مشروع ضابط في سلك الدرك الموريتاني إلى مخرج مسرحي، حيث كان لأخته موعداً مع البكاء تحسرا وندما كلما شاهدته على شاشة التلفزيون، وهي التي كانت تعلق عليه آمال الأسرة، قبل أن تصبح فيما بعد واحدة من أكثر المتابعين لأعماله الفنية.
سيارة الجن
“كرو” مدينة العلم والتجار الموريتانيين في أفريقيا، حيث لا يخطئ شبابها في الغالب أيا من الاحتمالين، بهذه الحاضرة الشرقية من موريتانيا، ولد من سيعرف بعد عقود بالمخرج المسرحي والتلفزيوني باب ولد ميني، وكان الزمن نهاية عقد الاستقلال (1968) وبها درس الابتدائية.
المسرح والتلفزيون الذين سيمتهنهما ولد ميني لاحقا كانا في مهدهما أيضا، فالأول مازالت فكرته تتشكل مع فرقة “الكيكوطية” التي أسسها همام افال أيام نشأة الدولة، أما التلفزيون فلم تعرف في هذا الحيز الجغرافي إلا بعد أن صار ولد ميني نفسه يتطلع لما هو أبعد من مدينة “كرو”، ولم يُـعرف عن الصورة (الفيديو) في موريتانيا، إلا ما كان يُـطِـلق عليه الموريتانيون سيارة الجن (وتة أهل لخل) حيث كانت فرق فرنسية في الغالب تعرض بعض الأفلام القصيرة في حواضر البلاد وهو ما لم يستوعبه خيال البدوي حينها فأعتبر الأمر نوعا من الجن.
شب ولد ميني عن الطوق، وعكس غالبية أقرانه الذين كانوا يلتحقون بالمحاظر في لعصابة، أو بالمحال التجارية في إفريقيا، وصل “باب” إلى العاصمة نواكشوط في ثمانينيات القرن الماضي، حيث كان المجتمع الموريتاني في بداية التشكل، على غير ما عُـهد له في سنوات الاستقلال، مجتمع بدأ ينفتح نسبيا على العالم وتظهر فيه التناقضات، فالبداوة مازالت طاغية، والقيم في طورها للتغير.
الطرد من المعهد
التحق حين وصوله لنواكشوط بالمعهد السعودي الذي افتتح توا، وكان إلى جانب بعض الساسة المرموقين حاليا، ورجال الدين المشهورين، في أول دفعة يدرسها المعهد.
غير أن دراسته فيه لم تكتمل حيث تم طرده بسبب توجهاته القومية، فالشباب الموريتاني حينها كان “مأدلجا” لدرجة كبيرة، والتيار “الإخواني” كان المسيطر في المعهد حينها، كما يقول ولد ميني.
غادر الشاب الحالم حينها البلاد إلى الجارة الشمالية حيث حصل على البكالوريا من ثانوية “بن يوسف” دار البارود بمدينة مراكش المغربية حيث ذكرياته الجميلة -كما يقول- ليعود إلى نواكشوط في السنوات الأخيرة من عقد الثمانينيات ويشارك في مسابقة لاكتتاب ضباط سلك الدرك الموريتاني، ويتجاوز معظم المراحل، غير أن تلك المسابقة تزامنت مع تصفية بعض التيارات القومية التي كان يحسب عليها، فتم إقصاؤه من المسابقة التي تجاوز فيها عدة مراحل.
إلى أفريقيا
ولأن شباب مدينة “كرو” لا يخطئون الدين من خلال العلم والمحاظر أو الدنيا من خلال التجار، عاد الطير المقصوص الى سربه ونبت ريشه في بعض مجالات أبناء مدينته، حين انتقل إلى “كوت ديفوار” التي عمل فيها لبعض الوقت في مجال التجارة، ومنها انتقل إلى بوركينافاسو ثم إلى ليبيا، التي أمضى فيها أربعة عشر عاما بين دراسة المسرح وتدريسه، والإخراج المرئي في كل من المعهد العالي للفنون المسرحية، وكلية الفنون والإعلام بجامعة الفاتح، حيث تخرج بشهادة المتريز وشارك في مسلسل “شجرة العائلة” في دور موريتاني، إلى جانب ممثلين من دول المغرب العربي .
خلال أيام الدراسة اكتسب “باب” خبرة في مجال صناعة الحلويات التي كان يستمد منها دخلا يعينه على مصاريف الدراسة، واليوم يصف نفسه في مجال صناعتها بـ”الأسطة”.
حين أراد العودة إلى موريتانيا، نصحه أحد أقاربه بامتهان صناعة الحلويات أو تغيير تخصصه ودراسة غير المسرح، لأنه أحد الفنون المنبوذة في البلاد.
من ليبيا انتقل إلى تونس لتعميق دراسة الإخراج التلفزيوني، فموريتانيا في نهاية التسعينيات أصبحت تفرق بين الجن والصورة، واتسع خيالها لما هو أكبر من ذلك، وتعرفت على التلفزيون منذ عدة سنوات وتطورت نسبيا ذائقتها في هذا المجال.
لم يكلل سعيه في تونس بالنجاح، فعاد إلى ليبيا ومنها إلى مصر حيث التحق بمعهد للسمعيات البصرية برسوم تسجيل وصلت لثلاث مائة دولار جمعها من عمله في الحلويات، غير أن الدراسة لم تكتمل في عامها الثاني فالرسوم ارتفعت إلى ثلاثة آلاف دولار -كما يقول- ولم تعطه الدولة منحة في عامه الثاني.
العودة إلى الوطن
عاد باب ولد ميني بعد أن أصبح مخرجا مسرحيا وتلفزيونيا إلى بلاده في أواخر عهد معاوية ولد سيد أحمد الطائع، حيث كانت ركائز النظام تتهاوي ودب في أوصاله الوهن.
التحق بالتلفزيون الموريتاني كمتعاون في مجال الإخراج، غير أن شغفه بالمسرح لم يفارقه، حيث اتصل ببعض الشباب الهواة في دار الشباب الجديدة فكانوا لبعضهم سندا، أعطاهم من خبرته وسنوات دراسته، فأعطوه من أدائهم ومواهبهم ما مكنه من إخراج عدة أعمال مسرحية إضافة إلى بعض المسلسلات التلفزيونية، لعل أشهرها سلسلة “ورطة في ورطة” وأعمال أخرى كثيرة صنع من خلالها اسمه كمخرج تلفزيوني ومسرحي.
يجلس باب ولد ميني في سيارته رباعية الدفع، أمام مبني التلفزيون دقائق قبل دخوله غرفة التحكم لإخراج إحدى حلقات الخيمة الرمضانية، هو الذي يشغل حاليا منصب رئيس مصلحة الإخراج بالموريتانية؛ ليتذكر أيام تاكسي “تودروا” التي كانت وسيلة نقله المتاحة، يستقلها من نفس المكان الذي تقف فيه سيارته، وسخرية الأقارب وبكاء الأخوات حسرة على ضياعه بعد أن امتهن المسرح، ويذكر أن نساء من أسرته كن يخرجن من “كَرو” تحت جنح الليل، في مهمة سرية هدفها إسقاط إحدى اللوحات الإعلانية لإحدى شركات الاتصال المعلقة عند مدخل المدينة لأن صورته كانت تعرض عليها، وتلك فضيحة كبري وفق رأيهن.
يمتاح من ذاكرته بعض اللحظات على خشبة دار الشباب القديمة، صحبة من يصفهم بأبنائه تلامذته، حين كانت القاعة تكتظ من المتفرجين لمتابعة تدريباتهم المسرحية، فيما يفتش في الحضور عمن يتقمص له دوار فلا يجد أحد.
يتذكر صراعه مع أعضاء فرقته المسرحية، وهم شباب متمردون يرفضون الانصياع والاصطفاف إلى جانب النظام أو معارضته، فيما يحاول هو اللعب على حبلي المحافظة على تماسك الفرقة دون التفريط في حبل النظام، فمقولة “الدولة ما تعاند” مازالت راسخة في لا وعيه منذ أمد.
يستطرد بعض الذكريات وكيف كان يحاول إقناع محصل أحد الباصات لنقل أعضاء فرقته وإقناعه بأهمية المسرح وتقديم يد العون للشباب القادم توا من عرض مسرحي وأجرة الباص لم تكتمل بعد، فيشيح بوجهه عنه وهو يكرر توجنين.. توجنين.. توجنين.
يستطرد بعض الذكريات غير أن هاتفه يرن فـ”الوقت أصبح لصالح الخيمة الرمضانة”، وعليه الدخول لغرفة التحكم.