وهذا الأمر ليس وقفا على السياسات الخارجية للحركات فقط، بل امتد حتى طال السياسات الداخلية والتمثيل الشعبي ومطالبه التي أكد عليها في جلسات الجزائر مؤخرا والمظاهرات المتكررة على نطاق واسع من قبل ومن بعد.
ويبدو هذا الأمر جليا في تنازل الحركة الوطنية لتحرير أزواد عن إعلان الاستقلال في جلسات “وغا” بعد أن أقسمت عليه الأيمان المغلظة وبعد جعله واقعا جليا أمام الشعب الأزوادي الذي لا يرض بأقل منه.
الأمر الذي أغضب الشعب أولا حتى تم إقناعه بضرورة التنازل عن الاستقلال تحت ذريعة (ضغوطات دولية) مع وعود بالحكم الذاتي الموسع على غرار (كردستان العراق) كما يردد الحركيون لاسترضائه.
ومن جانب المجلس الأعلى لوحدة أزواد والذي كان ضمن حركة أنصار الدين التي شكلت لاستكمال جهاد الآباء والأجداد في سبيل الله ضد المستعمر الفرنسي وذراعه في المنطقة (مالي)، بهدف إقامة “شرع الله في عباد الله على أرض الله”، قبل انفصال هذه عن تلك إثر التدخل الفرنسي.
وحيث كانت الحركة (الإسلامية) لم ترفع شعار الانفصال ولم تطالب به يوما كان لزاما أن تبرر كفاحها المسلح والذي تجلى في المطالبة بالعدالة وتطبيق الشريعة في النظام العدلي والقضائي عبر حكم ذاتي لشمال مالي (أزواد).
الأمر الذي نال قبولا واسعا في الأوساط السياسية الخارجية بهدف تنحية أنصار الدين، كذلك شكل بديلا شعبيا نتيجة مراهقات الحركة الوطنية الإقصائية في الداخل وخصوصا في السلك العسكري، ما أسفر عن ولادة (المجلس الأعلى لوحدة أزواد).
وبالنظر في الحركتين العربيتين (MAA) فقد تشكلتا في الوقت بدل الضائع نتيجة مراهقات هنا وهناك واختلافات هنا وهناك وانقسامات هنا وهناك وأخيرا اقتتال بين هذا وذاك.
لكن مع ذلك نجحتا في اللحاق بالركب نتيجة تحالف مع حركات أزوادية أخرى، ودبلماسية قوية جدا نجح فيها قادة الحركتين داخليا ودوليا، إلا أن مطلب الحركتين بقي إما غامضا أو متبنيا لمطلب آخرين.
ومن هذا التنازع والتنازل انطلقت دعوات الوحدة في الأوساط المدنية الأزوادية، ولعل أبلغ تلك الدعوات مؤتمر الخامس عشر من مايو والذي دعا إليه الشيخ إنتالا أغ الطاهر زعيم قبائل آضغاغ في كيدال.
وقد حضر المؤتمر أمناء كل من المجلس الأعلى والحركة الوطنية و (MAA) ولد سيداتي وحركة غنديزو. لكن التنازع بقي على حاله إذ لم تجد الوحدة الوطنية سبيلا لها سوى بعض المبادرات الفردية التي لم تجد ترحيبا عند آخرين.
بينما أصر البعض على فتح الدبلوماسية الأزوادية وشدد على أهمية التفرق وكونه لا يعتبر مشكلا في حد ذاته إنما العداء والتباغض هو المشكل ونحن نستطيع العمل كحركات أو أحزاب على حد قوله.
وبما أن الدبلوماسية الأزوادية أصبحت مفتوحة على مصراعيها ولا توجد قيود للحركات ولا للتمثيل الشعبي، أصبحت الحركات تولد بين عشية وضحاها وتنقسم أخريات حتى بلغ عددها إحدى عشرة حركة.
وبما أن الدعوة عامة والمائدة عامرة ما كانت الحركتان القوميتان (غنداكوي) و (غنديزو) تغيبان عن المحفل حتى لو كانتا متهمتين بأعمال عنصرية وعمليات إبادة جماعية للعرب والطوارق المدنيين في أزواد برعاية الجيش المالي.
وبين الضغوطات المالية من جهة والدبلوماسية الجزائرية من أخرى إضافة إلى علاقات وتحالفات أزوادية بينية، دخلتا كلتا الحركتين من أوسع الأبواب لتشاركان مباشرة في صنع القرار الازوادي عبر المشاركة في المفاوضات كشريك أساسي أزوادي.
وبالطبع بدأ تجلي سقوط أصوات الشعب ومطالبه المشروعة التي دفع ثمنها عبر كفاح مسلح نال منه الأخضر واليابس وسنوات من التشريد والضياع ومئات الضحايا والشهداء، فيما عرف بين الأزواديين بكارثة الطريق أو خارطة الطريق إلى باماكو.
تلك الخارطة التي أعلنت فيها الحركات الأزوادية بالإجماع عدة بنود أهمها الثلاثة التالية : 1- وحدة التراب المالي 2- الإعتراف بالدستور المالي 3- علمانية الدولة.
وبذلك سقط مطلب الانفصال ومطلب تطبيق الشريعة الإسلامية. إلا أن الحركات دافعت عن نفسها أمام الغضب الشعبي بضرورة تلك الاحترامات بغية التوصل إلى حكم ذاتي موسع على حد تعبيرهم.
ومؤخرا في غرة سبتمبر وفي إطار هامش المفاوضات الجزائرية تم الاستماع إلى أصوات الشعب الأزوادي الذي أكد مرة أخرى على ضرورة الانفصال عن الحكومة المالية كحل وحيد للقضية.
لكن يبدوا بأن تلكم الأصوات لم تسمع أحياء إذ طويت تلك الصفحات التي وقع عليها قادة الشعب الأزوادي غداة مغادرتهم الجزائر لتخرج علينا الحركات ببيان جديد يظهر مدى استعدادهم لتقديم التنازلات حتى قبل المفاوضات.
فما إن طلبت مالي التأجيل حتى يوم الاثنين 15 سبتمبر خرجت علينا الحركات الأزوادية بما أسمته برتوكول نظام حكم فدرالي أزوادي ينتظر أن تعترف به حكومة مالي…!!!
وهو ما يجد فيه الناشطين فتح باب أمام الخدع المالية وفخاخها والتي تدعوها تارة باللامركزية وأخرى بفدرالية المناطق بغية التوصل إلى اتفاق يضمن لها زعزعة الاستقرار في أزواد والسيطرة على موارده.
وبالمقابل كرر الشعب الأزوادي وشدد على أنه ما لم يحصل على كافة حقوقه وحريته الكاملة من مالي فكل اتفاقية أو تنازلية تعتبر مردودة على من وقعها ولن يقبل أو يرض بها.
بينما ما تزال الحركات تقدم له دروسا تلو الأخرى في الإصرار على التنازع والتنازل حتى هذه اللحظة.