يثور بقوة في موريتانيا حاليا جدل واسع حول مفهوم تجديد الطبقة السياسية، وذلك على خلفية تبني الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز لهذه الفكرة شعارا لحملته الانتخابية، ورد المعارضة لرؤيتها في هذا المجال، وكذلك تدافع شباب النظام وراء هذا الشعار سواء تعلق الأمر بنيات فوقية أو أخرى تلهث وراء التعيينات.
“صحراء ميديا” التقت بالكاتب والمثقف الموريتاني الكبير الدكتور بدي أبنو، وأجرت معه حوارا حول مفهوم تجديد الطبقة السياسية، وذلك بعد أن كان ولد أبنو أول من طرح هذا الفهوم ونادى بتجديد الطبقة السياسية بعيد سقوط نظام ولد الطايع عام 2005.
وسننشر الحوار خلال الساعات القادمة بحول الله، فور انتهاء تحرير المقابلة.
د. بدي أبنو لصحراء ميديا:
نواكشوط – : تجديد الطبقة السياسية يعني القطيعة مع تركة “ٍسنلوي”
ما هو تجديد الطبقة السياسية، وكيف عرف هذا المفهوم طريقه إلى المنابر السياسية الموريتانية، ليتحول في الوقت الراهن إلى “عصى سحرية” يلوح بها الكل لطرد “السحرة”، وتحقيق الغايات ما ظهر منها وما بطن، في بداية المأمورية الرئاسية الجديدة، التي لم تشهد صخبا متعلقا بهذا الشعار من قبل. خاصة بعد أن تحول في أذهان البعض إلى مجرد وسلية لتوظيف شباب، أو مسخرة في تصريحات البعض الآخر الذي اعتبر الشعار بتجديد الطبقة السياسية “شعارا استهلاكيا” محضا يضاف لإخوته في “رئاسة الفقراء” و”مأمورية الشباب والنساء”.
كان الدكتور بدي أبنو، الكاتب الأكاديمي والمعارض الموريتاني السابق، أول من طرح هذا المفهوم عقب إطاحة نظام ولد الطايع، وروج لهذا الطرح باعتباره أداة لإحداث القطيعة مع ما يسميه الأنظمة الموروثة عن “سينلوي”. وخلال سنة ونصف من عمر المرحلة الإنتقالية (2006 و2007) واصل الدكتور بدي ابنو يعرض طرحه ويشرح أسسه الفكرية للرأي العام الوطني في مقاله الأسبوعي في جريدة الشعب الحكومية. ثم فوجئ الرأي العام أنه بمجرد وصول الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله أمرتْ حكومته (حكومة الزين ولد زيدان) بتوقيف المقال الأسبوعي للدكتور بدي في الجريدة الحكومية. وللمفارقة حين وصل الجنرال عزيز إلى السلطة (انقلاب 2008) أعيد المقال فورا ولكن فقط لمدة أسبوعين ثم جاءتْ الأوامر فجأة بتوقيفه من جديد.
“صحراء ميديا”، وابتعادا عن الطرح الشعبوي لمفهوم تجديد الطبقة السياسية، تحاور د. بد أبنو في هذا المجال، وإليكم نص الحوار:
– سؤال : خلال عودتك للبلاد بعد سقوط نظام ولد الطايع (فبراير 2006)، وفي أول مؤتمر صحفي تعقده في البلاد، ونقله بشكل مباشر عدد من القنوات الإعلامية الدولية، طرحت تجديد الطبقة السياسية كأولوية. وأمضيت فترة طويلة تشرح الفكرة وتدعو لها حديثا وكتابة ألا تشعر بالانتصار أن الجميع ولاسيما النظام أصبح يتبنى الفكرة أم ترى أن تم سوء فهمها واستغلالها؟
د. بدي ابنو : كما كان يقال في التعبيرات العتيقة عن الشعر إن مصيبته في رواته. فالأفكار أيضا قد تعاني شيئا شبيها. ولعل التمييز التقليدي لدى ماكس فيبر بين أخلاق القناعة وأخلاق المسؤولية قد لايكون بعيدا عن أزمة الرواة تلك. بشكل أكثر جدية فإن مستوى متابعتي للساحة المحلية في السنوات الأخيرة وإطلاعي على توظيف مفهوم تجديد الطبقة السياسية يظل جزئيا وإذًا غير كاف بحكم ابتعادي داخليا وخارجيا عن النشاط السياسي الموريتاني.
من البديهي طبعا أن كوني من استعمل هذا المصطلح بشكل واسع نسبيا للتعبير عن مفهوم بدا لي ـ وما يزال يبدو لي ـ أساسيا لا يجعل المصطلح المعني ملكا لي أو لغيري. والناس بداهةً أحرار في استخدامه، كما هم أحرار أيضا في تحميله مفاهيم أخرى. تخوفي المشروع هنا هو فقط أن تجربة الأنظمة السياسية المتعاقبة الموروثة عن “سينلوي” هي أن الإنشائيات الرسمية غالبا ما تشكل محرقة للمفاهيم. بينما تجديد الطبقة السياسية يعني عندي في مفهومه الكلي القطيعة مع تركة “سينلوي” ومع ما سميتُه “عقلية الملاز”.
بغض النظر عن أي توظيف إشكالي أشْعُرُ، وأعترف هنا مرة أخرى بمحدودية اطلاعي، بأن هنالك جيلا جديدا يتحرك في أرضية جديدة من خارج الفضاءات التقليدية للسلطة والسلطة البديلة.
أسمحوا لي بهذا الخصوص أن أستعيد ما كنت صرحتُ به قبل سنة في هذا الموضوع: “كنتُ دعوتُ كما قد تتذكرون بعد الانقلاب على العقيد ولد الطائع إلى تجديد الطبقة السياسية. بعد ذلك صارت الدعوة متداولة في الخطاب المحلي وتمّ تدجينها. ولكن التجربة أثبتتْ أن البنية الدولتية العميقة المتأسسة على طبقة كومبرادورية وعلى ولاء استعماري محدَث (نيوكولونيالي) لم تتغير. وأن الحديث عن تغيير الطبقة السياسية يتعلق أساسا بتغيير في الأسماء، وذلك لأسباب بنيوية. صحيح أني ألاحظ إيجابيا أن هنالك ثقافة شبابية مغايرة قيْد التكون وسيكون لها بحسب تصوري الأولي تأثير كبير إن لم يكن طفرويا في العقد القادم. أقول هذا مع كثير من التحفظ لأني لا أملك إلا تصورات أولية وليست لدي بعدُ موضوعيا معطياتٌ جردية كافية عن البلد في تحولاته الاجتماعية السياسية العميقة والكلية. في الظرف الراهن على الأقل فإن البلد يعيش ـ فيما يبدو لي عن بعد ـ الارتدادات العكسية لفشل تجربة التغيير وفشل تجديد الطبقة السياسية وهو فشل نتحمل جميعا بمستوى أو آخر المسؤولية عنه. هذه الارتدادات العكسية هي طبعا أمر متوقع جدا في مثل هذه الظروف. ” (الطواري، تاريخ 10.09.2013)
سؤال : اليوم، وفي ظل طرح النظام وأنصاره لهذا الموضوع بشكل حاد ولافت خطابيا، وفي ظل استشهاد كتاب موريتانيين بكونك أطلقت هذه الفكرة/ الشعار، كيف تعيد تقييم هذا المفهوم بعد الخلافات التي طفت على السطح بين النظام ومعارضته وبين أنصار النظام نفسه حول مفهومه وربط البعض له بالعمر.
د. بدي ابنو : في المؤتمر الصحافي الذي أشرتم إليه سألني أحد الصحفيين الحاضرين ألا تعني دعوتي إلى تجديد الطبقة السياسية إلى مواجهة بين الطبقة السياسية التقليدية والطبقة الصاعدة. وأجبتُ (نواكشوط أنفو، النسخة الفرنسية، 15 فبراير 2006 العدد 927 ) أنني لا أدعو إلى حرب ـ بين أجيال ـ ولكن إلى تغيير في مستوى بنيات العقل السياسي السائد. وأضفتُ حينها توضيحا للفكرة نقطتين يبدو لي من المهم التذكير بهما الآن. أوردهما كما سجلتْهما الصحيفةُ نفسُها :” لا يتعلق أمر تجديد الطبقة السياسية بأشخاص أو بالمواقع التي يحتلها أشخاص من حيث همْ همْ ولكن يتعلق بعقليات ما تزال مسيطرة والجميع ما زال يساهم في تكريسها بما في ذلك ضحايا هذه العقليات أنفسهم. كل تغيير هرمي فوقي لا يمكن أن ينجح. تلزم دينامية شعبية تفرض نفسها بنفسها، تفرض نفسها على الكل بما في ذلك الأحزاب القائمة. ” (نواكشوط أنفو، النسخة الفرنسية، 15 فبراير 2006 العدد 927 )
غنيٌ عن القول إن هذا لا يعني أن فكرة صراع الأجيال في معناها الفكري وفي دلالتها التاريخية لا وجاهة لها هنا كما لا يعني أن معطيات الخريطة السكانية العمرية ليستْ لها معان معينة. ولكن البنيات السياسية الاجتماعية القائمة هي دائما بنيات مركبة لا يمكن اجتزاء أي من دلالاتها.
لأستشهد هنا بسلسلة المقالات التي أصررتُ فيها على توضيح فكرة تجديد الطبقة السياسية والتي نُشرت تباعا في جريدة الشعب ـ وأعيد نشرُها على نطاق واسع نسبيا ـ قبل أن تكون “أولى الإنجازات الديمقراطية” للرئيس سيدي في أسبوعه الأول توقيفها. وحتى لا أطيل سأكتفي بالفقرتين التاليين (الشعب ، مارس 2006). كتبتُ حينها:
“يقف تجديد الطبقة السياسية كفكرة على المعطيات الرئيسة التي عرضنا لها في أحاديثنا الماضية. وهي مـعطيات يمكن اختصارها في خمس : (1) اتساع الهوة العمرية والذهنية التي تفصل بين أجيال ما بعد “الاستقلال” وبين العناصر الموروثة عمّا قبل الأخير والتي ظلّتْ وحدها المهيمنة في سلّم السلط المادية والرمزية، (2) وتآكل “النخبة” التي مثلتْ العمود الفقري للدولة الفوقية، (3) والتجدد القياسي الأفقي والعمودي الذي عرفتْه الأجيال الجديدة، (4) والتشكل الجزئي للفضاء المدني والعمومي ولمناخه الدلالي ولمنظومته المعيارية والقيمية، (5) وترعرع انتماء وطني يتجاوز الهويات الجزئية. ينضاف إلى هذه العناصر تأثير هزة الضمير الجمعي التي حملها الثامن من يونيو وتداعياتها، والتزايد المنظور لدور الدياسبورات الشبابية الوليدة. وهي معطيات رغم كثافتها ما تزال دلالاتُها، من زوايا عديدة، دلالاتٍ كمونية. و للأسباب التي حاولنا عرضها، لم تتم ترجمتُها بشكل حاسم إلى مبادئ إيجابية فاعلة. إنها دلالات تنغرس أكثر في اللاوعي الجماعي وفي تجلياته شبه العشوائية أكثر بكثير مما تتكشّف حاليا في الديناميات الميدانية الغارقة في استثمار المنظومة المرجعية التقليدية. ويصدر تحييدها كما رأينا عن أن الدولة الموروثة هي جوهريا إعادةُ انتاج مستمرة لما قبل الدولة. تلك غايتها المرسومة. ولكن الأخيرة بذلك تحمل تناقضا جذريا داخلها يبدو اليومَ في طور الإنفجار. فهي بما هي إعادة إنتاج لما قبلها هي كذلك تلقائيا إعادة صياغة شكلية تناسب دورها الفوقي التدجيني. غير أن كل إعادة صياغة مهما كانت شكلا محضا تحمل معها لا إراديا مضمونا مغايرا جزئيا للمستعاد. تحمل معها “فائضا” هو بالنسبة للحالة التي نحن بصددها أحد عوامل تناقضها الذاتي. ولكن فحوى التحول الحالي ليس مكتوبا ولا محسوما سَلَفا. ففي الماضي استطاعت الأنظمة المتعاقبة أن تعتمد “الحل السفلي” أي أن تدمج في صفوفها الفاعلين الجدد، كأصحاب المطالب الطلابية والنقابية أو كقياديي الحركات السرية مثلا، وأن تدفعهم إلى الإنخراط في المنظومة المهيمنة. بل استثمرتْ تجاربَهم التعبوية في تحصين المنظومة السائدة وبناها الموروثة وفي الدفاع عنها عبر تنميق و”تحديث” الخطاب التبريري للدولة الفوقية وللمرجعيات التقليدية. وقد سهّلَ الأمرَ، أواسطَ السبعينات ثم أواسط الثمانينات تمثيلا لا حصرا، أن الفارق الذهني والتكويني بين “السلطة” و”المعارضة” ظل محدودا وقابلا للتجاوز. غير أن مسلسل الإدماج المرحلي الذي استمر لمدة عقود لا يحمي إلا سطحيا البنى الموروثة إذْ يحمل معه مع طول الزمن عناصر تفكيك الأخيرة. وعوامل التناقض الذاتي الإضافية التي ما انفكَّ ذلك المسلسلُ يُفرزها في طيات البنى العتيقة قد وصلتْ على ما يبدو إلى مستوى نوعي. لاسيما أن آليات الإدماج المتلاحق قد استهلكتْ نفسها أو كادت. والفجوة “الأجيالية” ظلتّ تتوسع بركانيا وتحمل مضامين اجتماعية صراعية. ولعلها وصلتْ من زوايا معينة مرحلة اللارجعة. ولم تعد قابلة للتجاوز داخل الأطر العتيقة.
مقابل “الحل السفلي” سيلزم ابتكار “حل علوي” للانزياح من المستوى الكموني إلى المستوى الفاعل. وهو ما يقتضي في المستوى الأول الانتقالَ من الفاعل الاجتماعي والسياسي الفرد إلى الفاعل المؤسسة. فالمؤسسات الموروثة الرسمية والتقليدية معا مبنية في معظم الحالات على أحادية “الأب” كنتاج للإرث الأبوي المزدوج للمرجعيات التقليدية وللدولة الفوقية. ولكن البنى السياسية المدينية التي تُفتَرض مدنيتها ولو جزئيا ويُفترض أنها تكونتْ كطرف ثالث مضاد قد آلت في السنوات الأخيرة إلى وضعية شبيهة. فإذا أخذنا مثال الحزب كلاعب تُتوقع محوريتُه السياسية في الفترة الراهنة، سنجد الهوة مذهلةً بين الحزب كصورة وبين الحزب كممارسة. وكما هو الحال بالنسبة للدولة نفسها، سنجد التناقض الصارخ بين أشكال الحزب الموريتاني ـ أيا يكن الحزب ـ المعلنة وأدبياته المكتوبة والمنطوقة من جهة وبين واقعه وحقائقه الميدانية من جهة ثانية. الحزب أيا كان ليس غالبا إلا رئيسَ الحزب والمنظمة ليست غلبا إلا رئيس المنظمة. وهو ما يزيد مركزية الإقطاع السياسي الذي يتأسس ثنائيا على استثمار “الأب المؤسس” للولاءات التقليدية وتوازناتها الخاصة وعلى الرصيد المادي الريعي والاعتباري الذي يتمتع به نفس “الأب” بحكم المواقع التي احتلها في سلم الأنظمة التي حكمتْ. وينجرّ عن ذلك أن الحزب يؤول غالبا إلى ما يشبه الملكية المادية الخاصة. وانطلاقا من هذا الاعتبار فالخروج من القمقم الحالي، بخلْق الحزب المؤسسة على انقاض الحزب الفرد، يقتضي مراجعة جذرية للتوازنات القائمة من خلال نسج وتوسيع علاقات سياسية مبنية شيئا فشيئا على الندية وعلى الصراع والمناكفة لا على الولاء أو شبه البيعة. القطيعة السياسية تبدأ بهز االأنْوية السياسية والمدنية من داخلها وعلى هامشها لتغيير وجهة المنافسة السياسية وضخ محتوى ديمقراطي فاعل داخلها وداخل فضاءاتها البينية كما في الفضاء العمومي. وتبعا لذلك سيتطلب تحويلُ المعطيات والعوامل التغييرية إلى مبادئ إيجابية فاعلة بل حاسمة خلقَ اندفاع جماعي شامل. لا يستدعي الأمر فقط مشروعا جماعيا أو مشاريع وطنية جامعة بل أكثر من ذلك طموحا شاملا قادرا على هز الوعي المحجوب وخلق تعبئة مواطنية تتجاوز الحسابات التقليدية أو المتداولة. وهو ما يستلزم إنتاج خطاب سياسي يستنطقُ المسكوت عنه في الضمير الجمعي المعذَّب وفي الهوية الجمعية المتشكلة. ويستلزمُ تفعيلَ الطاقة المخدَّرة عبر تنشيط مختلف الفاعليات التعبوية الممكنة في وجه اللعبة الماكيافيلية الموروثة. والمحك الأول سيظل خلق محتوى أخلاقي دافع، أو تحديد مثل أخلاقية عدلا ومساواة وحريةَ تجمع المضمون المبدأي والمصلحي معا. ويتطلب الأمر سبرًا أعمقَ لما دشنتْه من قبلُ عدةُ حركات من استنطاق للمخزون التاريخي الرفضي ولتأمثلاته الاجتماعية الدفينة. يتطلبُ وعيا رصينا بالتاريخية الخاصة للمجتمع ولطموحه المكبوت في امتلاك مصيره وامتلاك مكانة لائقة في عموم المنطقة. يتطلبُ دفعَ التفاعلات الاجتماعية إلى أقصاها عبر الفضاء التواصلي الإعلامي المفتوح بآلياته وتقنياته الجديدة. وهو ما سيعني عمليا تعريةَ منطق البنيات المهيمنة وآليات استمرارها أو اجترارها الذاتي بما يخول مواجهتها الحاسمة. يتطلب في الخلاصة القطيعة مع الديناصورات المحنطة والتي ما تزال تُصر على التحكم في عالم الأحياء، على التحكم في أجيال لا تفصلها عنها عقود بل طفرات ذهنية ليس من المبالغة وصفُها بأنها بمثابة القرون.”
– سؤال : وقتها طرحت الفكرة، وأجريت سلسلة مقابلات كما نشرت سلسلة من المقالتات والنصوص لتوضيح مغزاها.. وعدت إليها من حين لآخر… فهل تعتبر إثارتها اليوم من طرف الجميع وبعد أن تبناها الرئيس ولد عبد العزيز نجاحا لما طرحت ولو لفكرة الفكرة.. إذا لم يكن البعض راضيا عن سياق طرحها وما يقصد بها.
د. بدي ابنو : تجديد الطبقة السياسية في نظري وأكرر يستهدف في المحتوي الدلالي الذي يحيل إليه في تعريفي ـ طبعا لا يُلزم كتعريف غيري ـ منظومةً معقدة موروثة أُطلق عليها صفة المنظومة الموروثة عن “سينلوي” أو بشكل استفزازي دولة “أملاز”. وأقصد بتلك المنظومة، إذا أردنا التلخيص الشديد، نمطا خاصا مما تسميه الأدبيات السياسية بالدولة الكومبرداروية، نمطا خاصا تلعب “الدولة” فيه دور الوسيط الفوقي “الغيور” على موقعه كحلقة وصل وفصل بين الوكيل الأجنبي والمجتمع التقليدي. المجتمع التقليدي المعني هو فسيفساء تجاورية ما قبل مدنية من الانتماءات الجزئية (قبَلي، فئوي، عرقي إلخ). أو كما كتبتُ حينها : “لم تكن الدولة الفوقية الموروثة عن “سين لوي” – كما رأينا – تحمل مشروعا تحديثيا وإنما كانت دولة “ملازية” بالمعنى الذي بسطناه. أي أنها كانت آلية “كومبرادورية” تلعب بمقتضى التوكيل الأجنبي دور الوسيط بين المجتمع التقليدي والوكيل الأجنبي. ولم يخالط هذا التوكيل أي مستوى يُذكر من مستويات الشرعية الشعبية كالذي خلقتْه مثلا في دول ما بعد استعمارية أخرى حروب التحرير الوطنية. من هنا فالإفراط المستمر منذ ما يسمى بالاستقلال في الحديث عن الشعب وإرادته ما انفك الترجمةَ الأبلغَ للتضارب الجذري الموروث عن “سنلوي” بين المفردات الرسمية بخلفيتها المفاهيمية المستنفَرة وبين الواقع الذي يُفترض أنها تتنزل عليه. وهي إذا ذاك تُفصح عن أحد الأدوار الأساسية للخطاب الكومبرادوري كخطاب تزييف للوعي وترسيخ للهوة الفاصلة بين الأشكال التي تتصنعها الدولة وإسقاطاتها الميدانية. وهو ما سينتج عنه نمط معين من توظيف واستثمار الهويات الجزئية والانتماءات الماقبل حديثة يمكن أن نسميه بالنمط التفكيكي في مقابل النمط الدمجي. أي أنه باستعمال اللغة الخلدونية توظيف “للعصائب” ليس هدفُه تحقيقَ “الدولة العامة الاستيلاء” بـ”جمع القلوب وتأليفها” و”اتحاد الوجهة” و”اتساع نطاق الكلمة”. إنما ظلَّ هدفُ الحكم خلال كل مراحله هو، بالتعبير الخلدوني كذلك، “التفريقُ بينهم حتى يحصل له جانب منهم يغالب به الباقين.” الهدف الكومبرادوري إذن ليس”تعصيب” الانتماءات الجزئية لتجاوزها بخلق انتماء مواطني كلي وإنما تحقيق توازنات استفرادية عصبية وعرقية في مجتمع يُنظر إليه كفسيفساء تجوارية من الانتماءات الجزئية. وهو ما كرَّسَ من جانب دولةَ الامتيازات أو الدولة “المخوصَصَة” وألغى أي معنى جدي للحديث عن دولة الحقوق والقانون. كما أنه هو، من جانب ثان، ما ساهم شيئا فشيئا في اختزال الدولة في بعدها الأمني البوليسي. “
السؤال الذي طرحتُه حينها والذي يبدو لي حريا بأن يُذكِّر بنفسه هو : “هل وصلتْ الدولة الموروثة إلى نهايتها مع تكثيفها الأوجي ومع تراجع آلياتها التجددية في وجه بروز البعد الجدلي للعوامل الذاتية والخارجية والداخلية ؟ هل دشّنتْ الدولةُ الفوقية لحظةَ القطيعة وبدأتْ تستهلك نفسها وتتقوضُ ذاتيا ولو جزئيا أمام الألغام الخفية التي ظلت تحمل في طياتها بشكل هوامش مدنية مطارَدة ومحجوبة ولكن متنامية؟ “
كانت إجابتي حينها ما يلي “قد لا يكون من المبالغة التأكيد أولا على أن مرجعيات الدولة الفوقية الثنائية (الوكيل الأجنبي والمجتمع التقليدي) أخذتْ تفقد كثيرا من بريقها، وأن “النخبة” التي مثلتْ عمودَها الفقري بدأت تتآكل جديا. ولم تعد المغالاةُ في استثمار البنى التقليدية قادرةً على إخفاء هذا التآكل لمرحلة طويلة قادمة. فبالرغم من أن أعمار العناصر المتنفذة في السلطة الرسمية والتقليدية تزيد في المتوسط على عمر الدولة نفسها بما يزيد على العقد فإن أكثر من ثلثي سكان موريتانيا الحالية يتكون من ذوي الأعمار التي تقل عن الثلاثين. وقد أدى العامل المزدوج للانفجار الديمغرافي ولانخفاض أمل الحياة إلى تجدد متلاحق للأجيال. وغني عن القول إن هذا التجدد ترافق للأسباب الداخلية والخارجية المعروفة مع هزات نزوحية وطفرات من التقري والتمديُن طالت بنسب متفاوتة معظم إن لم يكن كل شرائح المجتمع. ومن ثم ففئات واسعة من الأجيال الجديدة قد نمتْ وتكونتْ ذهنيا في الساحات شبه المختلطة أو نصف المختلطة للمدن أو أشباه المدن أو للتجمعات السكنية التمازجية، للحجرات الدراسية أو شبه الدراسية وللملعب وما في معناه. نمتْ وتكونتْ ذهنيا تحت تأثير الطفرات الإعلامية المتلاحقة بدءً بالصحيفة المقروءة والمصورة ووصولا إلى الإذاعة والتلفزيون ومختلف الوسائط الإعلامية الرائجة أو التي أخذت تروج مؤخرا كالانترنت والتقنيات التواصلية الجديدة. وعرفت في حدود متفاوتة المناخَ الذي يهيئه الانتشار النسبي للصحافة، والمكتوبة منها بالخصوص، كتحول حاسم من “الخبر الشفهي” إلى “الخبر الكتابي”. كما تمرّستْ بمستوى ما من التعاطي التداولي العلني بدل التعاطي الضمني التقليدي. وبالتالي عرفتْ بصيغ لا يستهان بها الفضاءَ شبه المدني أو لنقل الفضاءَ العام بالمعنى الهابرماسي. عرفتْه وتأثرتْ به وبمرجعياته بشكل يوازي إن لم ينافس تأثَّرها القوي بالفضاء التقليدي المعزول أو الجزئي وبمرجعياته. كما أدّتْ الهجرة العمالية لعشرات الآلاف من الشباب في السنوات الأخيرة إلى تقوية مواقعهم الاقتصادية والرمزية كمصادر دخل لشريحة متزايدة. كما أكسبهم تمرسا “بالعصر” وطموحا لامتلاك زمامه ولتبيئة تجاربهم الخارجية.
غير أنه لا مراء في أن تلك التحولات الأساسية ما تزال مكبلة بأصفاد جدية. فمع انفجار عدد السكان وتمديُنِهم واحتكاكهم في صيغ غير تقليدية نمتْ أنماطٌ من التعارف والعلاقات هزّت إلى حد ما منظومة القرابات التقليدية ولكنها لم تخلق بعدُ لدى الأجيال الجديدة معنى مستقلا للفضاء المديني. ونجحتْ جزئيا في اختراق الحدود الأفقية كحدود القبيلة في مستوى الفئة المتشابهة ولكنها لم تخترق بنسبة ملموسة بعدُ الحدود الفئوية والعمودية الهرمية ولم تتجاوز الحواجز العرقية حتى في إطار مستويات هرمية يُفترض تقارُبها.
وهو ما عني أن التحول ظل في أجزاء كبيرة منه كمونيا ولما يقُدّر له بعدُ الخروج الفاعل إلى العلن. ويعود ذلك في أقوى جوانبه إلى عاملين متداخلين ومحوريين:
أحدهما أنه إذا كانت الحياة العملية المدينية أو شبه المدينية طيلة فترة الطفولة والمراهقة لا تَستنْفر المرجعيات التقليدية في تفاصيلها العملية إلا عرضا فإن الأمر ينعكس مع الدخول في الحياة العملية أو التأهب لها بعد فترة تعلم وتكوين أو بدونها. فالفضاء المدِيني مرتبط في نجاعته التحديثية بعلاقته بدولة مدنية غائبة. والمجتمع التقليدي في ظل تتويج دولة الامتيازات هو الذي كاد أن يحتكر في العقود الأخيرة كل المهمات التي تُفترض إناطتُها بالدولة. ففي الدولة الفوقية، وفيما يتجاوز المنطوق إلى المفعول، يكون الريعُ العمومي وكلُّ مشتقاته امتيازا يمرّ عبر القنوات المخولة بالطرق الضمنية لا المعلنة. والخدمات العامة من تربية وصحة وتوظيف وضمان اجتماعي وحتى من أمْن كلُّها وبحدها الأدنى المتبقي امتيازاتٌ وليست حقوقا.
أما العامل الثاني الذي يشكِّلُ استمرارا للأول فهو أن البطالة التي تطال أغلبية القوى الحية المنحدرة من أجيال ما بعد “الاستقلال” تنعكس على الأخيرة في شكل أزمة انتماء وهوية. فالإنسان الذي لا يجد أي سياق يُمَكّنه من إبراز عصاميته وتوظيفها إنتاجيا ويشعر بنفسه كعالة على المجتمع يتم انزياحه شيئا فشيئا نحو عظاميته أي نحو فضاء الانتماءات التقليدية كملاذ قيمي. أو بتعبير آخر، من لا يجد وسيلة لتحقيق ذاته بمهنة أيا كانت، كمهندس أو كأستاذ أو كعامل، لاسيما إذا امتلك كل مؤهلاتها الدراسية والعملية دون أن يحصل عليها، يصبح تلقائيا مضطرا للجوء إلى انتمائه القبلي أو الفئوي للتزود بمكانة اجتماعية تعويضية. تتوارى صفة مواطنية المواطن لصالح صفة فلان الفلاني. فأمام انتفاء حقوقٍ مواطنيةٍ تتجه إلى الفرد بشكل مستقل عن هويته الجزئية أو انتمائه التقليدي، تتجه إليه بصفته مواطنا أي كعنصر تكويني للدولة وفي ظل استمرار وتجذر حالة العوز بل البؤس والشعور المتزايد والمتأجَّج بالحرمان وفي مواجهة بطش السلطة الامتيازية يحتل شحن الهويات الجزئية وتعبئتها كبؤر امتيازات موقعَ الوسيط الأكثر جاذبية ونفعية في التعامل مع الدولة ـ النظام. بل يصبح بعث الانتماءات العتيقة، وإعادة توظيف رموزيتها لخلق مرجعيات تقليدية مجدَّدة، الأداةَ بل رأسَ المال الأكثرَ مردودية.
هذه الظاهر الجدلية هي في قلب ما يمكن أن نسميه البلبلة المعيارية والوعيَ المحجَّب أو لنقل الوعي المطاطي المتأرجح والمتقلب الذي يجد ترجمتَه في كم لا حصر له من التصرفات التي تبدو على مستوى الشكل في قمة التناقض. فتظهر لدى نفس الفرد الرغبات الأكثر تضاربا في الانخراط في العصر وفي الاغتراب عنه وبالأشكال الأكثر ابتذالا وخواء. وينجم عنها انعكاس واستبطان لدى الأجيال الجديدة لازدواجية وكلاء الدولة الذين يَجمعون بين الشكليات “الخارجية” و”الحقائق” المحلية، بين المعايير المعلنة والمعايير الفعلية.
على أنه مما يضعف قوة شحن الانتماءات التقليدية أن هذا الشحن بالذات يُطعّم الأخيرة بدلالات جديدة تدفع شيئا فشيئا نحو تفككها الذاتي. أو بمعنى آخر فإنه يُفْقدها جزءا كبيرا من رصيدها الرمزي والقيمي أمام توظيفها الأداتي وتبضيعها أو تحويلها التدريجي إلى سلعة محضة بتأثير مناخ العوز الذي تضاعف طيلة العقود الماضية وظلَّ إلى الآن يتزايد طرديا مع تزايد وتنوع الحاجيات وتنامي وتوسع الفقر بما يخلقه استمرارُ ذلك لفترات طويلة من هشاشة في العلاقات والأوضاع ومن تضخم أحاسيس التخوف اليومي أو مشاعر الريبة والاحتراز الاجتماعيين.
صحيح أن لذلك انعكاسات بالغة السوء، وأنه إلى ذلك يُضعف المحتوى الأخلاقي للعلاقات الاجتماعية بإخضاعها للتبضيع والسلعية، ويمنح بذلك – في ظل استحلال الملكية “العمومية” أي هدر ذمة الدولة – قبولا اجتماعيا إضافيا لنهم الفئات المتنفذة والمستفيدة من ريع الدولة الفوقية عبر إضعافه – وأحيانا إلغائه – لكل مستويات الحرص الاجتماعي على نقاء الطرق المتبعة في الكسب والتحصيل. وصحيح كذلك أنه يُقوي الزبونية تجاه الدولة وتجاه المجتمع التقليدي. ولكن تحويل الانتماءات إلى علاقات زبونية يَهدم أسسها ويجعلها قابلة للإنقلاب الفجائي عندما تتوفر ظروف بديلة.
ينضاف إلى ذلك أن طردية تزايد وتنوع الحاجيات وتنامي وتوسع الفقر في العقدين الأخيرين قد طالت الحلقات الأكثر اقترابا من الفئات المتنفذة وألحقتْ ـ ذاتيا ومن ثم موضوعيا ـ أغلب شرائح البرجوازية الصغيرة التي كانت تنمو في هامش المؤسسات الناشئة للدولة بالفئات المعوزة وبمناخها. وهو ما أوهن عمْقيا في نفس الوقت الولاءات التقليدية وولاءات موكَّلي ومواكلي السلطة وإن لم ينعكس ذلك بعد كثيرا على سطح العلاقات الزبونية التي أخذتْ، ضدِّيا، توسعا وتنوعا مع إعادة استثمار المجتمع التقليدي في الفضاء الدولتي. ولكن تَقصي مستوى الروابط والوِصايات ينبئ بسهولة عن واقع ثخين يختمر خلف البنيات المنظورة ويُثبت أن تمفصلات جدية قد تشكلتْ.
وبالرغم مما يشاهَد لدى الأجيال الجديدة من ترسخ للمرجعيات التقليدية بشكل يفوق حتى أقرانَهم من الأجيال القديمة بسبب العاملين الذين عرضا لنا فلم يعد يخفى حضور مرجعيات مدنية أو على الأقل مدينية أو شبه مدينية منافِسة. وهناك توق جارف إلى تَمثّل العصر له محتواه مهما كانت ترجماته الحالية ساذجة ومرتبطة بالثقافة السلعية والاستهلاكية السائدة. فالفضاء العام الحالي بنسقه الدلالي المختلف يعرف توسعا مستمرا. وهو يحمل معه منظمومة معيارية وقيمية قيد التشكل، ويُرسِّخ في العمق بهذا المقتضى انتماءا مواطنيا مترعرعا، انتماء مواطنيا يتعايش مع الانتماءات الجزئية وتَطغى عليه هذه الأخيرة في سياقات كثيرة ولكنه يكشف – في أكثر من مقام – عن نفسه وعن انغراسه. وهو إن لم يكن فعالا بل محيَدا حاليا في أغلب الأحيان فليس من العسير استنهاضه أو تنشيطه وتحويله إلى مبدأ إيجابي وفاعل. “
هذه هي التوضيحات التي كتبُ بهذا الخصوص قبل ثماني سنوات. وتبدو لي التداعيات اللاحقة قد شهدتْ لها ولو جزئيا. ولكني أترك لكم الحكم فأنتم أكثر اطلاعا على الميدان.
مرة أخرى أسمحوا لي أن أشدّد على تحفظي وأن أكرّر أنه ليستْ لدي موضوعيا معطياتٌ جردية كافية عن البلد في تحولاته الاجتماعية السياسية العميقة والكلية الحالية. أشكركم.