أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مساء أمس الخميس، إنهاء عملية «برخان» العسكرية في الساحل، ولكن ذلك لا يعني أن فرنسا ستسحب قواتها من هذه المنطقة، وإنما لديها خطة بديلة تعمل عليها منذ قرابة عامين، تهدف إلى «تخفيف الأعباء» على الجيش الفرنسي، إنها قوة «تاكوبا» الأوروبية الخاصة.
لدى الفرنسيين قواعد عسكرية في غرب أفريقيا منذ عهد الاستعمار، استمرت بعد الاستقلال بموجب اتفاقيات تعاون عسكري، ولكن هذا الوجود العسكري أصبح أكثر وضوحا منذ يناير 2013 عندما طلب الماليون من فرنسا التدخل لحمايتهم من تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي».
أطلق الفرنسيون آنذاك عملية «سيرفال» العسكرية، ونجحوا في طرد مقاتلي القاعدة من المدن الكبيرة في شمال مالي، ولكن سرعان ما بدأت حرب استنزاف، بعد أن انتشر مقاتلو القاعدة في الصحراء، وأصبح الخطر كامنا بالماليين وحلفائهم الفرنسيين وراء كل كثيب، حينها أعلنت باريس نهاية عملية «سيرفال»، وأطلقت «برخان»، كان ذلك في شهر أغسطس 2014.
اليوم وبعد قرابة سبع سنوات، أعلن الفرنسيون نهاية «برخان»، وإطلاق تحالف دولي لمحاربة الإرهاب في المنطقة، يرتكز حول قوة خاصة أوروبية يقودها الفرنسيون ويشكلون عمودها الفقري، تحمل اسم «تاكوبا» وهي كلمة تعني «السيف» بلغة التاماشق التي يتحدث بها الطوارق.
هذه القوة الخاصة هي البديل الجديد «القديم» لعملية «برخان» العسكرية، تماما كما حلت «برخان» محل عملية «سيرفال»، والفوارق واضحة بين هذه العمليات، فقد كانت «سيرفال» عملية عسكرية تنشط في الأراضي المالية وحدها، أما «برخان» فكانت عملية تأخذ من منطقة الساحل الأفريقي عموما مسرحا لعملياتها، بينما تنشط «تاكوبا» الجديدة في منطقة «ليبتاكو» الحدودية بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، أو ما يعرف بالمثلث الحدودي، حيث يتمركز «تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى».
أعلن عن «تاكوبا» لأول مرة في قمة عقدتها فرنسا ودول الساحل الخمس (موريتانيا، مالي، النيجر، تشاد وبوركينا فاسو)، يوم 13 يناير 2020، في مدينة «بو» بالجنوب الفرنسي، وهي القمة التي أعلن فيها أن تنظيم «الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى» أصبح «العدو الأول» لفرنسا والأوروبيين في منطقة الساحل، وبالتالي تشكيل تحالف دولي لمواجهته، وذلك بعد مقتل 13 جنديا فرنسيا على يده نهاية عام 2019، في المثلث الحدودي الأكثر خطورة في الساحل.
مع نهاية مارس 2020، صدر «إعلان سياسي» عن وزراء دفاع 13 دولة أغلبها أوروبية، في مقدمتها فرنسا وألمانيا وبريطانيا، أعلنوا فيه رسميا تشكيل قوة «تاكوبا» استجابة لطلب السلطات في مالي والنيجر، يصل قوام هذه القوة الأوروبية الخاصة إلى 500 جندي، أغلبهم من القوات الخاصة الفرنسية، وعناصر أوروبية أخرى.
يقود قوة «تاكوبا» جنرال في القوات الجوية عمل لسنوات طويلة ضمن القوات الخاصة الفرنسية، ولكن قيادة أركانها أوروبية مشتركة، وتقاتل في الخطوط الأمامية إلى جانب الجيش المالي، معتمدة على مجموعة من الجنود الذين كسبوا الخبرة القتالية في أفغانستان والعراق، ويعتمدون بشكل كبير على تجهيزات متطورة، وإمكانيات خاصة للتنقل السريع.
بدأت قوة «تاكوبا» بمشاركة قوات من فرنسا والدانمرك والبرتغال وبلجيكا واستونيا وهولندا، على أن تتوسع الدائرة لتشمل دولا أخرى مثل السويد وألمانيا وبريطانيا والنرويج والتشيك، وكانت الخطة المعلنة أن «تاكوبا» ستكون جاهزة في صيف 2020 للقتال، ولكن ذلك الموعد تأجل، وفق ما أعلن في قمة نواكشوط يونيو 2020.
تتخذ قوة «تاكوبا» من القاعدة العسكرية الفرنسية بمدينة «غاو» المالية مركزا لها، وخلال العام الماضي كانت تعمل بالتنسيق مع قوة «برخان» الفرنسية، بل إنها كانت تعد إحدى الوحدات التابعة لـ«برخان»، وتعمل معها في نفس المكاتب وخلف نفس السواتر الترابية والتحصينات الأمنية، في «غاو» المالية التي لا تبعد سوى عشرات الكيلومترات فقط عن حدود النيجر وبوركينا فاسو؛ موقع استراتيجي لخوض الحرب في المثلث الحدودي بين الدول الأكثر تضررا من العنف.
وصلت طلائع القوات الخاصة الأوروبية المشكلة لقوة «تاكوبا» مطلع يوليو 2020، وكانت تتشكل من سبعين جنديا من قوات خاصة فرنسية واستونية، وأعلن جاهزيتها «الأولية» للعمل يوم 15 يوليو 2020، ولكنها لم تنفذ أي عملية ميدانية حتى شهر أكتوبر 2020، حين تحركت أول فرقة منها ضمت جنودا فرنسيين واستونيين في الشريط الحدودي بين مالي والنيجر، ونفذت أول عملية عسكرية لها تحت اسم «العاصفة»، إلى جانب وحدات صغيرة من الجيش المالي مجهزة بسيارات رباعية الدفع ودراجات نارية.
ولكن القوة الخاصة الأوروبية التي يراهن عليها الفرنسيون ظلت تتحرك ببطء، قبل أن يعلن في الثاني من شهر أبريل الماضي أنها أصبحت جاهزة للعمل بكامل طاقتها، وذلك بعد أن شيدت قاعدة عملياتية متقدمة في مدينة «ميناكا» المالية، غير بعيد من الحدود مع النيجر، وأقامت داخلها مركز اتصال متطور يمكنها من التواصل عبر الأقمار الصناعية مع القواعد العسكرية الفرنسية في دول الساحل، ومع العواصم الأوروبية المشاركة في القوة الخاصة.
وتتمركز في القاعدة العملياتية بمدينة «ميناكا» وحدات تضم جنودا من فرنسا والتشيك، بينما يتمركز في القاعدة العسكرية بمدينة «غاو» جنود فرنسيون واستونيون، وذلك في انتظار توسيع دائرة المشاركة الأوروبية في القوة الخاصة، وهو ما تأخر كثيرًا لتبدأ الأسئلة تطرح حول جدية دول مثل ألمانيا وبريطانيا.
في مقابلة نشرتها وزارة الدفاع الفرنسية على موقعها الإلكتروني مع قائد قوة «تاكوبا»، وهو جنرال عمل لسنوات طويلة ضمن القوات الخاصة الفرنسية، قال إن القاعدة العملياتية المتقدمة في مدينة «ميناكا» ستكون «قاعدة عسكرية حقيقية محصنة جدًا، ولديها استقلالية تامة».
وأضاف الجنرال الفرنسي في المقابلة التي نشرت مطلع مايو الماضي، أي قبل شهر فقط، أن من ضمن التحديات التي تواجه «تاكوبا» توسيع دائرة الانخراط الأوروبي، كما أعلن أن القوة نفذت منذ منتصف العام الماضي (2020) أكثر من 25 عملية عسكرية على الأرض، كما دربت أربع وحدات خاصة، خفيفة الحركة، من أجل التدخل السريع والاستطلاع، تتمركز في مدينتي «غاو» و«ميناكا»،
بعد أن أعلن ماكرون أمس نهاية عملية «برخان»، كان يلتزم بخطة فرنسية معلنة منذ أكثر من عامين، تقوم على تقليص الحضور العسكري في منطقة الساحل، والدفع نحو انخراط أوروبي أكبر في هذه الحرب، ولكن عوامل عديدة سرعت بتنفيذ الخطة، أولها التغييرات الكبيرة التي حدثت في المنطقة، والتي من أبرزها غياب تشاد عن الساحة، أكبر حليف لفرنسا في المنطقة، والانقلاب العسكري في مالي، وحالة الخمول التي أصابت -إثر ذلك- مشروع «مجموعة دول الساحل الخمس»، كما أن ماكرون وهو يعلن نهاية «برخان» كانت عينه على الوضع الداخلي في فرنسا، وانتخابات رئاسية عاصفة تنتظره.