– ليس بالأعوام والسنين وحدها تحسب أعمار الدول، فأعمار الدول يقيسها “الإنجاز” و”الإبداع” و”الرجال” نعم؛ أما عامل الوقت فلا قيمة ذاتية له إلا بقدر ما يعمر به من الأعمال الجليلة.
“وما عامر الأعمار مثل السبهلل”
بهذا المنطق يكون حساب الخمسين يسيرا أم عسيرا؟، لكن في ذكرى الميلاد. ميلاد الدولة الموريتانية لا يتمالك الإنسان أن يكتب – إن استطاع- بروح شاعر حالم ثائر لكنه مملوء بالأمل وتلك سيرة الشعراء. متنكبا قسوة الملاحظ وصرامة المؤرخ، فلحظة الانعتاق أكبر من كل عتاب.،لهذا ورغم النجاحات المعدودة والاحباطات الكبيرة في سيرة الخمسين . قد نغلب في هذه المساهمة جانب التمني والرجاء على جوانب أخرى في الذاكرة والوعي، وان جاءت لحظة أو لحظات قسونا فيها – فالمعذرة-
(إن أكن قد كويت لحم بلادي فمن الكي قد يجيء الشفاء).
ذلك أن ذكرى الاستقلال هذا العام ليست سوى لحظة تاريخية تجعلنا نقف متسائلين ومقيمين لتجربتنا التاريخية منذ تكون دولتنا الفتية إلى اليوم، فهذه الذكرى تطرح اليوم تحديات وتساؤلات حقيقية تتعلق بالحفاظ على الاستقلال وتحقيق معاني الوحدة الوطنية وحتمية إقامة بنيان الدولة على أسس حديثة ومزدهرة.
أ) فعلى المستوى الداخلي: تمر ذكرى خمسينية الاستقلال – ورغم تشكل نوع من الأمل أخيرا – وشعور عام يسود في أوساط غير قليلة من النخبة-ليس السياسية فحسب – بأن الدولة الوطنية لا تزال تعيش وضعا – تراكميا – قلقا ميزه تفاقم الأزمات البنيوية وغياب مشاريع الإصلاح وتعثرها. والفشل في عبور جسر المستقبل للخروج من وهدة التخلف الدائم. هذا على المستوى الكلي، أما على المستوى الجزئي للأزمة فإن مظاهر عديدة مثلت انعكاسا لذلك التخلف طالت مجالات وقطاعات حيوية، وهي مظاهر تمتد من المرض إلى الفقر، فقر الدخل، وفقر الفرص، والجوع، وأزمة السكن المناسب للسواد الأعظم من السكان. ونقصان الفرص وعدم التكافئ في الموجود منها. وتردي الخدمات والبنى التحتية في عموم التراب الوطني، وتدهور مستويات التربية والتعليم، وانتشار الأمية، وتكريس ضعف الوعي وهو ما يعبر عن فشل ذريع لمؤسسات التنشئة في المجتمع والدولة.بل إن مظاهر الإخفاق تجاوزت إلى الحياة السياسية على مستوى فاعليها وفكريتهم وأدواتهم وأهدافهم. وكذلك نشوء مظاهر تحول خطيرة مثلها بروز خطابات تفتيتية واقصائية داخل جسم المجتمع والدولة .
ب) أما على مستوى السياق التاريخي فالذكرى الخمسينية للاستقلال تأتي في سياق تاريخي تطبعه الصعوبة فليس من نافل القول التذكير بحقائق هذه اللحظة التاريخية حيث أصبحت المحافظة على استقلال الدول تطرح اليوم من التحديات الجادة ما لا عهد للتاريخ به، فنحن في سياق تاريخي عصيب ومتحول. تمثل فيه المساحات الكبيرة والثروات والتنوع- للمفارقة- عوامل جذب للخراب بدل أن تكون عناصر للقوة والمنعة، وبالتالي فالدولة التي لا تهتدي إلى حفظ أمنها وحماية حدودها، وتتمكن من استغلال ثرواتها، وتحقق وترسي سلمها الاجتماعي، وبأعلى كفاءة ممكنة، تكون في مهب الريح، أي ريح؟ ريح زمان عولمي صعب تغيرت فيه مفاهيم عديدة وخصوصا ما لحق بمفهوم وأسلوب الاستعمار التقليدي من تغيير هائل من المباشرة إلى أساليب أكثر حنكة وذكاء.
– ورغم صعوبة التحديات و خطورة التحولات فليس من المبالغة أننا وبالرغم من لحظة الميلاد العظيمة، والتضحيات الجليلة لأبطالنا وشهدائنا الأبرار، ونضال رجالات كبار – أننا- وجدنا أنفسنا وفي غفلة من التاريخ في مكان خارج كل الأمكنة وزمان خارج كل الأزمنة إنه خروج عن العصر بأتم معنى الكلمة وبكل صراحة. وبعض أسباب هذا التخلف عن الركب الإنساني واضحة- نسبيا-عبرت عنها سياسات وممارسات الكل يعرفها عملت على هدم الدولة والمجتمع. – من حيت تدري أو لا تدري – والأخطر هدم الإنسان حين هدمت روحه وقيمه وملاذاته. فخلال عقود قليلة شهدت بلادنا هزيمة ساحقة للقيم فسادت مسلكيات الفساد، وارتكبت المنكرات داخليا وخارجيا، وتلطخت سمعة البلاد. وذبلت مقومات الهوية والانتماء.
– واليوم ونحن نصر على مواجهة ساعة الاستقلال لا بد أن نجعل منها جميعا فرصة ومعراجا وسبيلا نحو التغيير. لا بد أن تكون ساعة الاستقلال حافزا للتعرف على مكمن أزمتنا؟ هل في الأشخاص؟ أم الأفكار؟ أم الأنظمة؟ أم في القيم والعلاقات؟ أم تتعلق بالموارد والإمكانات؟ وما هو نوع الحكومة- بالمعنى العام والمعرفي- التي يمكنها التعبير عن رغباتنا ومطالبنا في التغيير؟ وما هي الملفات والقضايا الحيوية التي يجب العمل عليها لنعبر إلى المستقبل؟ وفي سبيل ذلك كله كيف نتحرر من الأنانيات السلبية، الشخصية والقبلية والجهوية والاثنية والاديولوجية – إن أمكن – ؟ أو على الأقل كيف نجعلها لا تتناقض كميولات ضيقة مع الانتماء الكبير للوطن؟ كيف نتحرر من اللحظية ومن قصر النفس وضعف التصدي لأزماتنا؟ إننا نرجو أن نعمل جميعا – لا أن نتمنى فقط – أن لا يخفت بصيص الأمل، وأن يقف الجميع الجميع الجميع وقفة شجاعة من الذات أولا ومن الدولة والمجتمع ثانيا لنتحسس مشاكلنا ونبحث لها عن حلول حقيقية وجوهرية و لا نيأس من روح الله. إن مصلحة الجميع – بدون استثناء – هي في موريتانيا قوية عادلة مزدهرة. وهو أمر ممكن جدا ولكن خطوته الأولى في هذه اللحظة هي أن نقول الحق على أنفسنا، نواجه أنفسنا، نواجه خوفنا، نواجه قلقنا، نواجه خورنا و لا مبالاتنا. وأن لا نتلهى بالقضايا الآنية والجزئية والصغيرة – أو على الأقل لا تكون بديلا عن العمل على ما هو كلي ومصيري – فإن الله يكره لنا سفساف الأمور ويحب لنا معاليها، فالتركيز على الصغائر والثانويات مأذن بزوال الدول والمجتمعات، وموريتانيا – عكس ما هو شائع- تملك أغلب أسباب البقاء بل والتطور والازدهار. طبعا بشروط وضوابط فالثروة المودعة كثيفة، فضلا عن الغنى البشري والثقافي. فإذا أجتمعت الإمكانات مع الإرادة ومع الرؤية فسبل المستقبل والتغيير ستكون سالكة، من هنا أهمية أن يعمل ويفكر الجميع وخصوصا الحاكمين والنخب الوطنية كيف يجعلون من بلدهم واحة للسلم والتعايش بين كل مكوناته ومن ثم واحة للتنمية؟ وكيف يطورون مكانة بلدهم انطلاقا من فهم الموقع والرمزية التاريخية والثقافية والإنسانية لهذه الجغرافيا؟ فعناصر الدين الواحد والثقافات واللهجات المتنوعة والمتداخلة والثروة الكافية والمساحة ذات الجغرافيا والواجهات الجميلة والممتدة. كلها عناصر وعوامل تجعل من موريتانيا بلدا فريدا وجوهرا نفيسا ومصبا وملتقا – لا مجرد همزة وصل – بين ثقافات وعوالم ثلاثة إفريقية وعربية وأوروبية.فهذا العناق والالتقاء السعيد بين الجغرافيا والتاريخ والثقافة يتيح لنا بناء رؤية تجعل من موريتانيا مركزا حيويا للتبادل بكل أنواعه المعنوية والمادية، وللمشاريع العملاقة في مجالات إقليمية وربما عالميا.
وأخيرا أكرر أن هناك محاولات جادة في المجتمعين الرسمي والموازي لكنها لم ترقى بعد إلى مستوى الطموح ومستوى الخروج العاجل والآمن من الأزمات المركبة التي تحاول العبث بل العصف بكيان الدولة والمجتمع لذا لابد – في نظري المتواضع – من :
أ- اهتبال الفرصة لصوغ مشروع وطني على أساس تعاوني وتشاوري يتأسس على رؤية كلية واضحة أهدافها ترسيخ 1) ثقافة الحوار كقيمة أساسية وشاملة لا تنحصر في الجانب السياسي دون الجوانب الأخرى. أي كيف نؤسس للحوار كقيمة مجتمعية من خلال مؤسسات التنشئة فتسري تيارات التلاقي في المجتمع بدل التلاغي. وبالتالي القضاء على ثقافة التدابر والتناكر 2) بناء الديمقراطية عن طريق إيجاد بناها ونشر ثقافتها 3) بناء العدالة الاجتماعية وتحقيق العدالة الاقتصادية. وهذا المشروع له مقدماته التي لا غنى عنها المتمثلة في قيادة حراك وطني تاريخي يروم التصالح والتعاقد وتنظيم المصالح ويؤسس للتوافق بدل التنازع بين فئات واثنيات المجتمع وهو أمر بلغ حد الضرورة في ظل الانتكاسة بأدواء العولمة في جوانبها السلبية وسريان عدوى التفتت في الدول النامية، وانفجار المكبوت السياسي، وظهور لغة تداول سياسة واجتماعية طارئة وجديدة على واقعنا السياسي. تحمل الكثير من العنف.
– ب) العمل على إشاعة فلسفة التآخي والصبر على بعضنا.
– ج) إعادة تأكيد وتعريف الخطوط العريضة التي تمثل سقفا لا يمكن تجاوزه: كالدين/ والوحدة الوطنية/والمساواة/ والأمن/وسيادة القانون… إلخ.
– د) الإنصات للفئات المهمشة في المجتمع وعلى رأسها الشباب والمحرومين…إلخ.
– فتح مسارات التقدم أمام الكفاءات والخبرات الوطنية والعمل على تلقيح النخب الرسمية وفتح المجال سياسيا وقانونيا أمام التداول والتشاركية.
– وفي الأخير نهيب بنخبتنا الوطنية أن تعمل جاهدة على تقييم موضوعي لهذه الخمسينية وأن تستخلص العبر والعظات ، وأن تنتج خطابا بناء يحدد مظاهر الخلل والتراجع ولكنه في نفس الوقت خطابا متجاوزا ، وأن تشارك كطرف فاعل ومسئول من خلال هذا الخطاب في إنتاج الحلول وتحديد الوسائل الكفيلة بالتغيير والتطوير.