أزويرات ـ محمد ولد بدين
كالسلاسل المنجمية السوداء الضخمة يستريح قطار الشركة الوطنية للصناعة والمناجم “سنيم”؛ في موريتانيا، أحد أطول قطارات العالم خلف “القلب” أقصى شرق مدينة أزويرات حاملا غيضا من فيض أحلام الموريتانيين الذين ألفوه كما ألفهم.
للقطار حكايات وحكايات مع آلاف الأحلام التي علقت عليه مذ كان يخدم “ميفرما” ستينيات القرن الماضي، إلا أن تلك الأحلام لم تكن إلا جزء من حلم الثروة الكبير التي كان ناقلها الوحيد حتى بعد أن حمل الجنسية الموريتانية بتأميم “ميفرما” لتصبح “سنيم” دولة الدولة الموريتانية كما يطيب لشغيلتها تسميتها.
للقطار مع كل فرد من عماله ذكرى.. يرونها همسا خاصا بين القطار وندمائه، في حقيقة الأمر هي أكثر من عشر قطارات تتعاقب على سكة واحدة تخرج بقوة بين وهاد تيرس الوعرة، تقاسي وحدتها، تشرب من سفوح هضبة آدرار هدوء ما قبل صفير “الكارب”.
بالنسبة للمواطن البسيط في أزويرات فان القطار هو حياة تمشي على سكة من حديد، ينقل منه “الكارب” ما لا يغنيه عن استيراده، ففي 168 قاطرة يجرها تحمل كل واحدة منها ما يقارب 80 طنا من الحديد بنوعيه، الصلب واللين ، تجد شركة “سنيم” نفسها مضطرة لاستيراد بعض من قطع غيار القطار.
“الثروة” تأكل أبناءها..
“حرمه” ذو البشرة السمراء وهو في شتائه الثاني والأربعين يحفظ جيدا جدولة توقفات “الكارب” ـ الإسم اللهجي للقطار ـ بقدر ما يتقن فن الابتسامة ترحيبا بضيف قادم.
حرمه ولد اصنيبه، طالب الكيمياء بمدينة اللاذقية السورية نهاية ثمانينيات القرن الماضي يعد العدة ليبدأ ورديته منتصف الليلة، الأمر مألوف بالنسبة له، بل أصبح جزء من روتين بات عصيا على التغيير.
ينظر الرجل بكثير من الشرود إلى مرتفع “كدية الجل”.. ففي حضن إحدى أكبر ثروات العالم بالمعادن يجمع حرمه شظايا الانفجار الصخري الذي تتجاوز اهتزازاته الدرجة 3 على مقياس ريختر، ليشحن بها قاطرات “الكارب” الذي سيقطع على متنه تذكرة مغادرة مع عامة الناس بحوالي 2500 أوقية، أي ما يقارب 9 دولارات.
هو القطار ذاته الذي كان يشحنه حرمه أثناء ورديته في الساعات الأولى من الصباح، بعد انتهاء الوردية، “القطار أروستقراطي بطبعه، سنيم ذاتها أرستوقراطية هي الأخرى”.. بهذه الكلمات بدأ ولد أصنيبه في ضجر يحكي قصة 14 عاما من الأسى قضاها عاملا من الطبقة الوسطى يحمل لأسرته في “اديار البيظ” إلى جانب مؤونة اليوم غبارا من بقايا الثروة؛ غبار لا يعني في قاموس مدن المعادن سوى “أمراض كانت سنيم حتى فترة قريبة، تتهرب من الاعتراف بوجودها أصلا حتى العام 2006 “، حسب تعبير حرمه، إنه غبار يحكي قصة تسع ساعات من العمل بكل تفاصيله.
ليس من الممتع أبدا أن تجلس تحت مئات الأطنان من الصخور المعدنية وأنت تعلم علم اليقين أنها قد تنهار في ثانية عليك؛ هنا يصبح للموت معنى آخر هو بالنسبة لحرمه مجرد حادث، “نعم، حادث يساوي موت..!! لا خيار آخر”.
لا ينكر حرمه أن رواتب “سنيم” جيدة في عمومها إلا أن طبقيتها الصارخة، وفحش التفاضل بين طبقات عمالها كما التفاضل بين الطبقات والأعراق جعل منه المتمرد الأشهر في صفوف عمالها.. نقابي التصرف.. قانوني المرجع.. يعود إليه أغلب زملائه في استشاراتهم، فهو على إطلاع كبير بحيثيات قوانين الشغل فضلا عن انتخابه في فترة من الفترات مندوبا للعمال .. “يخافون الطرد لا شيء يدعو لكل هذا الخوف”؛ يتحدث حرمه مستهزءا.
يجلس حرمه ولد اصنيبه غير بعيد من جرافته الضخمة.. يستذكر مع زملائه أياما خلت، يسأل نفسه بإلحاح وبصوت عال: هل سأنهي حياتي هكذا ؟.. يلح حرمه في السؤال .. ويبدو أنه لا يجد الجواب.