برز بقوة خلال الأيام الماضية موضوع التعريب، وبدا وكأن البلد دخل في حرب أهلية، والبلد كان دائما في حرب أهلية مع “وقف التنفيذ أحيانا”.
والجميع تابع تصريحات النخبة السياسية والثقافية في هذا “المشكل”، وهي تصريحات موثقة (كتابة وتسجيلا) سواء منها ذلك الذي “انفلت” في “لحظة نفسية ماكرة بالضمير”, أو ذلك الذي يقطر عنصرية وحقدا وكرها أو ذلك الذي “خيب الأمل”، أو ذلك الذي “تعالى” على الجرح، أو ما صدر عن “تلك الرموز” حين لم تسيطر على “نفسها” ونزلت إلى مستوانا نحن العامة والدهماء.
ولأني أومن ب”النظرية الكبشية”، فإني سأتراجع قليلا، لا لأشحذ قرونا، وإنما لأن شعبي “فهم غلط” كما يقال، ولم يفهم كيف يتعامل مع “الملف اللغوي” بحكمة وروية تجنبه الويلات والمآسي.
ولذلك لن أنكأ جرحا. و”لن أصبّ النار على الزيت”، ولست من المولعين بإشعال الحرائق خاصة “الحرائق العرقية” التي لا تنطفئ إلا بالدم.
باستثناءات قليلة، لن ألخص كلام السادة رؤساء الأحزاب، لن أقف عند “تلك الفقرات الخطيرة”. لن ألوم أحدا. لن أثني على أحد. باستثناء “ألئك الطلبة الذي احتكموا للحوار”.
يجب أن يقول الجميع رأيه مهما كان وسطيا أو منحازا أو متطرفا أو عنصريا.. يجب أن نعرف رأيه فذلك أفضل من تركته “قنبلة صامتة” موقوتة.
لكن يجب على الجميع أن يمسك يده “فاللسان باللسان واليد ممسوكة”.. إلى حين نعرف الحقيقة.. لا تولد الحقيقة في جانب أحد بعينه. إنما يجب البحث عنها.. الحقيقة لا تفـتن بوسامة زيد ولا عمر، بل قد تكون مع الدمامة والمرارة.
لذلك بهدوء.. بهدوء.. حتى تجف على الأقل دماء الطلبة الذين افتدوا (العربية) لغة القرآن ومحمد (ص)، والطلبة الذين افتدوا (الفرنسية) لغة الاستعمار وكبلاني.
هم كبش فداء، وقود معركة أكبر. قد لا يتيسر فهم كل أبعادها.. ولذلك آثرت فتح “نافذة” قد تفيد البعض.
في “أوراق” اليوم سأكشف لكم بالفعل “شيء جديد”، والغريب عندي أن القوميين العرب ليس لديهم أي صورة عن حركة “أفلام” من الداخل.
كل ما لديهم أنها “حركة هجينة” تأسست من مواطنين وأجانب تحت أحلام “دولة الوال والو”، وأنها حاولت تنفيذ انقلابات عسكرية عرقية لتصفية الأغلبية العربية وإحلال أغلبية زنجية محلها. أنها حاولت تغيير هوية الدولة كما وقع ل”زنجبار” أو اغتصابها كما وقع لفلسطين.
هذا فقط هو ما لدى القوميين العرب عن هذه الحركة.
ما هو موقف “أفلام” من اللغات؟
عند ميلاد “أفلام” كان هناك جدل كبير وانقسام حول “الخيار اللغوي”. وقد استمر هذا الجدل وهذا الانقسام تحت كل الظروف، بالرغم من أن الحركة توحدت كليا ساعة “الضربات” التي تلقتها. وهذا شيء طبيعي في الحركات السياسية. فعند أوج المواجهة تخف الأصوات وينعدم تعدد الآراء لحين تجاوز الظروف.
انقسمت قيادات حركة “أفلام” في موضوع اللغة إلى تيارين:
الاتجاه الأول، ويدعو إلى الاعتماد على اللغات الوطنية (البولارية، السننكية، الولفية) وتدريسها والعمل بها، وقاد هذا التيار ثلاثة رجال مشهورون هم: المرحومان “مرتضى جوب” (الأب الروحي للأمة البولارية)، وكان صيدو، وصار إبراهيما مختار.
وتمثلت رؤية هؤلاء في أنه لا يمكن اعتماد اللغة الفرنسية كلغة للقومية الزنجية، وأن أي أمة لا يمكن أن تنهض وتتطور وتحتفظ بهويتها إلا عبر لغتها لأنها (اللغة) هي المكون الرئيسي والحاضن الطبيعي لثقافتها. وبرر هؤلاء نظرتهم تلك بكون كل لغة قابلة لأن تتطور وتصبح لغة علم وبحث. بمجرد أن يهتم بها قومها. فاللغة التركية والإيرانية، وكثير من اللغات في العالم مثلا، لا تملك حروفا خاصة بها، وأصبحت لغات رسمية عالمية ولغات عمل وبحث.
وساهم في هذا التوجه كون هؤلاء الثلاثة (كان، مرتضى، صار) أصبحوا متدينين، وبدأوا الابتعاد عن اليسار الإلحادي.
فمرتضى جوب وضع ترجمة للقرآن الكريم إلى اللغة البولارية. وصار مختار (الشاعر والفيلسوف) يتحول إلى داعية إسلامي في الغرب (عندما يبتعد عن مشاكل “تباتو” أو “نار”) الداخل.
أما الاتجاه الثاني: فقد كان قادته ثلاثة أيضا (أتحفظ على أسمائهم في هذه الفترة) وهم لا يؤمنون بأي لغة في العالم الثالث، ويتمسكون باللغة الفرنسية وخيار الاندماج الفرانكفوني الكامل، ويعتقدون بضرورة الالتحاق بالأمم القوية، وعدم تضييع الوقت في تطوير “خامات لغوية” في الجنوب المتخلف.
وقد كان المرحوم “مرتضى جوب” يسخر من طرح هؤلاء ويلقبهم ب”المثقـفـين الأميين”.
عندما تم “فك الحصار” عن “أفلام” في الفترة الانتقالية (2005)، شهد قادة الحركة (وعلى الأصح التيار القومي الزنجي وليس الحركة التي تقلصت وتفرقت شيعا وطوائف).. إذن شهدت الحركة في المنفى انقساما واضحا في الطرح السياسي بين خيار العودة والعمل من الداخل، لإظهار قوة انتخابية للزنوج الموريتانيين تخولهم مكانة أفضل في جهاز الدولة وإدارتها. وبين خيار البقاء في المنفى ومواصلة “الطرح المتشدد”، وفق نظرية “العمل طويل النفس”.
ويبدو أن “الاتجاه الوطني” في التيار القومي الزنجي آثر “صيدو كان” ليتصدر واجهة العمل داخليا. قبل أن يتم اختيار “الوجه الداخلي” صار إبراهيما مختار لهذه المهمة بعد وفاة صيدو كان. وحقق صار مختار تقدما سياسيا مهما في انتخابات 2007 و2009. ومن ذلك الحين حاول إبقاء “الملفات الخلافية” نائمة لأسباب متعددة.
مع بزوغ “ملف التعريب” حاليا، كان من الواضح أن جناح الحركة الذي يتبنى “الخيار اللغوي الوطني” أصبح أضعف بعد رحيل صيدو كان ومرتضى جوب، ولم يكن أمام صار مختار إلا أن يناور أو يساير “جناح الخيار اللغوي الأجنبي” في الحركة حتى لا يفقد قواعده الشعبية في الداخل أو الممسكين ببعضها على الأصح.
أنهي هذه المعلومات بدون تعليق عليها.
أما ما لم يكن في حسبان أي أحد هو “الموقف اللغوي” للشخصيات والرموز، التي فاجأتنا، بتلك “العصبية” غير المتوقعة إطلاقا.
فالرئيس كان حاميدو بابا أطل علينا في التلفزيون ليقون إن “الدستور ليس قرآنا”.. حسنا نحن لا ندافع عن الدستور لذاته، إنما ندافع عن لغة القرآن. فلم لا تحتسبها “ثابتا”.
أما”الطريقة غير المثالية التي أقر بها الدستور” فذلك شيء لم يكن في علمنا. ولكنه لا يهمنا لأن “كل شيء في هذا البلد أقر بغير مثالية” ومنه “اختطاف هوية البلد” من قبل أقلية أفرانكفونية.
أما كون “الفرنسية تركة ورثها الموريتانيون.. وتم تأميمها.. وأصبحت جزء من كياننا”.. فهذا الكلام لا يستطيع أي فرنسي أن يتجرأ على الهرطقة به، ولكنه قد يوكل إلى “باعة الضمير” لتولي نشر غسيله.
ومهما يكن فإن عليك أن تفرح أو تغضب لأن “تلك التركة” ستذهب لا محالة، وفي أقرب مما تتصور.
أما عضو مجلس الشيوخ السيدة ياي أنضو، والتي قالت في خضم حديثها عن التعريب إن”المشكل هو في وجود من يريد أن يستغل العربية لتحقيق أهداف يخجل حتى من مجرد التصريح بها”، وشددت “على أن العربية لا ينبغي ولا يجوز أن تستغل في تهميش أو إقصاء بعض المجموعات”… “فاقت” التوقعات بــحق.
السيدة “ياي أنضو”.. أنت رمز وشخصية كبيرة… أنت امرأة جميلة، وأنا كثيرا ما أغازل الجميلات، ولكن سامحيني إذا سألتك “سؤالا سياسيا” ما هي الأهداف التي “نخجل من التصريح بها”؟.. هل هي كوننا نريد أن تسود اللغة العربية في بلاد شنقيط.. أرض المنارة والرباط.. و”سنابك خيل عمر الفوتي”.. أهذه أهداف أصبح علينا أن نخجل منها..!
أما “السؤال الشرعي” فهو في دلالة الآية الكريمة “إن بعض الظن إثــم”.
إن الخطاب الذي ظهرت به “ياي أنضو” لا يختلف عن خطاب (بيان الـ 19) وحركة “أفلام” بأي فاصلة ولا حتى نقطة، وعليكم مراجعة بيانات وأدبيات “أفلام” للتأكد من صحة ما أقول.
ولكن لا بأس.. فـ”ياي أنضو” سيدة جميلة وأنا أغفر لكل الجميلات… ما لم يصلن إلى اللغة العربية فتلك هي جميلة الجميلات.