عودتنا تونس الجارة كعادتها على تميزها في مشهدها السياسي منذ عقود كثيرة، وكانت لها تجربتها الديمقراطية المتميزة الفريدة الخاصة بها في محيطنا المغاربي والشمال الإفريقي بشكل عام.
ولم يكن يوم الأمس 25 يوليو يومًا عاديًا كعادته في تونس، حيث يتبادل الجميع التهاني بعيد الجمهورية، بل كان هذا اليوم العزيز على قلب الأشقاء في تونس، يوما استثنائيا مجددا ويشهد على ميلاد وضع سياسي جديد سوف يكون له ما بعده.
منذ أشهر طويلة وهناك أزمة سياسية في تونس، وتتطور بشكل مستمر نحو الأسواء، وهي أزمة مركبة ومعقدة، تتداخل فيها المسائل الدستورية والقانونية مع المسائل السياسية، ولم يستطع أي طرف تقديم التنازلات وتجاوز هذه الأزمة وبناء الثقة مجددا بين المؤسسات الثلاثة؛ الرئاسية رئاسة الجمهورية، ورئاسة مجلس النواب، ورئاسة الحكومة، حيث بدا واضحا أن رئاسة مجلس النواب، ومن خلال الحزام البرلماني، تغطي رئاسة الحكومة وتدعمها ضد رئاسة الجمهورية.
وفي الأسابيع الماضية بعد رفض الرئيس قيس سعيد للتحوير الوزاري الذي قدمه رئيس الحكومة، بدأت الأزمة تأخذ وضعا يصل إلى مرحلة كسر العظم بين رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب، الذي يتزعمه رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي.
منذ سقوط نظام بن علي ورجوع الشيخ راشد الغنوشي إلى تونس قبل عشر سنوات، وتأسيس حركة النهضة التي سيطرت على المشهد السياسي في تونس، رغم إنها منذ مشاركتها الأولى في انتخابات أكتوبر 2011، حيث حققت مليون ونصف المليون صوت، وبدأت بعدها في التراجع حيث سجلت في انتخابات 2014 أقل من مليون صوت، وفي إنتخابات 2019 أقل من نصف مليون صوت، إلا أنها في كل هذه المحطات كانت تظهر كطرف منتصر يهيمن ويسيطر على المشهد السياسي، وتعاملت مع المرحلة الأولى بالقيادة المباشرة من خلال حكومة حمادي الجبالي وعلي العريض، ثم بالمشاركة والقيادة من الخلف من خلال حكومة مهدي جمعة والحبيب الصيد ويوسف الشاهد وإلياس الفخفاخ.
واستطاع الشيخ راشد الغنوشي بحكمته وحنكته أن يروض السياسي المخضرم الباجي قائد السبسي، ويدخل معه في تفاهمات مؤقتة، ثم يتمكن من تشتيت نداء تونس الذي أسسه السبسي، ويستخدم رئيس الوزراء السابق يوسف الشاهد في التمرد على الباجي وشق جبهة نداء تونس الذي شكل أخطر مشروع سياسي لمواجهة النهضة منذ إسقاط بن علي، حتى أدرك الموت مؤسس نداء تونس الذي بوفاته مات معه الحزب.
لقد استطاعت حركة النهضة أن تكوّن انطباعا عند معظم الطبقة السياسية التونسية الطامحة، مفاده أن المرور للقصبة حيث مقر رئاسة الوزراء أو السلطة بشكل عام لا بد وأن يكون عن طريقها، واستخدمت الجميع ضد الجميع، ورغم تقلص حجمها ونفوذها في البرلمان، إلا إنها تمكنت من خلق تفاهمات مكنتها من العبور من محطة إلى أخرى.
وفي كل محطة تترك الحركة خلفها الأشخاص الذين استخدمتهم، ومنهم يوسف الشاهد الذي وصفه صهر الغنوشي رفيق عبد السلام، وزير الخارجية السابق في تونس، بأنه سياسي من وزن الريشة وأقل من أن يتحدث عن النهضة.
عام 2019 كان محطة هامة في تونس، حين كان موعد إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وفي هذا العام غيب الموت الرئيس الباجي قائد السبسي قبل الانتخابات، ما حدا بالسلطات التونسية إلى تعديل جدول الانتخابات بحيث تسبق الانتخابات الرئاسيات الانتخابات التشريعية.
كان واضحا لدى المتابعين أن هناك أزمة ثقة بين الشعب والطبقة السياسية، وبدا أن سيناريو الانتخابات الرئاسية المبكرة مربكا للجميع، ومع ظهور رجل الأعمال نبيل القروي بحزب قلب تونس الذي دعمته كل استطلاعات الرأي بقوة، ودفعته نحو تصدر المشهد السياسي.
في هذه الظروف الصعبة ظهر أستاذ القانون الغامض قيس سعيد، وهو أستاذ جامعي وأكاديمي محافظ منذ عام 1999 إلي 2018، وبنبرة صوته الواثقة وهويته التي ليست إسلامية ولا ليبرالية ولا اشتراكية، ولم يكن قائدا حزبيا معروفا، بل إنه قادم من خارج كل المنظومة التقليدية التونسية.
ظهر خطابه مغايرا للواقع السياسي التونسي، يؤمن بالديمقراطية من أسفل إلى أعلى، مستقل.. بسيط.. متواضع وقريب من الشعب، يقدس العدل والحرية، وسبق أن قاطع الانتخابات التونسية 2011 و2014.
كل هذه المواصفات جعلت قيس سعيد الرجل المناسب، والذي لم تر آلة الحكم أنه يشكل خطرا عليها.
كانت حركة النهضة خلال هذه الانتخابات في وضع حرج، حيث أن أحد أهم رجالاتها وصاحب الشعبية الكبيرة الشيخ عبد الفتاح مورو يرغب في الترشح، وفي نفس الوقت يرغب الشيخ راشد الغنوشي في الترشح لرئاسة مجلس النواب، وهذا ما خلق أزمة داخلية كادت تعصف بالحركة، وفي النهاية ترشح الشيخ عبد الفتاح مورو وحل ثالثا في السباق الرئاسي.
وقررت حركة النهضة دعم قيس سعيد في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية ضد حليفها لاحقا نبيل القروي، وبالفعل فاز قيس سعيد بأغلبية ساحقة تجاوزت كل ما حققته الأحزاب مجتمعة في الانتخابات التشريعية من ناحية عدد الأصوات، وبدا واضحا أن الرجل يحوز ثقة كبيرة من الشعب التونسي.
كانت حملة قيس سعيد حملة تطوعية أخذت عنوانا عريضا من الباب إلى الباب، واستخدمت وسائل التواصل الاجتماعي، وخصوصا الفيسبوك بشكل استثنائي جعلها تحقق نتائج ملفتة للنظر.
بعض الشارع التونسي كان يرى قيس سعيد أقرب إلى النهضة، فهي حركة محافظة وهو رجل محافظ، وبعد الأشهر الأولى من رئاسته بدا أن الرجل أبعد ما يكون عن الحركة مما أفسد كل حسابات حركة النهضة التي كانت تأمل في توافق ما أو انسجام أو تقارب مع الرئيس وفي كل منعطف تبتعد المسافة أكثر بينهما.
لم يكن مستبعدا عند كثيرين أن يقدم الرئيس قيس سعيد على هذه القرارات الجريئة والصعبة والكبيرة لكن التوقيت فاجأ الجميع.
لا شك أن هناك جزء مهم من النخبة التونسية بمختلف اتجاهاتها ترى أن ما أقدم عليه الرئيس هو عبارة عن انقلاب، ومما لا شك فيه أن جزء مهم وكبير من الشعب التونسي يرى قرارات الرئيس قيس سعيد تصحيحا للمسار المتعثر والمحبط من عشر سنوات عجاف مرت على تونس من أزمات سياسية واقتصادية وأمنية واجتماعية.
ومما لا شك فيه أيضًا أن الشارع بشكل عام منقسم ولا مؤشرات أولية عن تصعيد دموي.
وبشكل عام فإن الآفاق السياسية لما بعد قرارات الرئيس غير وأضحة المعالم، وهذا أمر إيجابي إذ أنه يفتح المجال أمام أفكار ومبادرات إيجابية تساهم في دفع الأوضاع إلى الأمام، ويمكن للاتحاد التونسي للشغل وأيضا المجتمع المدني النشط أن يقوموا بدور متميز.
من الواضح أن هناك قبول واسع لقرارات الرئيس، وهناك ثلاثة عوامل مهمة تساعده وتقف إلى جانبه، وهي ضغط الشارع لصالح قراراته ودعم الجيش والمؤسسة الأمنية والوضع الاقتصادي الصعب.
ومنذ استقلال تونس 1956 تميز الجيش التونسي بالحيادية الشديدة إزاء العمل السياسي، ولم يتدخل في أي أزمات سياسية في البلاد، وحينما طلب منه الرئيس الراحل بن علي التدخل لوأد التظاهرات رفض، مما كان عاملا حاسما في رحيل بن علي.
تشير كل المعطيات إلى أن الجيش متفاعل مع القرارات الرئاسية، لأنها أخذت في حضور قادته وقوى الأمن، كما أن محاصرة الجيش لمبنى البرلمان والحكومة وغلقها وغيرها من أماكن أخرى، هو ما يعزز موقف الرئيس قيس سعيد.
إن هذه الأحداث المتلاحقة والهامة في الجارة الشقيقة تونس، ستساهم في تشكيل مشهد سياسي جديد بعد هذه الأزمة، وأول ضحايا هذه الأزمة هو الشيخ راشد الغنوشي الذي سيغادر الحياة السياسية، ومؤكد إن حركة النهضة سوف تشهد انقساما وتصدعا كبيرا بالإضافة إلى انفراط عقد الحزام البرلماني الذي كان يغطي حكومة هشام المشيشي.
وستتجه تونس إلى صيغة تكون أقرب إلى النظام الرئاسي، حيث أن الرئيس قيس سعيد إذا انتصر في هذه المعركة، سوف يعزز من مكانته وموقعه في الحياة السياسية، وهو لن يقبل بأقل من نظام رئاسي يتيح له دورا أكبر في قيادة تونس.
لقد وقعت حركة النهضة في سوء تقدير من البداية، ومرجح أنها سوف تقع في سوء تصرف لاحقا حسب بعض المؤشرات الأولية.
أما الموقف الإقليمي والدولي فلن تقف القوى الدولية والإقليمية طويلا أمام الأحداث التونسية، نظرا لأنها جاءت في إطار دستوري بعيدا عن التحركات والإجراءات العسكرية المعتادة، لكنها ستنظر بكثب لما ستؤول إليه الأحداث.
صدمة تونس سوف تكون قاسية من الناحية المعنوية على التيارات الإسلامية، وخصوصا حركة الإخوان المسلمين، حيث يوضع الشيخ راشد الغنوشي في مقام كبير، ويضرب به المثل في حنكته وقيادته، ومؤكد أن لهذه الصدمة انعكاسات على محيطها الإقليمي خصوصا غرب ليبيا والجزائر حيث هناك حضور فاعل للتيارات الإسلامية.
صدمة تونس سوف تلقي بظلالها على المشهد الإقليمي في الأسابيع القادمة.
نسأل الله السلامة لشعب تونس الشقيق