كان محمد يحظيه ولد بريد الليل، الذي يلقبه أصدقاؤه وأتباعه في العمل السياسي بـ «الأستاذ»، أقرب الزعامات البعثية في العالم العربي لمؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي ميشال عفلق الذي كانت تطلق عليه نفس التسمية من رفقائه..
مثل عفلق اكتشف يحظيه الفكر البعثي في فرنسا عندما درس فيها في بداية الستينيات مع عدد من الشباب الموريتانيين، كان هو وصديقه المرحوم محمد سعيد ولد همدي هما من اختارا دراسة الصحافة، فكانا من النواة الأولى من الصحفيين المحترفين في الدولة المستقلة الجديدة..
مثل سعيد، أقبل يحظيه على الفكر الغربي الحديث في جوانبه الفلسفية والأدبية فأحاط به، ومثله أصبح من الأقلام المبدعة باللغة الفرنسية التي كان من أبرع من يكتب بها في هذه البلاد..
في فرنسا بداية الستينيات قرأ يحظيه الفكر القومي العربي وتشبع بالأيديولوجيا الوحدوية العربية، لكن خطه اختلف منذ البداية مع زملائه من المنتمين للتيار القومي العربي قبل تمايز الاتجاهين البعثي والناصري.. كانت نزعته العقلانية شديدة الصرامة والرصانة تبعده عن الشعارات الوجدانية والمواقف النضالية العاطفية.. ولذلك رأى في عفلق ما يبحث عنه من عمق التفكير ودقة التصور وتماسك المنهج..
ومع أنه قاد أول تنظيم بعثي في موريتانيا في نهاية الستينيات، وأصبح عضوا في القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي، وظل رمز التيار البعثي الموريتاني إلى اليوم، إلا انه ظل مع ذلك كله حريصا على التميز بفكره ومواقفه وطريقته في النظر والكتابة، إلى حد التساؤل المشروع عن خطوط التمايز بين المناضل الملتزم والمفكر الحر في مسار الأستاذ..
وفي حين تبنى الشباب القومي واليساري منذ نهاية الستينيات خط الاحتجاج الثوري حافظ يحظيه على مسلك مزدوج: قدم راسخة في العمل الحزبي طويل الأمد ومشاركة محسوبة في مراكز السلطة والقرار.. كان يدرك بحاسته السياسية القوية أن الثورة في مجتمع هش التركيبة، متسع المدى الجغرافي ممتنعة، ويرى بعين المؤرخ أن مشروع الدولة لا يزال محفوفا بالمخاطر، والخوف كله هو أن يؤدي اختلال الدولة إلى تقويض بنية المجتمع الذي هو حصيلة قرون من الإرث المتراكم..
قبل العمل في هياكل حزب الشعب أيام حكم الرئيس المرحوم المختار ولد داداه، وتولى إدارة تحرير الصحافة الرسمية في ذلك العهد، ولكنه كان من ضمن الخلية السياسية المدنية التي أعدت الانقلاب العسكري في 10 يوليو 1978، وكان شديد القرب من رجل الانقلاب القوي المرحوم الرائد جدو ولد السالك.. لكنه يعترف أنه أدرك أن حركة التغيير قد فشلت يوم إعلانها بسيطرة القيادة العسكرية على الحكم وإقصاء القيادات السياسية..
ومع أنه تولى مسؤوليات رسمية عليا في الحكومات العسكرية الأولى وزيرا وواليا وأمين عام وزارة، إلا أنه كان في الوقت نفسه يتولى تطوير مشروعه السياسي من خلال العمل السياسي المنظم والسري، فدخل السجن في عهد الرئيس محمد خونا ولد هيدالة في بداية الثمانينات ودخله مرتين في عهد الرئيس معاوية ولد سيد احمد الطايع.. وما بين السجن والسجن، كان الأستاذ يحظيه يتولى المناصب السياسية والإدارية العليا دون أن يتخلى عن نشاطه الحزبي..
مع بداية الانفتاح الديمقراطي في بداية التسعينيات، أدرك الأستاذ أن فترة العمل الحزبي السري قد انتهت ولم تعد مجدية، فبلور نمطا جديدا من النشاط السياسي يقوم على مزيج من التعبئة والتنظيم داخل قنوات الممارسة الديمقراطية المتاحة والكتابة المنتظمة في الصحف في مراحل التحول الحاسمة.. ولقد كان يحظيه شديد التشبث بالفكرة الديمقراطية ولكنه كان يرى أنها لكي تكون ناجعة يجب أن تؤدي دورا يتجاوز حدود التمثيل والانتخاب إلى مستوى الانقلاب الاجتماعي الجذري والتغيير المؤسسي الحاسم، وفي هذا التصور كان وفيا لخط ميشال عفلق الذي يرى أنه المفكر الوحيد الحقيقي في التيار القومي العربي..
ومع أن يحظيه لم يكتب كثيرا في نقد تجربة الأنظمة القومية العربية، إلا أنه كان يصارح رفقاءه وأصدقاءه في الحلقات الخاصة التي تعود على تنظيمها في السنوات الأخيرة (على غرار حلقات عفلق الشهيرة) أن التجربة القومية أخفقت منذ عقود ولم يعد بإمكانها الاستمرار إلا بتجديد خطابها وطرق نشاطها والاندماج في حركة المجتمع المدني العالمية الجديدة التي كان من القلة المطلعة عليها..
كان يحظيه على طريقة فلاسفة اليونان الذين يحبهم ويعرف أفكارهم يمارس التفكير في الخلوات الممتدة في الأسابيع الطويلة التي يختفي فيها عن أعين الناس في مرابع البادية مع نوقه وأبقاره.. وهي اللحظات التي يتفرغ فيها للتفكير والكتابة وعندما يعود إلى المدينة يقدم عصارات تفكيره في مقالات وتأملات عميقة وجادة..
في سنواته الأخيرة، كان شديد الإحباط والتخوف من مآلات أزمة منطقة أزواد على مستقبل الكيان الموريتاني، وقد كتب في الموضوع مقالات مطولة وهامة.. كان شغله الشاغل هو أن ينجح الموريتانيون في رهان الديمقراطية التعددية ويمارسوا حرياتهم السياسية كاملة دون أن يفرطوا في البناء السياسي للدولة التي وإن وسمها القوميون من قبل بالكيان القطري والصنيعة الاستعمارية، فإنها اليوم المكسب الوحيد الحقيقي في تاريخ البلاد..