كما كان متوقعاً جرت الانتخابات التشريعية والرئاسية في جمهورية النيجر بشكل سلس جدًا، ولم تشهد أي أحداث عنف أو عمليات إرهابية، وكانت اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات محل إشادات كثيرة ومهمة، إذ لم تسجل أي ملاحظات مهمة يمكن أن يكون لها الأثر الكبير على العملية الانتخابية.
لقد كان التحدي الأكبر هو إجراء الانتخابات في موعدها، وأيضاً أن يعترف الجميع بنتائجها، وأن تتم الإشادة بشفافيتها، وهذا ما حصل بالفعل.
من أبرز أحداث الانتخابات هي الكلمات المعبرة التي قالها فخامة الرئيس محمدو يسوفو، وهو يدلي بصوته، حين قال إنها «المرة الأولى منذ ثلاثين عاماً، أقف في هذا الموقف، وأنا لست مترشحاً للانتخابات، ولا أصوت لنفسي»، وقال: «لقد ربحت النيجر وانتصرت الديمقراطية».
بهذه الكلمات والتصريح المقتضب لاقى الرئيس المنتهية ولايته محمدو يسوفو، خلال مشاركته في تنصيب الرئيس البوركيني روش مارك كريستيان كابوري، ترحيباً من نوع خاص من لدن جميع الحضور، حين ذكر اسمه ودُعيَّ إلى المنصة للمشاركة في التنصيب.
ولكل من يعرف المشهد السياسي في النيجر، لم يكن من المستغرب أن تؤدي هذه الانتخابات إلى هذه النتائج؛ فقد تصدر الحزب الحاكم في النيجر (PNDS-TARYYA) نتائج الانتخابات التشريعية، حين حصل على أكثر من 81 مقعداً، من أصل 171 مقعداً، هي إجمالي مقاعد الجمعية الوطنية (البرلمان)، وحل في المرتبة الثانية حزب (lumana) المعارض بعشرين مقعداً، وحل ثالثاً حزب (Mnsd) بثلاثة عشر مقعداً، ورابعاً حزب (MPR Jamhurya) بثلاثة عشر مقعداً، وخامساً حزب (CPR INGantchi) بثمانية مقاعد، وسادساً حزب (RDR TCHANDJI) بسبع مقاعد، وحصلت أحزاب أخرى على أربع وثلاث مقاعد ومقعدين ومقعداً وحيداً.
أما فيما يخص الانتخابات الرئاسية، فجميع التوقعات كانت تشير إلى مرشح الحزب الحاكم محمد بعزوم على أنه المرشح الأوفر حظاً، وتعطيه الصدارة وهو ما حدث بالفعل حين حصل على الرتبة الأولى بعدد أصوات تجاوز مليون وثمانمائة ألف صوت، أي بنسبة تقدر بحوالي 39 في المائة من الأصوات المعبر عنها، فيما حل مرشح المعارضة محمد عثمان، رئيس حزب (tchandji)، في المرتبة الثانية بعدد أصوات تجاوز 800 ألف صوت، أي بنسبة 16 في المئة، وهو ما مكن المرشحان من التأهل إلى الدور الثاني الذي سينظم في الأسبوع الثالث من شهر فبراير المقبل، بعد استكمال الإجراءات الدستورية.
بهذه النتائج الأولية الرسمية نخلص إلى نتيجة مهمة جداً، وهي الانتصار الكاسح للحزب الحاكم، حيث أن النظام السياسي في النيجر هو نظام شبه رئاسي، لا يستطيع أن يعمل فيه أي رئيس بدون أغلبية مطلقة داخل الجمعية الوطنية (البرلمان).
وبالنظر إلى نتائج الانتخابات التشريعية نجد أن الحزب الحاكم يتقدم بفارق 60 مقعداً عن أقرب منافسيه حزب المعارضة الرئيسي، ومن المتعارف عليه في النيجر عقد تحالفات بين الأحزاب السياسية بعد الانتخابات، لتشكيل أغلبية برلمانية داخل ائتلاف حاكم يحكم به الرئيس، وانطلاقاً منه تتشكل الحكومة.
من جهة أخرى فإن نتائج الانتخابات التشريعية لها انعكاس مهم على الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، لأن قوة المرشح الرئاسي يستمدها من نتائج حزبه في الانتخابات التشريعية، وهنا ينظر إلى المرشح بوعزوم على أنه مرشح حزب حقق أغلبية مريحة، تمكنه من السيطرة التامة على الجمعية الوطنية (البرلمان)، على العكس من منافسه محمد عثمان، الذي حصل حزبه على سبعة مقاعد فقط، وهو في نفس الوقت مرشح حزب المعارضة الرئيسي الذي حصل على 20 مقعداً.
وبالنظر إلى فارق الأصوات بين المرشح الأول والثاني، فإننا نجد أن المرشح الثاني يواجه صعوبة كبيرة في استدراك الموقف، كما أن قراءة الكواليس والمناورات السياسية قبل إجراء الانتخابات، توضح أن حزب المعارضة الرئيسي (lumana) ارتكب أخطاء كبيرة وكثيرة، فلم يستفد من ترشيح الحزب الحاكم للسيد بعزوم في وقت مبكر، وظل يعتمد على قراءة تحليلية تتوقع حدوث انشقاق داخل الحزب الحاكم رفضاً لترشح بعزوم، وظلت تحليلات المعارضة تنطلق من أن الرئيس يسوفو يناور بالسيد بعزوم حتى يتم رفض ترشحه، وهو ما سيدفعه نحو تعديل الدستور حتى يتسنى له الترشح لولاية رئاسية ثالثة، وذلك انطلاقاً من شكوك المعارضة حول نوايا يوسفو، واعتقاده بأنه غير جاد في احترام الدستور.
هذه الحسابات الخاطئة جعلت المعارضة، التي يعد السيد هما أمادو أبرز قادتها وزعيمها التقليدي، في موقف ردود الأفعال، ولم تستطع تقدير الموقف بالشكل الصحيح، وبقيت حتى وقت قريب من موعد الانتخابات بدون مرشح معروف، وخارطة سياسية واضحة، حيث رفض هما أمادوا تقديم أي مرشح ودعمه، وظل يعتقد لوقت طويل أنه قادر على الترشح، وأن سلطات النيجر لن تتجرأ على منعه من الترشح بحكم القيد القانوني الذي عليه نتيجة حكم المحكمة الذي صدر في حقه في قضية المتاجرة بالأطفال.
هذا الاعتقاد دفع زعيم المعارضة إلى حشد أنصاره في ملعب نيامي شهر نوفمبر الماضي، وهدد بالسيناريو الذي يحدث في دولة مالي المجاورة، إذا جرى إبعاده من قبل المحكمة الدستورية، ولكن المحكمة أصدرت حكمها باعتماد 30 مرشحاً، ورفضت 11 مرشحاً من بينهم هما أمادوا زعيم المعارضة.
هذه الخطوة أصابت المعارضة بضربة قاضية، خاصة وأن تهديداتهم لم تجد أذاناً صاغية على الصعيد الدولي، بل على العكس من ذلك قوبلت بالاستهجان، واعتبرت خطواتها «غير مسؤولة» في دولة تتمتع فيها المؤسسات الدستورية بالشفافية التامة.
تلقت المعارضة ضربة أخرى قوية، حين قرر النائب أحمد حميدة الزوي، نائب رئيس حزب (lumana) المعارض، الانسحاب من صفوفها والانضمام إلى الحزب الحاكم (PNDS)، لقد كان في ذلك ضربة مفاجئة للمعارضة التي فقدت أحد أبرز عناصرها خلال العشر سنوات الماضية، وأكثر قادتها ديناميكية، واعتقد قادة المعارضة للوهلة الأولى أن عشر سنوات من النضال ضد الحكومة، سوف تصعب على النائب أحمد حميدة الزوي التواصل مع الحزب الحاكم، والانخراط فيه، ولكن ما جرى هو عكس ذلك إذ كان لهذا الانضمام دور فاعل في الأقاليم الشرقية والشمالية من النيجر، حيث توجد الحاضنة الاجتماعية الكبيرة للحزب الحاكم.
هذه الحسابات الغير دقيقة دفعت المعارضة إلى التركيز على شخص المرشح الرئاسي بوعزوم، وتوجيه الاتهامات له والتشكيك في مواطنته، والقول بأن جنسيته مزورة، وأنه مواطن ليبي، وغير ذلك من التهم، حتى أن العديد من مرشحي المعارضة للانتخابات الرئاسية رفعوا دعوى ضد بعزوم إلى المحكمة الدستورية، ولكن جميع الدعاوى رفضت من طرف المحكمة.
في المقابل كان بعزوم يواجه كل هذه المحاولات والحملات الإعلامية بصلابة ورباطة جأش، فلم يتراجع قيد أنملة إلى الخلف، وظهر في عشرات الحوارات على مختلف وسائل الإعلام، مفنداً كل الإشاعات والحملات التي حيكت ضده، وكان لتجربته النقابية والبرلمانية، دور كبير في مستوى المهارة التي تميز بها في هذه اللقاءات المختلفة.
انعكست هذه الحرب الإعلامية الشرسة على المعارضة، خاصة في أوساط النخب النيجرية، التي اتهمتها بالعنصرية والنظرة الضيقة للمواطنة والهوية النيجرية.
مع اقتراب موعد الانتخابات، أعلنت المعارضة دعم محمد عثمان، الرئيس السابق في مواجهة بعزوم، ولكن الوقت كان قد تأخر كثيراً، بالنظر إلى الحسابات السياسية والتقديرات الواقعية، فكان مرشح المعارضة يواجه صعوبة كبيرة في اللحاق بالمرشح بعزوم الذي أثبث بما لا يدع مجالاً للشك أنه أهل للثقة والمسؤولية.
لا شك أن نجاح النيجر في هذا الاستحقاق الانتخابي، سيعزز من التجربة الديمقراطية، ويلهم دولاً أخرى في المنطقة تعاني من انسداد سياسي، وصعوبة في التحول الديمقراطي.