حين يتساءل نيوتن أو أينشتاين أو أديسون عن موضوعة علمية (في عصر العلم) ثم يكتشفون أو يخترعون، يتوقف السؤال وتنتهي الإجابة، وتوضع نقطة عند نهاية السطر. ولكن حين يتساءل سقراط أو أفلاطون أو أرسطو أو ابن رشد أو ابن سينا او ديكارت أو كانط أو هابرماس ويجيبون، فإن الأجوبة والأسئلة لا تكف. فالسؤال العلمي محدد والجواب العلمي جواب ناجز إلى حد بعيد، أما السؤال الفلسفي فسؤال كثيف وأزلي لطبيعة موضوعاته ومفارقتها.
سؤال يحمل من الجدة القدر نفسه من القدم. والإجابة لا يمكن إلا أن تتكرر للتأكيد أو تلغى للتأكيد أو تعدل تأكيد ما تظن الإجابة (الأجوبة) الفلسفية أنه الحقيقة. من هنا رأى الدارسون والمهتمون بالفلسفة كيف تتجدد الأسئلة، وكيف تقوم من رمادها بعد وهم الإجابات. ألا ترى كيف أن الأجوبة عن السؤال عن غاية الفلسفة وأغراضها وعن أدوات فعل التفلسف وعن العلاقة بين الفلسفة والدين وعلائقها بالعلم والقانون والسياسة والأخلاق (فلذات كبدها) وبالكون والإنسان، لم تطفئ المحاولة ولم ترو ظمأ الأسئلة؟ وكأن هيدغر يشتق قانوناً (ملازماً للفلسفة) حين يتلو: «إن أهم ما في الفلسفة أن تتحول الأجوبة إلى تساؤلات».
من هنا حق لكل مبتدئ ومريد جديد أن يتلمس البدايات، يتلمس آثار عمالقة الفكر والعرفان الفلسفي فيحبو ويتساءل لعله يشتد عوده يوماً ويكبر فيجاوب. هذه المحاولة «النص» هي تعبير عن تجدد السؤال الفلسفي وأزلية طرحه. إن هذا «القول» لكي لا يكون تقولاً لا يتجاهل مداد الفلسفة حول إشكال العقل والوجدان والاعتقاد بين الدين والوحي (وهذان يختلفان بالمفهوم الغربي عكس الإسلامي) والعلم والرومانسية لكن ديدن التفلسف أن يظل قولاً على قول. وتلك هي مفردات هذه الإطلالة – المقال – من موضوعات وأسئلة القلق الفلسفي؛ إذ في الفلسفة – قديماً وحاضراً – يمثل الإله والإنسان والعقل والإرادة والحق وحتى الجسم، موضوعات أصيلة في الفكر الفلسفي لدى الغربيين – والفلسفة هي غربية أو لا تكون كماً ونوعاً – وعلى رغم الصفاء الفكري، والصرامة والدقة المنهجية، والعمق العقلي، إلا أن المتأمل للنتاج الغربي في أكثر تلك الموضوعات الفلسفية يجده – عموماً – نتاجاً حائراً وهو ما يجعل التفلسف يتحول إلى عمل مجرد من المعنى حين يحيد عن غائيته – (الوصول إلى الحقيقة)، لكن وعلى رغم ذلك يظل له مغزى على كل حال. فالفعل الفلسفي أبعد من أن يوصم بالترفيه والرفاهية وليس قطعاً رياضة نظرية من أجل التجريد والمتعة فحسب. وهو ما يفارق على الأقل المهمة التي اختطتها الفلسفة وأعلنتها لذاتها. فالفعل الفلسفي ظل فعلاً مثابراً في بحثه عن الحقيقة. وهو ما شكل لهاثاً دائماً وكرس حيرة عميقة لا تنفك تلازم نتاج العقل الفلسفي الغربي حين يحاول أن يتوغل في التجريد والتعالي.
وعلى رغم التقدم الهائل الذي أحرزه الفكر الغربي في بيئته وفي مجالات عدة اذ يكشف في توجهاته المثالية والنقدية عبقرية نادرة حين يتعاطى مع الواقع لتثويره ومع قيم التنوير المختلفة (الحرية – والمساواة – وحقوق الإنسان – والتقدم – والبيئة… إلخ)، إلا أن علامات تساؤل كثيرة تثور حينما تفقد الرؤية الفلسفية للغرب عموماً الانسجام والتماسك بين تلك القيم والرؤية العامة للدين وللكون والإنسان، وسرعان ما تبدأ عجلة العقل والفلسفة بالتراجع، حين يفتقد الفيلسوف الغربي أرضية الوضوح النظري والعقدي الضرورية ليستطيع العقل أن يتفلسف أو يصل إلى شيء.
فالإنسان والطبيعة ومختلف القوى المركبة فيهما، لا يمكن أن تمثل حقيقة مستقلة قائمة وناجزة قادرة على أن تجيب عن حقيقة كلية ومطلقة، يبحث عنها السؤال الماورائي للفلسفة الغربية من دون كلل، وبخاصة حين تفتضح أدوات التفلسف؛ إذ إن أداة التفلسف سواء كانت «عقلاً» للتجريد والنظر أو «تجربة» للملاحظة والفحص لا تنتج إلا الأرق عند الفيلسوف الباحث عن الحقيقة المطلقة، بأدوات محدودة وقاصرة، فهذه الأداة (العقل والتجربة) توصل الفيلسوف إلى ما يشبه الحقيقة أو تدله إلى جزء منها في أحسن الأحوال، لكن التحدي يكمن في النتيجة الثانية:
حين توعز تلك الأدوات للفيلسوف – في ما يشبه الخيانة – بضرورة تجاوزها وهو ما يرجعه دوماً إلى نقطة البداية. وأسعد الفلاسفة – إن كانت السعادة لا تزال غاية من غايات الفلسفة – هو من علم أن للوصول إلى الحقيقة طرقاً وأدوات متعددة، كلها تصب وتحيل حين يستعملها جملة إلى أن مصدر معرفة الحقيقة الكلية الكاملة هو أداة متعالية ومفارقة هي «الوحي»، وهنا يدرك الفيلسوف المتجرد أن لمعراج العقل منتهى. وأتعس الفلاسفة حقاً – إن كان بقي من الفلاسفة من يرى في التعاسة والألم طريقاً – هو من حبس نفسه في دائرة مغلقة أقطابها الحيرة والنكوص إلى بداية البحث دوماً. ونتيجة هذا الفعل التعيس والتي تمثل قمة العقل بالنسبة الى المشتغل هي «النسبية» التي تجعل العمر الفلسفي ينقضي من دون إدراك حتى جزء بسيط من الحقيقة، فالحقيقة لا يمكن إلا أن تكون مطلقة وواضحة أو لا تكون.
إن منطق التمزيق والتجزيء للأداة والغاية والموضوع في الفلسفة، هو منطق معوق. فإذا كان من خصائص التفلسف الشمولية والكلية، فإن النظر – على سبيل المثال – للإنسان لا يمكن إلا أن يكون كلياً وشاملاً، ويعاند «التجزئة» أن كوجيتو ديكارت لا يمكن أن يمثل إجابة حين يمزق النظر الفلسفي لـ «الأنا» بين أنا التفكير وأنا الوجود. فالروح والعقل والجسم هي تجليات للإنسان في أبعاده المتداخلة والمختلفة والمتكاملة، وهي تعبير عن حقيقة واحدة كاملة وناجزة، روح تتطلع الى السمو الدائم، وعقل يجلو الوسائل والأدوات – كرائد يستطلع الطريق -، وجسم يتطهر دوماً، ويسابق سمو الروح ونور العقل ليعكس حقيقة التوازن والانسجام، لذلك التنوع الكامن في مخلوق رائع اسمه «الإنسان»، يرنو دوماً بعاطفته وبروحه وعقله وجسمه، في تكامل بديع، وفي وحدة نادرة من الإعجاز إلى ملكوت ربه تلبية لنداء لا يزال يسمعه كلما صفت روحه وقوي عقله وطهر جسمه، قاطعاً الفيافي والمفازات يتعثر مرة ويتطهر مرات لكنه سائر على درب فقه مقصده فيه.
من هنا حتمية المراجعة والسؤال مرة أخرى عن الغاية من الفلسفة؟ وعن مدى صدقية غرضها الأسمى؟ وعن ماهية حقيقة بحث الحقيقة عند الفلسفة؟ هل الفلسفة تبحث عن حقيقة واحدة؟ أو عن حقائق كثيرة ومتعددة؟ وعن كفاءة وسائلها؟ هل ستعترف بتعدد المنابع؟ كيف نعقد وساطة بين الفلسفة والعلم والدين؟
من الواضح أن الفلسفة أو لنقل التفلسف هو حاجة عقلية لدى الإنسان اليوم كما في الأمس، وحاجات الإنسان غير قابلة للمحو والإلغاء، بل بالاعتراف والتلبية، وهو سر انجذاب العقل الى التفلسف، فهذا العمل الفكري والعقلي المضني (التجريدي والتجريبي) هو أداة تفتح للعقل مديات من الحكمة والسر المتراكم في الإنسان والطبيعة، لكن من المستحيل أو شبه المستحيل، إذا جاز الحديث عن «فلسفة للمستحيل»، أن يبلغ فعل التفلسف مدى متجاوزاً للإنسان والطبيعة وستظل المدركات والمرئيات مبلغه من العلم ما لم ينطلق من الحقائق الناجزة في الوحي، ولكن هذا «المبلغ» سيظل مجالاً وسبحاً عميقاً وغزيراً وغنياً يوسع صدور الفلاسفة ويثلجها – إذا كان للفيلسوف عقل قنوع – وهو ما يلمح إلى قيام مهمة تاريخية بانتظار الفلسفة على ناصية مفترق الحيرة والنكوص مهمة لا تلغي الفلسفة ولا تجعلها ضرباً من العلم له فرضياته وتجاربه وقوانينه… إذ الفلسفة تتمنع عن ذلك وتأباه؛ إذ يحد من طبيعة الفعل الفلسفي وهو يرمي دوماً الى المطلق والتجريد والابتعاد، بل الإيغال والتفلت من القوننة والحد والتعريف. ولكن هذه المهمة التاريخية هي مزيج من الاعتراف والتعديل. الاعتراف بأن سحر العالم وجذوته وغموضه لا تسبر مهما غمرناه بضياء العقل وحيداً. ولكنه مجال يؤبد السؤال الفلسفي وضرورة البحث والنظر لتسبح الفلسفة في هذا السحر وتلك الجذوة وذاك الغموض. لكن هذا الاعتراف هو عتبة التواضع (ومدعاة التعديل)، اي أن يتواضع الفكر الفلسفي وألا يتعالى ولا يتشوف للمستحيل.
فالإجابة التي تغري طموح الفلسفة وكبرياءها محجوبة عن محض التفكير الإنساني المجرد المحدود ذي الوسائل المحدودة. أليست هذه دعوة لأن يلزم الفيلسوف حدوده وأن يعرف المسالك والفجاج التي يمكن أن تمثل سبحاً للعقل والتجربة ويعمل من خلالها ليراكم الحقيقة. أم أن الخوف الأزلي الذي لا ينفك يلازم الفلسفة من المحدود والمحسوس، سيجعل من الفيلسوف مستكبراً عن الحقيقة التي يدعيها هدفاً ومحبوباً أسمى. إن الدين وأسراره الروحية والإنسان وعوالمه والأخلاق وفضاءاتها… والعقل ومداءاته والكون واتساعه… هي محاور ثمينة يمكن أن تمثل موضوعاً يلبي طموح او حاجة التفلسف لدى الإنسان ذي المكانة العالية فريد عقد هذا الكون، وليس أي إنسان. الإنسان الفيلسوف صاحب العقل القوي. والجنان الحاضر. والعاطفة المرهفة والخاطر اللماح. والحس اللطيف الذي لا يفقد الدهشة والحيرة أبداً، وهو ما يجعل عقله دوماً منتبهاً؛ لأن السر العجيب والجميل الذي يحسه الفيلسوف داخل الإنسان والمحيط الطبيعي والكوني أثمن من أن يغفل عنه، فالبحث والتأمل في المحسوسات والمعنويات وأسرارها هو ضرب من المتعة ومن تحمل المسؤولية، لا ينفك يعطى للإنسان الفيلسوف من المعقولات ذات الدلالة والمغزى ما يجعله يرى من الآيات في النفس (اعرف نفسك) والآفاق حتى يتبين له الحق. فآيات النظر دالة على النفس والآفاق، وعلى قيومها (سيد الإنسان وخالقه). إن للفلسفة اليوم في الدين والإنسان والأخلاق سبحاً طويلاً. ولكن على الفلسفة أن تدرك قصورها عن الإحاطة، فالإنسان المكرم – والتي هي وسيلة بيده – والكون المسخر – الذي هو موضوع لها – كل أولئك يشهدون بالمحدودية والقصور والحاجة.
إن الفلسفة ليست فوق الإنسان ومن العبث أن تحاول أن تكون فوقه؛ لأنها نتاج عقله وهو ما يدفعنا لإعادة طرح ذلك السؤال الفلسفي الموفق الشديد التعقيد: كيف يشكل الإنسان موضوعاً لذاته؟
غاية التفلسف اليوم أن يستضيء بالوحي. وأن يتأمل الآيات والصفات. وأن يلمح الفرق بين المعرفة والإدراك. وأن يعمق العلم ويؤنسنه ويهذبه… وأن يخدم الإنسان… لا أن تعمق التشويشات الوجودية والمادية مأزق الإنسان بعد أن افترضته له… إن الفعل والزمن الفلسفي مدعوان لتغيير المسار والخروج من الدائرة المغلقة (السؤال – الحيرة – السؤال)، فطعم الحقيقة المطلقة أسعد وألذ من طعم الحيرة المعذبة مهما خلع على الحيرة من التمجيد. وحين تعرف الفلسفة وتعترف بطريق الحقيقة، فإن العقل سيعرف الطمأنينة والراحة النشطة، وسيعرّج في مداءات ليست غريبة عنه، ألا ترى معي أن الكون والإنسان موضوعات فلسفية في القرآن لا تخلق من كثرة الرد، إنها دعوة للخروج بالعقل من محنته في الغرب، حين يكون العقل انتقائياً حين يكون عقلاً للاحتلال، والبحث الدؤوب عن عقلنة التوسع من أجل السيطرة والأسواق، بل حين يتحور العقل إلى ملكة وأداة باعثة على التدمير والتخريب وهو ما أصبحت تتنبه اليه قوى عدة وتتصدى له من داخل الفلسفة برؤية نقدية تدرك مخاطر التمجيد المفرط، بل وتأليه العقل، وجعله على حساب الإنسان الذي هو ليس عقلاً فحسب. فمتى ستدرك الفلسفة الغربية في نسخها الحديثة قيمة التوازن وتعدد زوايا قراءة الحقيقة.
* كاتب موريتاني مقيم في السعودية