حين كانت موريتانيا تتسلم استقلالها من فرنسا، تحت خيمة نصبت على كثيب رملي بنواكشوط، كان «الهيبه ولد همدي» يُنقل بعيدا نحو سجن تيشيت، لأنه رفض «الاستقلال الشكلي» وطالب مع رفاقه بمغادرة الفرنسيين، وبأن تدار البلاد من طرف أبنائها دون أي «وصاية».
بعد أيام قليلة من احتفال موريتانيا بالذكرى الـ 61 للاستقلال، توفي «الهيبه» لتفقد موريتانيا واحدا من رجال التأسيس، ومناضلا ترك بصمته في سنوات بناء الدولة الأولى، ولكنه قرر خلال العقود الأخيرة اعتزال السياسة حين غابت عنها الأخلاق، كما أسر لبعض مقربيه.
ينحدر ولد همدي من أسرة عريقة ومعروفة في موريتانيا، وهو أحد أبناء مدينة أطار، والده «همدي» وجيه اجتماعي وزعيم وطني ذائع الصيت، وأخوه الأصغر الدبلوماسي والمثقف الراحل محمد سعيد ولد همدي.
كان الراحل من أوائل الذين تلقوا التعليم العصري في منطقة آدرار، ما مكنه من الاحتكاك بمجموعة من الأطفال ستكون فيما بعد رموز السياسة وقادة النضال في وجه الاستعمار الفرنسي، كما ورث عن والده الانشغال بهموم الوطن، على حد تعبير أحد العارفين بالراحل.
يضيف نفس المصدر أن البيت الذي تربى فيه الراحل كان محط رحال كافة العابرين والمسافرين، ونقطة جذب لا تتوقف بمدينة أطار، ما ساهم في توسيع مدارك الراحل خلال مرحلة الطفولة، وجعله أكثر قدرة من أقرانه على بناء خطاب «وطني».
الخطوات الأولى للراحل في مسار السياسة والنضال، تزامنت مع أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته، وهي سنوات لم تكن سهلة، فالنقاش السياسي احتدم آنذاك حول آلية الخروج من حقبة الاستعمار، ومستقبل هذه الأرض وسكانها، فكانت المشاريع والآراء كثيرة ومتضاربة في بعض الأحيان، قبل أن يأتي «مؤتمر ألاك» عام 1958، ليكون الخطوة الأولى نحو تأسيس الدولة الموريتانية، ويمهد للاستقلال.
كان حينها الشاب «الهيبه» يدرس المحاسبة في مدينة دكار، عاصمة السنغال الحالية، ويساهم مع ذلك بشكل فاعل في النقاش السياسي، ضمن تيار يرفض نتائج «مؤتمر ألاك» ويدعو إلى الاستقلال الفوري والتام عن المستعمر الفرنسي.
سافر «الهيبه» من دكار نحو مدينة كيهيدي حيث شارك في تأسيس «حزب النهضة» عام 1958، شهران بعد مؤتمر ألاك، إلى جانب مناضلين شباب منهم أحمد بابا ولد أحمد مسكه ويحيى ولد منكوس وبمب ولد اليزيد.
أغلب هؤلاء الشباب كانوا قد طردوا من «حزب التجمع الموريتاني» الذي كان يقوده الراحل المختار ولد داداه، بسبب آرائهم المعارضة.
رفع «حزب النهضة» شعار (لا شروط.. لا تنازلات)، ونجح في تحقيق صدى كبير لدى الموريتانيين، بطرحه الراديكالي الرافض للتعاطي مع المستعمر، وبدعوته إلى مغادرة جميع الفرنسيين، ورفض أي استقلال شكلي يبقي على تحكم باريس في أمور الدولة الفتية.
كان يرأس حزب النهضة الزعيم الراحل بوياكي ولد عابدين، الذي لم يحضر الاجتماع التأسيسي بسبب وجوده في المنفى القسري، إثر نضاله ضد الاستعمار إلى جانب الزعيم الراحل أحمدو ولد حرمه، في إطار «حزب الوفاق».
القوة التي أظهرها «حزب النهضة» دفعت المختار ولد داداه إلى التفاوض مع قادته، فاستدعاهم قبيل موعد الاستقلال بأيام، إلى العاصمة نواكشوط التي كانت محرمة عليهم، فاستقبلوا فيها استقبال الأبطال، وخرج لتحيتهم أغلب سكان المدينة الذين لم يتجاوزوا آنذاك 700 نسمة.
كان النظام يريد توحيد الجبهة الداخلية استعدادا لاستقلال البلاد وتأسيس الدولة، بينما كان قادة النهضة يرفضون استقلالا تمنحه فرنسا تكرما منها، ويطالبون برحيل كافة إدارة المستعمر، فوصلت المفاوضات بين الطرفين إلى طريق مسدود، حينها قرر النظام سجن قادة النهضة.
نُقل القادة بمن فيهم «الهيبه» إلى سجن تيشيت، وتسلمت موريتانيا استقلالها من فرنسا في حفل أقيم بالعاصمة نواكشوط، ولكن بعد ذلك جرت مفاوضات شاقة قادها أحمد ولد محمد صالح، أسفرت عن الصلح بين قادة حزب النهضة ونظام المختار ولد داداه، أسندت بموجبه مناصب في الحكومة وحزب الشعب إلى «الهيبه» ورفاقه، ولكنهم ظلوا متمسكين بطرحهم السياسي.
اتضح ذلك التمسك حين عارض «الهيبه ولد همدي» نتائج مؤتمر حزب الشعب، الذي حوله الرئيس المختار ولد داداه من اجتماع للشباب إلى «مؤتمر وطني استثنائي» للحزب، فوقف الراحل رافضا للإجراء لأنه غير قانوني ويخالف نظم الحزب الداخلية.
كان «الهيبه» يمثل الصوت المعارض في المؤتمر، إلى جانب الراحل شيخنا ولد محمد لغظف، حين عبرا عن رفضهما القاطع لكتابة النواب استقالتهم قبل أن يتم تعيينهم، لأن في ذلك تقييدا للحرية وامتلاك النظام لوسيلة ضغط على النواب.
يقول العارفون بالراحل إنه كان لا يهادن ولا يجامل في التعبير عن آرائه بحرية داخل حزب الشعب، وظل دوما يمثل الصوت المدافع عن التعددية والحرية، والمتمسك باحترام القواعد والقوانين والنصوص.
تولى الراحل منصب عمدة مدينة أطار خلال ستينيات وتسعينيات القرن الماضي، ويحكى عنه الاهتمام الكبير بالتعليم والنظافة، ولكن قضيته الكبرى كانت إقناع الأسر بإرسال أبنائها إلى المدارس، لإيمانه بأن التعليم هو الحل الجذري لكافة المشاكل، وأولى اهتماما خاصا بتعليم الفتيات.
بعد سنوات من النضال، قرر «الهيبه ولد همدي» اعتزال العمل السياسي بشكل تام، والانزواء بعيدا عن الأضواء، ولكنه ظل متابعا للنقاش في الساحة الوطنية، يقرأ كل ما يكتب من مقالات وآراء، مع وجهة نظر ناقدة لأدوات العمل السياسي، ولكنه احتفظ بها لنفسه أو للقلة من المقربين.
وحين سأله بعض المقربين عن سبب اعتزاله للسياسية، رد بأنه ينحاز للأخلاق، في إشارة إلى تراجع القيم والمبادئ في العمل السياسي خلال الحقب الأخيرة.