فهل يا ترى سيكون تقييم محاربة الفساد بعد حين آت بنتائج كتلك التي أورثتها الحملات الغابرة ؟ فأين الفَلاّحة المعدمة التي “عُرِضت” كمصدرة لمنتجها التافه إلى أصقاع العالم عبر الانترنت و أين الولوج يومها للانترنت نفسه في بقاع يأبى الجراد حتى اليوم اقترابها؟ وأين القارئ الكاتب الطري بل أين كتابه ؟ هكذا دخلنا عالم العولمة بمهزلة.
تآكلت المهازل، ولى زمانها وطويت صفحات “كتابها” هكذا حسبت على الأقل حتى الفترة الأخيرة لما جاءني صديق غالي علي بنبإ مشاركته في برنامج تلفزيوني حول محاربة الفساد.
استدرجت الفترة الأخيرة تفكيري عندما شدد الرئيس على الفساد و المفسدين و تذكرت لما رَجَعت حليمة إلى عادتها القديمة فَعُقِدت الاجتماعات وأُقيمت الندوات و تَتَابعت الورشات و صيغت المسودات واعدت الاستراتيجيات وتوالت التعليقات و بنات الفكر العقيم التي لم تأت حتى الساعة بجديد وأبقت الإشكالية طافية على السطح وحلها ينحو نحو مصير بطاطس الفلاحة المسكينة.
رجعت إلى التلفزيون لمشاهدة الإعادة، لا لشيء إلا لمداعبة زميلي بعدها حول بدلته أو أداءه.
فوجئت في البداية بالضيوف الأربعة فكان الفقيه و خبير القانون و المفتش و الناشط في المجتمع المدني ! مهما كانت فطنة الرجال و جودة المداخلات فأين الجدية في البحث في الفساد دون مشاركة مؤتمني الختم و التوقيع، مسؤولي و أولي أمر تنفيذ و تسيير الميزانيات فلا مديرا مركزيا و لا مدير مؤسسة عمومية و لا منسق مشروع أو برنامج ولا أمينا عاما لأي هيكل إداري.
ثم اندهشت عندما تدخل الناشط، و الذي اعتبره من أكثر رجالاتنا حكمة، للرد على سؤال حول الدور الجوهري لضعف مستوى الرواتب في تفشي ظاهرة الرشوة. فأجاب بكل بساطة واقتضاب ان العلاقة بين هذا الضعف و تلك الظاهرة معدومة فكل الأطر السامين و المرتشون منهم خاصة يحظون برواتب عالية. ووافق الحضور.
فكل الموظفين إذن إلا النزر القليل مرتشون تلك حال كبارهم فما بالك بصغارهم.
من أين لنا هذا الجزم و ما معنى “رواتب عالية ” لأي مقارنٌ أو منسوبٌ هذا “العلو” أ للمستوى المعيشي أم لحزمة من العملات الأجنبية أم حتى لقرنائهم في القطاع الخاص أو في الدول المجاورة وهل هناك دراسات عينية او إحصائيات موثوق بها تؤكد هذا ؟ ثم من أين لنا الجزم أيضا و بدون بيانات علمية بعزوفهم عن الاستقامة.
فالموريتاني إذن رغم إمكانياته الهائلة الافتراضية مصاب أصلا بالكلبتومانيا!
ثمانون ألفا أو أكثر أو اقل بقليل كراتب رسمي و حلال وحيد (كشف الرواتب) لأغلب مسيري الميزانيات لا يمكن بأي حال أن ينعت بالعالي وحتى بدخل متوسط وسنعود للموضوع بلغة الأرقام التي استسغتها بعد أن سامت كالكثيرين طيلة عقود، في هذا الموضوع، تراقص الأنامل بجاف الأقلام و الأزيز بعقيم الكلام .
لكن الأمَر ََّ أن اللبيب فينا و النافذ إلى مراكز السلطة العليا فاته او تناسى ان يوصل، حتى في الفترة الأخيرة المؤاتية لأفكار تصبوا إلى الدفع بعجلة النمو، التشخيص الموضوعي لفساد مستشري لم يكن بهذه الكثافة و الرسوخ. من ضمنه الطرح التالي الذي زكاه أساتذة جامعيون :
منذ عقدين أبدعت عقولنا أروع ما يكون لتسخير الكل من اجل الحزب يومها فكان بيت العنكبوت المخملي الذي شد إليه، و بدون شعور، اغلب المواطنين وكل الفاعلين على الإطلاق وكان بذرة الفساد المكيافيلية التي تغلغلت عروقها في كل منا واشجرت ثم اثمرت و استحال استئصالها رغم كل الجهود.
و لأن اللبيب تكفيه الإشارة لجأنا إلى نموذج مبسّط و إلى مُعَدلات أرقام و اقتصرنا على الفاعلين من أطر الدولة واصحاب الأعمال. فكيف تم لجم هؤلاء حتى اليوم ؟
تخيل : 1) ان الراتب الرسمي للمسؤول السامي يتراوح بين أربعين ألفا و مائة ألف شهريا، 2) ان نفس المسؤول ينفذ سنويا ميزانية تسيير تقارب مائة ضعف المبلغ (من أربعة إلى عشرة ملايين) موجهة طبق القانون (قانون المالية) إلى اقتناء لوازم و غيرها إلا صرفا لرواتب. 3) انه يسير سنويا ميزانية استثمار تقارب خمس مائة ضعف المبلغ (من عشرين الى خمسين مليونا) موجهة طبق القانون إلى تنفيذ مشاريع بنى تحتية و تجهيزات و غيرها إلا صرفا لرواتب كذالك. باختصار يتحكم إطارنا هذا اطلاقا في ما يربو على أربعين مليونا زيادة على الراتب الزهيد.
بالمقابل يلزم بل يشجع صاحبنا على ان يُفبرك أو يُثَبت مكانة اجتماعية و سياسية في محيطه الخاص و على المستوى الوطني وان يقوم بواجبه الأول جرف عارم مُكلِف لناخبين لم يكن اغلبهم ليستجيب إلا بالإغراء المادي.
تلك الخطة المُحْكَمة: دخل زهيد ثم فساد ثم جاه و مكانة ثم فساد واعتراف بالجميل ثم فساد و لمن تَمرد ـ ولا أذكر حتى من تذمر ـ مربع أول و دخل زهيد و مَحْكَمة.
وهكذا درنا في دوامة مفرغة.
ومن الطريف و المُحزن ايضا أن العلم يُثبت انه لو اكتفى موظفو التسعينات، مثلا، برواتبهم المشروعة لقضوا و ما وصلوا إلينا. فالرجل ـ وأغلبهم رجال ـ تلزمه حولي 2.500 سعرة حرارية للبقاء حيا. فمن أين له هذا الكم ولعائلته بمستوى راتبه الهزيل ؟ دون الكلام عن مستلزمات الحياة الرغدة الأخرى.
أما صاحب الأعمال فالأمر أبسط و أمر : حسب مؤشر البنك الدولي دويينغ بيزنس لتقييم محيط الأعمال لسنة ،2007 مثلا، يجب على المؤسسة التجارية ـ بمفهومها الواسع ـ في بلدنا دفع 107.5 بالمائة من أرباحها، طبقا لمدونة الضرائب، كرسوم و ضرائب أي دفع أرباحها كاملة مع جزء من استثمارها و أصل رأسمالها ! المستحيل.
إذن لا جباية و رضوخ ثم جرف للناخبين … ويكتمل جزء الدوامة الثاني و تُحكم الكماشة على كامل المجتمع.
وَعِي الناخبُ لكن ما كان لم يزل.
والفساد سيبقى مهما كانت صرامة النصوص و هيئات المراقبة و التفتيش و العقاب، بطبيعة الإنسان وغريزته للبقاء في محيط غير مؤاتي كالنظام الموروث هكذا بشقيه ألمعاشي و الجبائي.
فلو تراجع الفساد المالي، لبقيت رؤوس التنين الأخرى و التي يستعصي رصدها و ردعها:
فساد التباطؤ و رفض تأدية الواجب و خدمة المواطن.
فساد تسخير وقت الدوام لأشغال خارجية مكملة للدخل.
فساد تسخير الوقت و الجهد لانتشال أكبر جزء من الميزانية.
فساد تسخير الوقت و الجهد و الإمكانيات العامة لممارسة «السياسة”.. الخ
أوجه عدة، لو كانت مادة دراسات أكاديمية موثوقة، لأثبتت بدون شك أنها تعوق معدل النمو بعدة نقاط سنويا و تؤثر مباشرة على إنتاج وثراء البلد و تسلب المواطن عيشه الرغيد و بدل أن يكون الموظفون قاطرة الإزدهار كانوا وما زالوا، رغمهم، رعاة الجهل و التخلف.
أذكر هنا عرضا أن المؤشر الرائد والذي يتهافت الأطر السامون ونظراءهم من الشركاء لتحقيقه هو اعلى نسبة للاستهلاك (المالي!) مهما قل عدد الأهداف المنجزة من تلك المحددة مسبقا للمشروع أو البرنامج ومهما تلاشى أو انعدم مفعوله المباشر على المواطن.
اي كما يحلو للبعض ـ و أشاطرهم الرأي ـ أن يؤكد أن المسالة بالأساس فرويدية وهوس المال دون غيره مربوط أصلا بكل ما هو لامع بالانجاز و بالفعالية وكذا بالأداء.
أخيرا، ما أعظمُ خطبا من عدم احترام مؤسسات الدولة الكبرى للقوانين و السنن؟ ولأن الرئيس جعل من محاربة الظاهرة أولويةً، انتشل قطاعٌ الحملة الحالية من قطاعٍ آخر مكلفٍ وحده في مرسوم إنشاءه بمحاربة الفساد و تعزيز الحكم الرشيد.
فكيف يحارب الفساد بوجه من وجوه الفساد ؟ و دون البحث الجاد في مسألتين جوهريتين : تدني الرواتب بل انعدامها نسبيا مقارنة بحجم المسؤولية و مستوى الحياة الحقيقي ثم الإبقاء على محيط جبائي وائد في المهد لكل مبادرة حرة.
استمعت إلى زميلي و الجماعة و كانوا رائعين.
لكنهم خاضوا مواضيع و طروحا، منذ زمان، سمعناها ثم سمعناها فوعيناها : أخذ المال العام فتوة عند مجتمعنا، النصوص المجرمة موجودة، ديننا الحنيف يحرم الرشوة، طاعة ولي الأمر واجبة، المسألة مسألة لاعقاب …
إطمأنيت على هندام و أداء زميلي.
لكني بقيت في الطرح كما أنا مع سعراتي الزهيدة ظمآنا وتخيلت أبا ذرٍ في عصرنا هذا ثم تساءلت كيف سيُكمِل معي “عجبت لمن لا يجد قوت يومه ولا …”