حددت اللجنة التحضيرية للتشاور الوطني، الفترة من 27 مايو إلى الثالث من يونيو المقبل، حيزا زمنيا لانطلاق تشاور يحملُ معه الكثير من التناقضات المربكة، من أبرزها أن المعارضة التي فرضته على السلطة، تقف اليوم حجر عثرة أمام انطلاقه في الوقت المحدد، والسلطة التي لم تكن متحمسة له تبدو اليوم أكثر تمسكًا به.
إن فهم هذه التناقضات يتطلبُ تفكيك مواقف الأطراف المختلفة، وإلقاء نظرة من الأعلى للمشروع الذي تسميه السلطة “التشاور”، بينما درجت المعارضة على تسميته “الحوار”، وبين الاسمين يبقى مشروعًا متعثرًا منذ الوهلة الأولى.
بدأ الحديث عن المشروع مع وصول الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني إلى الحكم، كان ولد الغزواني في البداية غير متحمس للفكرة، مكتفيا بلقاءات يجريها مع من يرغب في مكتبه بالقصر الرئاسي، ولكن المعارضة ظلت متمسكة بالفكرة حتى رضخت لها السلطة، في إطار ما تواضع الطرفان على تسميته “التهدئة السياسية”.
ظلت السلطة تصر على أنه تشاور بين “السياسيين”، وهم من يتحملون مسؤولية فشله أو نجاحه، وأن الرئيس يلتزم فقط بتنفيذ ما يحصل عليه التوافق، دون أن يتدخل في التحضير أو التنظيم.
من هنا يبدو أن المشروع حمل منذ البداية بذور التعثر، خاصة وأن الموالاة أو الأغلبية الرئاسية، تدخله من دون أن تحملَ معها أي مقترحات أو أهداف واضحة تسعى لتحقيقها، على الأقل “غير معلنة” حتى الآن، ربما الدافع الوحيد هو الحفاظ على مكسب “التهدئة” الذي يعد حجر الزاوية في تعهدات الرئيس.
أمّا المعارضة فتدخل التشاور من أبوابٍ عدة، لكل معسكر بابه، ولكل قوم خندقهم، حتى أن التحضير للتشاور الذي استمر لأكثر من عام، كان في حقيقته عبارة عن “تشاور داخلي” بين معسكرات المعارضة، ظلت الرسل تتنقل فيه بين الخنادق التي حفر كل فصيل لنفسه، على أطراف خريطة سياسية مرتبكة.
الخندقُ الأول كان لقطب سياسي ضم أحزاب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية (تواصل) واتحاد قوى التقدم وتكتل القوى الديمقراطية والتناوب الديمقراطي (إيناد)، إنه خندق “المعارضة التقليدية”، التي كاد يعصف بها الخلاف مع بداية التحضير للتشاور، بسبب رواسب الماضي التي تربك العلاقة ما بين تواصل (يمين – إسلامي)، واتحاد قوى التقدم (يسار – تقدمي).
نجح هذا القطب بحكم خبرته السياسية، في تجاوز خلافاته الفكرية والسياسية، وأصبح الشريك القوي خلال التحضير للتشاور، خاصة وأن رئاسة لجنة التحضير للتشاور أسندت إلى رفيقهم السابق يحيى ولد أحمد الوقف، الوزير الأمين العام لرئاسة الجمهورية حاليًا.
خندقُ المعارضة الثاني ضمَّ إلى جانب حزب الصواب (قومي – بعثي)، النائب البرلماني بيرام الداه اعبيد (حركة إيرا الانعتاقية)، ومحمد فال ولد هنضية (منشق من ميثاق الحراطين)، أطلق على نفسه اسم “قطب التناوب”، وحاول أن يستثمر مكانة بيرام بصفته المرشح للانتخابات الرئاسية الذي حل في المرتبة الثانية، والعلاقة الجيدة التي تربطه بالقصر الرئاسي.
التطورات الأخيرة أظهرت أن “قطب التناوب” تنقصه الخبرة السياسية، خاصة حين أعلن الوزير السابق عمر ولد يالي انسحاب القطب من التشاور، لينفي رئيس حزب الصواب عبد السلام ولد حرمه ذلك، ويطلب تعليق جلسات التحضير للتشاور، حتى يتخذ القطب موقفًا موحدا، وبعد مرور قرابة أسبوع، لم ينجح القطب في التوصل إلى هذا الموقف.
لا يبدو موقف “قطب التناوب” مفهومًا، بعد أن كان يبدي تحمسا كبيرا للتشاور، ويعد بمقترحات في ملفات مهمة (حقوق الإنسان، المنظومة الانتخابية)، التبرير الذي يقدمه قادة القطب لموقفهم الجديد، هو نزعُ لافتة حزب الرك غير المرخص من نشاط حضره النائب البرلماني “بيرام”، بمدينة أطار، فيما يوصف بأنها حملة انتخابية سابقة لأوانها يخوضها الرجلُ منذ عدة أسابيع.
ولكن اللافت هو أن “بيرام” نفسه لم يعترض على نزع اللافتة، بل إنه دافع عن موقف السلطة فيما بعد، فماذا أغضبه بعد ذلك؟ ربما للأمر علاقة بالخريطة السياسية التي سربت من وزارة الداخلية، والتي تضعُ الرجل بعيدا عن المكانة التي يعطي لنفسه في الخريطة السياسية الوطنية، لعله كان يتوقع من السلطة التي يتعاطى معها بنوع من “التهدئة” أن تمنحه موقع القوة السياسية الثانية في البلد.
المهم أن الرجل يساوم السلطة على منحه ضمانات بترخيص حزب “الرك” قبل الانتخابات التشريعية المقبلة، مقابل أن يشارك “قطب التناوب” في التشاور، وتجري اتصالات رفيعة المستوى لإنهاء “صفقة سياسية” جديدة بين الطرفين.
أما الخندق الثالث فيجلس فيه السياسي المخضرم مسعود ولد بلخير، رئيس حزب التحالف الشعبي التقدمي (قومي – ناصري – انعتاقي)، يمثل “مسعود” لوحده تاريخا سياسيًا وعلامة من الصعب تجاوزها، ولكنه بالنظر إلى معطيات الواقع أصبح أقرب للماضي منه للحاضر، أحرى المستقبل، ومع ذلك فرض كلمته على الجميع حين غاب بشكل مفاجئ عن جلسة افتتاح التحضير للتشاور، كان غيابًا مربكًا وغير مفهوم للأطراف الأخرى.
حتى وقت قريب كانت اللجنة المشرفة على تنظيم الحوار، تعتبر “مسعود” جزء من معسكر “المعارضة التقليدية”، ولكن يبدو أن حساباتها لم تكن دقيقة، فالرجلُ الذي برر غيابه المفاجئ بتغييب المجتمع المدني عن جلسات اللجنة، بدأ يشكل حوله قطبا جديدا ضم الساموري ولد بي (نقابات عمالية) ويرب ولد نافع (رئيس ميثاق الحراطين).
للمعارضة خندق رابعٌ، يبدو أكثر هدوء ورتابة من بقية الخنادق، يوجد فيه قطب “العيش المشترك” الذي يضم شخصيات وازنة من أبرزها الوزير السابق والرئيس با ممادو ألاسان، وصمبا تيام (حركة أفلام)، ولكن هذا القطب عانى من الخلافات بعد وفاة زعيمه السياسي المخضرم كان حاميدو بابا، إثر حادث سير نهاية العام الماضي.
حين اتصلتُ بشخصية داخل مطبخ التحضير للتشاور، قالت لي: “كل شيء أصبح جاهزًا لانطلاق التشاور، ولكن في الوقت نفسه تعطل كل شيء، وبشكل مفاجئ لنا جميعًا”، إنها وضعية مربكة أن يتعثر التشاور دون أن يكون ذلك مرتبطًا بالتشاور نفسه، وأن يتيه بين خنادق المعارضة، وفتور الموالاة.