يعرف المكتب الدولي للشغل العاطل عن العمل بأنه ” الشخص الذي لا يعمل وهو قادر على العمل من ناحية السن وراغب فيه ” ولا يجب أن نفهم القدرة هنا على أنها المهارة المهنية، أو المستوى التعليمي، وإنما القدرة البدنية والقابلية العمرية للعمل، تجدر الإشارة هنا إلي أن البطالة لها عدة تصنيفات يمكن أن نذكر منها ثلاثة أنواع:
أولا: البطالة الطبيعية نتيجة البحث عن فرص عمل أحسن، وعن الشباب الجدد الملتحقين للتو بسوق العمل، لذلك لا يمكن أن نجد اقتصادا يتميز بنسبة بطالة تساوي الصفر، ويعتقد بعض الاقتصاديين أن أقل نسبة للبطالة يجب أن تكون مابين 3% و 4%.
ثانيا : البطالة الظرفية والمتمثلة في ارتفاع البطالة الناجم عن تباطؤ النشاط الاقتصادي أو انكماشه، بحيث تلجأ المؤسسات الاقتصادية لتقليص طلبها على العمل لمواجهة نقص الطلب على السلع والخدمات وهذا النوع من البطالة يتم امتصاصه غالبا بعد عودة النشاط الاقتصادي إلي الانتعاش.
ثالثا :البطالة الهيكلية والتي تتمثل في عدم اتساق عرض العمل والطلب عليه، و قد ينتج هذا النوع من البطالة عن التحول التقني في الإنتاج مما يجعل جزءا من قوة العمل غير قادر على الحصول على عمل في ظروف الإنتاج الجديدة ولا يجد بديلا آخر، والتحول التقني مثلا قد يتمثل في تمدن مجتمع فلاحي رعوي تتغير معه أنماط العيش وأنماط الإنتاج بالتبعية، وهي حالة تشبه وضع بلادنا حاليا.
ومهما يكن نوع البطالة التي نعاني منه فلا يختلف اثنان على أن هذه الظاهرة تشكل في بلادنا تحديا اقتصاديا واجتماعيا بل ومعضلة وطنية تجب مجابهتها بشكل فعال (معدل البطالة المعلن أخيرا من طرف السلطات 32%) ، فالآثار الاجتماعية الخطيرة لهذه الظاهرة ومساهمتها في تعميق الفقر وما يترتب عليه من مشاكل وأزمات يجعل من التخفيف منها -إن لم نقل القضاء عليها- في نظرنا أحد أهم التحديات التي تجب مواجهتها بحكمة واقتدار خلال العقد الحالي.
و من البديهي القول إن هذه الظاهرة ليست جديدة على البلاد، لكن تراكم العاطلين يفاقم الأمور لا محالة، ونتذكر جميعا الطرق التي واجهت بها الدولة ظاهرة البطالة في التسعينات عندما أصبحت بطالة حملة الشهادات أمرا جليا للعيان، تلك الطرق التي استخدمت في الماضي لتشجيع تشغيل الشباب بشكل مباشر كانت عبارة عن برامج سيئة التصميم، وسيئة التسيير، فضلا عن أنها غير عادلة بالمرة و يمكن القول- دون مجازفة – أن النتيجة المحققة كانت ضعيفة إن لم تكن معدومة مع الاعتراف بعدم وجود إحصائيات رسمية يوثق بها عن آثار تلك البرامج في التخفيف من البطالة.
و على سبيل المثال يتذكر القراء جميعا برامج تسيير الحنفيات، و المشاريع الصغيرة، والحوانيت والمجازر، وتوزيع الخريجين على مؤسسات عمومية وخصوصية لا تحتاجهم البتة، وهي حلول سياسية أو قل إعلامية لمشكلة اقتصادية تتطلب حلولا مدروسة، وليست حلولا شكلية موجهة للاستهلاك العام.
الحلول الممكنة :
§ النمو الاقتصادي واليات السوق:
يشكل النمو الاقتصادي السريع والمستمر أهم وسيلة لمجابهة البطالة ، غير أن أهلية العاطلين عن العمل للاستفادة من فرص النمو المذكور تعد شرطا لنجاح هذه الجهود، ومن هنا تفرض مسألة ضعف التكوين و عدم انسجامه مع متطلبات السوق نفسها بإلحاح كخلل بنيوي يحد من فاعلية النمو كوسيلة فعالة للقضاء على البطالة.
إن الاعتماد على النمو السريع والمستمر كحل وحيد لمعضلة البطالة أمر غير مضمون النتائج في حالتنا، إذ من غير المؤكد أن تتمتع البلاد بنمو سريع (فوق الـ 10%) لعدة سنوات في ظروف اقتصادية دولية تتميز بعدم الاستقرار وقاعدة إنتاجية محدودة حتى الآن، إضافة الى معدل نمو السكان الذي يناهز 3% وقاعدة هرمية كبيرة (مجتمع فتي ).
احد المخارج المساعدة علي مكافحة البطالة هو التكوين المهني الذي توليه الدولة أهمية واضحة لكن هذا المخرج يصطدم بعدة معوقات اجتماعية واقتصادية ، فلو قللنا من المعوق الاجتماعي (العزوف عن هذا النوع من التكوين) يبقى المشكل مطروحا للذين اخذوا مسارا آخر غير التكوين الفني والمهني، وهم ربما الأغلبية (خريجي العلوم الإنسانية، والعلوم البحتة، خريجي المحاظر و المتسربين من جميع التخصصات… ) و أولئك الذين تراكموا في طابور البطالة منذ سنوات، هل نعيد توجيههم أم نجد لهم حلا آخر،العقدة الأخرى هي الشك في إمكانية قدرة السوق على امتصاص خريجي التعليم الفني والمهني، وهي قدرة يجب مراقبتها ويجب الانتباه إلى ملاحظة هامة وهي التغير السريع في متطلبات السوق الذي لا يمكن مجاراته من طرف مؤسسات التكوين إلا بمراقبة حثيثة لسلوك و متطلبات هذا الأخير.
§ التصدي الفعال للبطالة :
أحد الحلول الفعالة في نظرنا لمواجهة المشكل، يكمن في خطة مدروسة و متعددة المسارات تقدم معالجات مختلفة تتناسب مع اختلاف الخصائص الديموغرافية و التعليمية للمستهدفين، فبالإضافة إلي اعتماد الدولة سياسة تحفيز النمو، وخلق قاعدة إنتاجية لاستمراره من خلال تشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر، ودعم قطاع الزراعة دعما ذكيا قابلا للاستمرار، نجد أن خطة التشغيل ومكافحة البطالة يجب أن تشمل المحاور التالية :
ü محور التعليم : لقد أصبح من اللازم التفكير الجاد في خلق تخصصات جامعية جديدة، مثل الهندسة بأنواعها، والتجارة، والزراعة، والصيد، لكن الأكثر أهمية و إلحاحا هو بذل جهد مستمر في تحسين نوعية التعليم، وهنا يجب أن نسأل أنفسنا كشعب يريد أن يعيش حياة كريمة، أي تعليم نريد أن نواجه من خلاله تحديات القرن؟ يجب أن نضع هدفا وطنيا هو الحصول على تعليم مميز وهو هدف يمكن الوصول إليه بحسن التخطيط، ودقة التطبيق، مع كثير من الجد والإخلاص، وليس فقط عن طريق زيادة الإنفاق على التعليم الذي لا ننكر أهميته.
ü محور التكوين الفني و المهني : الاستمرار في التوسع، لكن ليس على حساب النوعية وهنا تجدر الإشارة إلي أن مراقبة السوق واستقراء تطور الطلب على مهن معينة يجب أن يكون عملا مستمرا ومتقنا، منعا لهدر الثروة البشرية والمادية في مهن لا تتوفر على فرص للعمل.
ü التشغيل المباشر للعاطلين عن العمل: وهو عندما تقوم الدولة أو المؤسسة المكلفة بتشغيل الشباب، بتمويل ودعم مشاريع صغيرة أو أعمال حرة صغيرة يديرها الشباب العاطلون.
إن هذا الخيار تفرضه ظروف السوق الذي قد لا ينمو بما يسمح بامتصاص البطالة إضافة إلى مميزات العاطلين التي قد لا تسمح لهم باقتطاف ثمار النمو الاقتصادي, إلا أن هذا المسار ليس بالسهولة التي قد تبدو للعيان، بل يتطلب ذلك عوامل نجاح ضرورية التحقق نذكر من أهمها :
Ø اختيار المشاريع القابلة للاستمرار: الخطوة الأولى هي اختيار المشروع القابل للاستمرار، والمتميز بالجدوائية الاقتصادية، وهنا يجب دراسة الجدوى الاقتصادية لمجموعة كبيرة من المشاريع الصغيرة بحذر كبير، للتأكد من إمكانية النجاح ودراسة المدن و المواقع التي يمكن توطين هذه المشاريع فيها، هذه الدراسة لا يمكن أن يتولى القيام بها العاطلون انسفهم وإنما يجب أن توكل إلي هيئة مستقلة (مكتب دراسات مثلا )، وبعد ترتيب هذه المشاريع حسب جدوائيتها الاقتصادية، يجب اختيار أحسن النماذج على أساس الجدوائية، وعلى أساس توطين مشاريع نوعية جديدة على السوق وقابلة للاستنساخ في عدة مدن، وهنا يجب التفكير الجاد لخلق مشاريع صغيرة في مجالات رائدة و يمكن أن نقدم أمثلة لا للحصر (الصناعات الهندسية الصغيرة’ صناعة الطوب الأحمر ، تربية النحل ، الو رشات الميكانيكية ، صناعات العاب الأطفال، صناعة الأثاث, صناعة الزجاج , زراعات محاصيل في غير موسمها , الخدمات الهندسية,…).
Ø اختيار العاطلين: الخطوة الأولى في هذا المجال هي القيام بإحصاء شامل ودقيق، يمكن من خلق قاعدة بيانات مفصلة عن العاطلين، وتحديث تلك البيانات بشكل دوري وبمعايير علمية رصينة، و بعد تحليل تلك البيانات نقوم بتصنيف العاطلين إلي فئات مختلفة، يتم التعامل مع كل فئة بطريقة مناسبة، و من البديهي في نظرنا أن تحظى الفئة الأكثر تعليما بالأولوية عند التفكير في قادة مشروعات اقتصادية ناجحة، دون أن نحرم الآخرين من الحصول على فرصة عمل تناسبهم، ربما كموظفين وعمال داخل المشاريع المذكورة.
يتم اختيار الفئة المستهدفة بنظام عادل وشفاف ثم تتلقى تكوينا جيدا في إنشاء و تسيير المؤسسات الصغيرة ، ويتم هذا التكوين من طرف خبراء قانونيين واقتصاديين ومحاسبيين وإداريين وبتمويل من الدولة كجزء من الدعم الفني وبعد التكوين الذي يأخذ مدة شهر آو شهرين يتم التقييم الأولي، لتحديد مستوى التمكن واستيعاب برنامج التكوين، أما التقييم الثاني فيجب أن يركز على مؤهلات القيادة و درجة التزام العاطلين ومثابرتهم وإيمانهم بقدراتهم الذاتية، وعلى أساس التقييمين نختار مجموعة من قادة المشاريع، فيما يختار كل واحد منهم مجموعة من عشرة أشخاص مثلا من البقية التي تم اختيارها كفئة ناجحة، أما الآخرون فيتم التعامل معهم كمنتمين جدد لطابور العاطلين الذين يحتاجون إلى حل أخر.
يتم هذا العمل بشكل موسمي مع دراسة التجارب السابقة للتحسين من كفاءة هذه العملية، فلو فرضنا أننا اخترنا مائة مدير لمشروعات صغيرة، نعرض عليهم لائحة المشاريع ذات الجدوائية ليختاروا ما يناسبهم، ولا يكون الاختيار مقبولا إلا بعد مصادقة الخبراء والفنيين عليه من ناحية قدرة المعني على تسيير مشروعه، و هنا نبدأ مرحلة تأسيس الشركة والتحضير لتمويلها، ويأتي دور الدعم الفني الذي تلتزمه الدولة.
Ø التمويل: سيشكل تمويل هذا النوع من المشاريع أحد أكثر التحديات صعوبة، وسيتطلب الأمر إجراءات صارمة تمنع هدر أموال الدولة والمودعين، وهنا ليست لدينا حلول سحرية لكن يمكن أن نطرح بعض الأفكار التي يمكن دراستها وتقييم مدى قابليتها للتطبيق.
§ التمويل المباشر عن طريق الدولة مع قابلية استرداد جزء كبير من المبلغ الأصلي : تكمن الفكرة هنا في وضع دفتر التزامات واضح مع صاحب المشروع يعطيه الحق في التمويل، لكنه يعطي للدولة مجموعة من الضمانات تسمح لها بالسيطرة على دخل المشروع حتى تسترجع المبلغ المحدد بشكل لا يوقف نشاط المؤسسة طبعا، نذكر من ضمن تلك الضمانات أن يكون لها حق النقض في القرارات الكبرى التي تقوض الاستقرار المالي للمشروع أو تهدد وجوده، وتكون لديها كافة المعلومات المالية والمحاسبية، بما في ذلك تقارير مصادق عليها من طرق مراقب حسابات مستقل، وهو ما سيمكن من متابعة الوضع عن كثب، ونقترح أن توكل عملية المراقبة، والمتابعة لهيئة عمومية واحدة متخصصة، وسريعة التحرك والقرار، منعا لدهاليز البيروقراطية المحبطة.
§ التمويل عن طريق الاكتتاب العمومي : وهنا يجب التفكير في خلق بورصة للمنشآت الصغيرة لتداول أسهم وسندات الشركات الصغيرة المعنية وربما فتحها أمام شركات أخرى بشروط مشددة، و يتطلب افتتاح بورصة من هذا النوع بطبيعة الحال إجراءات تنظيمية وتقنينية كافية لحماية الاستثمارات والمدخرات، و لمنع هذه المشاريع الصغيرة من أن تكون مصيدة لمدخرات المواطنين، هذه الفكرة على تعقيدها توجد على أرض الواقع في بعض البلدان ويمكن دراستها وإمكان الاستفادة منها، على أن تظل الدولة هي الضامن لمدخرات الإفراد وهي الموفر للدعم الفني والمالي لهذه المشاريع الصغيرة وخاصة الواعدة منها، لتمكينها أولا من القدرة على الوقوف على قدميها وحتى تتمكن من الاستعداد الفني والقانوني للتمويل الجزئي عن طريق الاكتتاب العمومي، فيما توفر البورصة للمستثمرين قدرة الخروج عند الحاجة وتسبيل الصكوك التي بحوزتهم .
ü ضمانات النجاح : أحد ضمانات النجاح هو التدرج في مشروع التشغيل هذا بشكل عام والتمويل بشكل خاص، والهدف من التدرج هو دراسة سلوك المتدخلين في السوق للتأكد من أن الاتجاه الذي نأخذه سيحقق النتيجة ، فلو فرضنا أن الدولة تستهدف تشغيل عشرين ألف شخص مدة خمس سنوات، يجب البدء في السنة الأولى بعدد قليل نسبيا فإذا نجحت التجربة يمكن زيادته في السنة القادمة وإلا تمت مراجعة المسار وإعادة رسم الهدف.
من أهم أسباب النجاح وأكثر العوامل حساسية تناسب مصادر التمويل مع نوعية الأصول الممولة، ويتم ذلك من خلال اختيار مصادر تمويلية طويلة آو متوسطة الأجل، لتمويل المشروعات التي ينتظر أن تكون فترة الاسترداد فيها طويلة، ويمكن التوسع في التناسب ليشمل العملات، فقد لا يكون من الحكمة الاقتراض بالأوقية إذا كانت المبيعات كلها بالدولار، لتجنب مخاطر تغير سعر الصرف، وفي هذا الصدد يجب دراسة العبر المستخلصة من الأزمة المالية في نمور أسيا الصرف .
من الضمانات الأخرى التي يتطلبها النجاح تعزيز بعض المؤسسات التي تقوم بعمل رقابي بناء للصالح العام ولصالح المستثمرين والمدخرين وهي هيئات الخبراء المحاسبين و مدققي الحسابات، نقول ذلك لأن عملهم المهني سيمكن من تقديم صورة مستقلة عن الوضع الاقتصادي للمشاريع المذكورة، وبدون استقلالية ومهنية عملهم سيكون من الصعب معرفة الوضع الحقيقي لتلك المشروعات.
تلكم مجموعة من الأفكار التي نعتقد أنها تستحق الدراسة، حيث أننا لا نشك في أن موضوع مكافحة البطالة يحتاج إلي التفكير الجاد فيه من طرف الباحثين والمسؤولين و السياسيين، بل يمكن القول إنه مدخل للتنمية، و قاطرة لمكافحة الفقر وهي لعمري أهداف جسام، ستوفر الرفاهية و تكرس الوئام الاجتماعي إن تحققت، التوفيق لأمة تريد مكانا تحت الشمس.
أخرمبالي ولد محمد
باحث اقتصادي