حين تصل بوركينا فاسو إلى طريق مسدود، ويتعاظم إحساس الناس في العاصمة واغادوغو بالرغبة في التعبير عن أنفسهم، فإن وجهتهم معروفة، إنها “ساحة الأمة” التي تحمل معها الأمل دومًا لسكان هذا البلد الأفريقي، ولكنها أيضًا شاهدة على الكثير من خيباتهم وآلامهم.
يقف “مارسيل تانكواونو” وسط الساحة، وهو الصحفي الذي قرر أن يصبح مناضلًا في سبيل الديمقراطية، يتأملُ أرجاء المكان الهادئ، بعد أن غابت صيحات الجماهير التي ملأتها قبل أسابيع مطالبة باستقالة الرئيس روش مارك كابوري، وملأتها بعد ذلك مؤيدة لخلعه من طرف الجيش.
لطالما كانت “ساحة الأمة” وسط واغادوغو، مكانًا لقياس نبض الشعب في بوركينا فاسو، فهي القبلة التي يقصدها السياسيون والناشطون في المجتمع المدني وقادة الحركات الطلابية، حين يعتقدون أن الوضع أصبح محبطًا لهم، فما قصة هذه الساحة، التي تختزل قصة شعب أفريقي ما يزال يكافح من أجل “الحرية”.
رمزية خاصة
يتحدث “تانكواونو” مع صحراء ميديا من وسط الساحة، وهو القيادي في “حركة 21” المعارضة، يقول إن الزعيم التاريخي توماس سانكارا غرس في الساحة بذور التحرر، وهو من أطلق عليها اسم “ساحة الثورة”، تكريما لمن سقطوا خلال انقلاب عسكري قاده الثوري الشاب عام 1983، ويرى فيه أنصاره “ثورة” على الاستعمار وجيوبه.
ما يزال الكثير من الشباب الثائرين في بوركينا فاسو، متمسكون باسم الساحة القديم (ساحة الثورة)، رغم تغييره من طرف الرئيس الأسبق بليز كومباوري، الذي قاد انقلابا عسكريا على رفيقه وصديقه توماس سانكارا، والمتهم بالتورط في تصفيته.
يقول تانكوانو: “هذه ساحتنا، حين لا تكون الأمور في هذا البلد على ما يرام، نتجمع هنا، وحين نقول ساحة الثورة، فهي رمز لنا في بوركينا فاسو، منها تكون دائما الانطلاقة حين يريد الشعب إيصال صوته”.
تتوسط الساحة البالغة مساحتها قرابة ثلاثة هكتارات، موقعا استراتيجيا بالقرب من ثكنة “غيوم أويدراوغو” العسكرية التي تطل عليها من الشمال، ومن الجنوب يطل عليها فرع البنك المركزي لدول غرب أفريقيا، أما من جهة الشرق فيبرز مبنى وسيط الجمهورية.
لا شيء مميز في الساحة، سوى أن أساطين خراسانية تحيط بها، مطلية بألوان العلم الوطني، ومربوطة فيما بينها بسلاسل من الفولاذ.
تاريخ
كأغلب المدن الأفريقية القديمة، كانت واغادوغو عبارة عن سوق يتنادى له سكان المنطقة، فيتبادلون البضائع والسلع، وكانت الساحة هي تلك السوق، حملت في ذلك العهد اسم “سوق روود ووكو”، ولكن المستعمر الفرنسي حين وصل نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، قرر نقل السوق إلى مكان آخر.
أطلق المستعمر على الساحة اسم الحاكم الفرنسي “غابرييل داربوسيير”، وجعل منها مكانًا للاحتفال بالعيد الوطني الفرنسي، الذي يتزامن مع يوم 14 يوليو من كل عام.
بعد أن غادر الفرنسيون البلاد عام 1960، ظلت الساحة لسنوات تحمل اسم الحاكم الفرنسي، حتى عام 1966 حين اندلعت منها انتفاضة شعبية ضد أول رئيس يحكم البلاد موريس ياميوغو، وبعد سقوطه حملت اسم تاريخ هذه الانتفاضة: “ساحة الثالث من يناير”، مخلدة بذلك خروج 25 ألف متظاهر يطالبون بإسقاط النظام الذي تركه المستعمر ليحكمهم.
دخلت البلاد في حقبة من عدم الاستقرار السياسي، والانقلابات العسكرية المتكررة، قبل أن يبرز نجم عسكري شاب اسمه توماس سانكارا، قاد عام 1983 انقلابا عسكريا وحكم البلاد بنهج اشتراكي، رافضا لكل القيم الغربية الموروثة عن الاستعمار، وقرر تغيير اسم الساحة لتصبح “ساحة الثورة”.
بعد أربع سنوات قاد رفاق سانكارا انقلابا عسكريا عليه، أسفر عن مقتل سانكارا وتسلم الحكم بليز كومباوري، الذي سرعان ما حذف الثورة من اسم الساحة، لتصبح “ساحة الأمة”، ولكنه وضعها تحت وصاية الجيش، الذي خصص حيزا كبيرا منها لتنظيم أنشطته واحتفالاته، بينما ترك جزء منها لأنشطة المواطنين.
خلال حكم كومباوري الذي امتد لأكثر من عقدين، تحولت الساحة إلى مكان لإقامة صلوات عيدي الأضحى والفطر، كما تحولت إلى قبلة للكثير من الأنشطة الثقافية كالحفلات الموسيقية والعروض الفنية، لتخبو بشكل كبير رمزيتها السياسية والثورية.
العودة
كل هذه الذكريات تتدافع إلى مخيلة “تانكواونو”، وهو يتجول رفقة “صحراء ميديا” في أرجاء الساحة، ولكنه يتوقف عند تمرد الجيش عام 2011 ضد الرئيس كوبماوري، سرعان ما أخمده الرئيس القوي آنذاك، ولكن التمرد أعاد للساحة جزء بريقها القديم، حين دعا زعيم المعارضة آنذاك “بينويندي سانكارا” إلى عصيان مدني انطلق من “ساحة الأمة”، ولكن كومباوري نجح في تجاوز الأزمة.
في عام 2014 حاول كومباوري تعديل الدستور من أجل البقاء في الحكم، ليشعل بذلك انتفاضة شعبية انطلقت من “ساحة الأمة”، وهي انتفاضة قادتها الأحزاب السياسية وهيئات المجتمع والنقابات العمالية والحركات الطلابية، فتحولت الساحة إلى قبلة للجميع، ونظمت فيها اعتصامات مفتوحة لم تنجح قوى الأمن في تفريقها.
يقول تانكواونو “هذه ساحتنا، ساحة الشعب لأنها دوما تمنحه الأمل بالحرية”، ويضيف: “حتى قبل سقوط حكم كومباوري، كنا نشاهد البعض يقضون الليالي هنا، ينامون في العراء احتجاجا على السلطات، وتعبيرا عن عجزهم عن التكفل بمصاريف دراسة أطفالهم”.
ولكن الساحة تخفي أشياء كثيرة، ففي الأوقات التي تزدحم بالغاضبين، تجذب مئات الباعة المتجولين، يحتجون على الأوضاع الصعبة، ولكن في الوقت نفسه يبيعون السجائر والمشروبات والمكسرات، موفرين دخلا يوميا على هامش كل انتفاضة شعبية.
على الشارع المقابل، تجلس سيدة تستظل الشجيرات القليلة التي تحيط بالساحة، تعرض بضاعتها البسيطة على عربة، مشروبات محلية وبعض الفواكه، تتحدث عن تراجع مداخيلها اليومية منذ أن توقفت المظاهرات، ولكنها مصرة على البقاء في نفس المكان، فلا أحد يعرف متى تندلع احتجاجات جديدة.
يقول تانكواونو إن سكان واغادوغو “تعودوا على الحضور إلى هذه الساحة للتعبير عن آرائهم”، ثم يضيف بحماس: “أي رئيس لا يريد المشاكل عليه أن يسلك طريق الإصلاح ويحقق تطلعات الشعب”، ولا يستبعد الصحفي المناضل إمكانية عودة الشباب إلى الساحة، إذا ما حاد العسكر الذين استولوا على الحكم في 24 من يناير الماضي، عن الطريق الصحيح.