموريتانيين الكبار: (..) نعَمْ.. لم يكن يُنتظر من أهالي قطر قَصِيٍّ، فرضت أوضاعه المناخية على قاطنيه حياة الظواعن والنظام العشائري البدائي، إسهامٌ ذو بال في إثراء المعارف. وجاءت المفاجأة بتغلب هذا الشعب على التحدي الذي رمَتْه به الأقدار. فأصبح المجموعة الفريدة من بين الرُّحَّلِ التي احتضنت تقاليد ثقافية مكتوبة أكسبته شخصية متميزة تضاهي النظائر التي عاصرتها في سائر أرجاء العالم الإسلامي (..).
لكنه، وخلافا للواقع، بلغ إحباط البيضان وخيبة أملهم في بلدهم وسياساتهم وتعاملهم فيما بينهم وعدم مبالاتهم بالدولة والإدارة والحضارة حَدًّا أصبحوا معه يسبُّون أنفسهم يوميا ويشتمون عرقهم وأصولهم ويحكمون على أنفسهم بالتخلف الأبدي وكأن ذلك في جينات هذه المجموعة البشرية بذاتها. وهذا هو الخلطُ بعينه.
فلماذا لا يميز الموريتانيون بين دولة أو مشروع سياسي يحمل منذ إنشاءه أو مَنْحه عوامل حقيقية للتعثر والفشل، وبين مجتمع لم يجد يوما فرصة لتحديد مصيره واختيار شكل دولته ومكانها وزمانها وتركبتها؟
إن السؤال الوارد من وراء هذا كله هو: كيف نراجع مشروعا وطنيا أثبتت الخمسون سنة الماضية أن الحلول التقليدية فاشلة حِيالَه؟
وأيهما أولى بالإنقاذ على حساب الآخر: الدولة أو المجتمع، وذلك عندما يكون كل منهما على شفا الانهيار ويتعذر إنقاذ الاثنين؟
هل مِنْ حِسٍّ استباقي عند هذا الشعب أو سلطته أو جيشه أو نخَبه؟ وهل مازال لأيٍّ من هذه الفئات المذكورة أعلاه قدرة على التحرك باستقلال والتأثير على ما يدور؟ أم أن الكل صار رهينة لأوضاع وحسابات أكبر منه ومن الدولة نفسها؟
أيُّ مشروع وأي برنامج تخطط له القوى الدولية والإقليمية في المنطقة؟ وأيُّ مركز سيحتله هذا الكيان في العملية وأيُّ قطعة من الصحراء الكبرى ستُقتطع للبيضان؟
هل عاد مشروع دولة البيضان أو دولة الصحراء الكبرى إلى الواجهة؟ وهل ستشكل “الدولة العرقية” بديلا عمليا لدويلات وطنية أثبتت فشلها في المنطقة؟ وهل ستشكل الدولة العرقية حَلا فعَّالا لما عرفته المنطقة وتعرفه من فراغات جغرافية وتوتُّرات سياسية واضطرابات ميْدانية؟
بالإضافة إلى سؤالات أخرى واردة ومشروعة حول مواقف القوى الدولية والإقليمية وكذا مواقف القوى السياسية والاجتماعية الداخلية من هذا وذاك؟