نواكشوط ـ صحراء ميديا
أخذ اللقاء الذي جرى يوم الاثنين بين رئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز وزعيم المعارضة الديمقراطية، رئيس حزب تكتل القوى الديمقراطية أحمد ولد داداه، بعدا خاصا، يتعلق بالعلاقة بين الرجلين وما عرفته من شد وجذب. رغم ما للقاء من أهمية سياسية تتعلق بالعلاقة بين السلطة والمعارضة والحوار الذي يدعو له كلا الطرفين.
فقبل أن تتضح معالم نهاية الفترة الانتقالية الثانية انفصم عقد علاقة ولد عبد العزيز الرئيس السابق للمجلس العسكري (المجلس الأعلى للدولة) و ولد داداه المعارض التاريخي، ولم تدم علاقة الرجلين طويلا رغم وديتها التي فهمت من أحاديثهما بعد السادس من أغسطس 2008.
كان مفاجئا للرأي العام الموريتاني مستوى التفاهم الذي طبع العلاقة بن تكتل القوى الديمقراطية والمجلس الأعلى للدولة الذي استولى على السلطة بعد الاطاحة بسيدي محمد ولد الشيخ عبد الله صبيحة اليوم الذي قرر فيه الأخير إزاحة كبار قادة المؤسسة العسكرية.
فتاريخ علاقة ولد عبد العزيز و ولد داداه مليء بالتناقض والمواجهة، التي وإن لم تكن مباشرة إلا أنها أخذت صورا متعددة منذ الإطاحة بالرئيس السابق معاوية ولد الطايع و حتى بداية اهتزاز أركان حكم ولد الشيخ عبد الله. فقد كان الاثنان حاضران بقوة في المشهد..سياسيا وعسكريا وشعبيا.
صبيحة السادس من أغسطس كان زعيم المعارضة الديمقراطية في تونس العاصمة لحضور المؤتمر السنوي لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم الذي يرأسه زين العابدين بن علي رئيس الجمهورية التونسية، لكن ورغم بعد المسافة كان حزبه أول من أصدر بيانا يعلن فيه تفهمه ودعمه لـ”التغيير”، متماهيا في ذلك مع قوى الأغلبية التي كانت تدعم ولد الشيخ عبد الله، قبل أن تدخل في تمرد منتصف العام 2008 سعت خلاله لحجب الثقة عن حكومة يحيى ولد أحمد الوقف الثانية التي لم تحظ برضاها تماما كما عارضت حكومته الأولى بسبب دخول “عناصر غريبة” على الموالاة التي تعتبر أنه بدعمها وصل ولد الشيخ عبد الله للسلطة في انتخابات مارس 2007.
“رجل صادق بقوله.. لم يف بوعده”
“خرجنا بلقائنا مع العقيد أعلى ولد محمد فال بأنه صادق بقوله وأنه يريد المصلحة لهذا البلد…هذا الانقلاب لم يحصل بسفك للدماء ولا أي شكل من أشكال العنف، وحتى لم يحصل أي اعتقال ولا حظر تجول، وهذا مهم جداً ويوحي بأنه كان فيه تجاوب من الشعب الموريتاني وهذا التغيير أنا ما لا أسميه انقلاب أنا أقول تغيير وتصحيح”.
هكذا كان موقف أحمد ولد داداه من انقلاب الثالث من أغسطس 2005 حين تحدث بعيد استقباله من طرف العقيد اعل ولد محمد فال في الشهر ذاته.
“كانت هناك تعهدات، بأنه لن يتم أي تدخل في الانتخابات، ولن تكون هناك أشياء غير واضحة، تكون هناك شفافية و حياد، وهذا لم يحصل إطلاقاً. وأنا حتى الآن لم أفهم شيئا، ما هو المنطق الذي دفع العقيد علي ولد محمد فال لهذا؟ لأن مصلحته، وسمعته، وأبهته، كانت تقتضي أن يفي بما وعد..و مهما كانت نيته، و لو عودته للحكم في المستقبل، إذا كان يريد، كان أفضل له أن يفي إن أراد.ولكنه لم يفِ بل تدخل، وضغط..”.
وكان هذا هو موقف ولد داداه في نوفمبر 2007 عندما اتهم المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية ورئيسه العقيد اعل ولد محمد فال بعدم الوفاء بالالتزام الذي قطعه ورفاقه على أنفسهم.
علاقة ولد داداه بولد عبد العزيز تتقاطع مع علاقته بولد محمد فال فالاثنان قادا الاطاحة بولد الطايع الغريم التاريخي لولد داداه، ومع تعهدات المجلس العسكري بعدم ترشح أي من أعضائه لأي منصب انتخابي، كان ولد داداه أبرز الزعماء السياسيين في الواجهة، وبالتالي فهو الأكثر حظا بالفوز في الانتخابات الرئاسية، وبالتالي قد يكون ارتأى أن من مصلحته تحسين العلاقة مع الحكام الجدد، سبيلا لتمهيد الطريق نحو القصر الرئاسي، لكن ذلك الود لم يدم، فبروز رفيق دربه في الحكم المدني الأول سيدي ولد الشيخ عبد الله عكر صفو الوداد بين الطرفين، ولم يعد الحديث عن دعم أعضاء المجلس العسكري خصوصا العقيد (الجنرال فيما بعد) محمد ولد عبد العزيز لولد الشيخ عبد الله مجرد همس في صالونات نواكشوط وإنما أصبح أمرا مسلما به لدى أطراف في اللعبة السياسية خصوصا تكتل القوى الديمقراطية الذي كان أكبر الأحزاب تمثيلا في البرلمان بعد انتخابات 19 نوفمبر 2006 والتي اتُـهم أيضا القادة العسكريين بالتدخل فيها من خلال الضغوط واجراءات الترغيب والترهيب.
من “عدو”..إلى حليف
يقول أنصار ولد داداه أن ولد عبد العزيز كان مصمما على عدم فوز ولد داداه في انتخابات مارس 2007، وكان مستعدا لكل عمل لمنع ذلك، ويتهمونه بالتدخل الفعلي.
بعد انتخاب ولد الشيخ عبد الله بأقل من شهر وتحديدا في مطلع ابريل 2007 انتقد ولد داداه بشدة ما قال انه “تدخل سافر” لولد عبد العزيز في السلطة. وطالب في أول إطلالة تلفزيونية له بعد خسارته الانتخابات، في برنامج “مباشر مع” على قناة الجزيرة قائد الحرس الرئاسي العقيد (يومها) محمد ولد عبد العزيز بالكف عن التدخل في شؤون النظام السياسي، منتقدا تدخل المجلس العسكري في الانتخابات الرئاسية لصالح سيدي ولد الشيخ عبد الله.
وقال ولد داداه في حديث الذي أثار جدلا انه من حق العسكريين ممارسة السياسة لكن بشرط أن يتخلوا عن صفتهم العسكرية وعن مواقعهم القيادية في الجيش.
ورغم التصعيد تعامل ولد داداه مع الرئيس الجديد ولد الشيخ عبد الله، وأعرب عن استعداداه رفقة من دعموه في الشوط الثاني للمشاركة في حكومة وحدة وطنية، ولكن داعمي ولد الشيخ عبد الله لم يجدوا لمناوئيهم موطئا إلى جانبهم، عندها تفرق الجمعان…أصبح ولد داداه يحمل صفة “زعيم المعارضة الديمقراطية” بشكل دستوري، ويحل في الرتبة الرابعة في الدولة بعد رئيس الجمهورية ورئيسي غرفتي البرلمان. واستقبل ولد الشيخ عبد الله أكثر من مرة زعيم المعارضة الديمقراطية ولد داداه(مايو 2007، يوليو 2007، سبتمبر 2007، يونيو 2008…الخ) وفي كل مرة كان موضوع الحوار قضية وطنية قد تصل أحيانا لدرجة من الخلاف يصعب معها الحوار على مستويات أقل.
ولكن النصف الأخير من العام 2008 حمل تنافرا كبيرا بين المعارضة الديمقراطية و ولد الشيخ عبد الله… اتضح أن ولد داداه بدأ يفقد الأمل في “تغيير حقيقي” يقوده ولد الشيخ عبد الله، كما ظل ممتعضا من علاقة رئيس الجمهورية بقادة المؤسسة العسكرية، خصوصا الجنرالين عزيز و وغزواني، ومن ثم بدأ التقارب بين ولد داداه و ولد عبد العزيز فالأخير أصبح مع الوقت يرى ـ حسب ما سرب لاحقا ـ أن ولد الشيخ عبد الله بدأ يتنكر، ويتحالف مع جهتين يرفضهما ولد عبد العزيز وهما : حزبا الاسلاميين واليساريين (تواصل، وقوى التقدم) من جهة ومن جهة أخرى مع وزراء ومعاوني ولد الطايع الذين عادوا في حكومتي ولد أحمد الوقف.
وهنا بدأت الأزمة السياسية التي أدت في النهاية إلى الانقلاب، وخلال تلك الأزمة شهدت علاقة حزب التكتل والسلطة توترا كبيرا وصل لدرجة حديث بعض الأوساط الحزبية عن تحضيرات قانوينة لحل الحزب، ومصادرة ممتلكاته. وعندما عاد ولد داداه من رحلته إلى تونس وظهر على قناة الجزيرة ليعرب عن تأييده القوى لما قال انه “حركة تصحيح” وليس انقلابا، مضيفا أن حزبه لا يؤيد الانقلابات.
قرار اعتز به ولد عبد العزيز وذكّر به أكثر من مرة، وسبب ردود فعل متباينة داخل حزب ولد داداه والرأي العام. وصل بعض المراقبين الى القول إن حزب التكتل جزء من “الجناح المدني” للانقلاب مكملا للجزء الآخر وهو نواب حجب الثقة، وحين رفض التكتل دخول حكومة المجلس الأعلى للدولة، اختير أربعة وزراء يحسبون عليه أو مقربون منه، إضافة لكون الوزير الأول مولاي ولد محمد لقظف الذي اختير قادما من سفارة موريتانيا في بروكسيل انتمى فترة لهذا الحزب، وعمل لصالحه في الحوض الشرقي ابان انتخابات الفترة الانتقالية، ويقول مناصرو التكتل ان تعيينه سفيرا في بروكسيل جاء بهدف “حرمان الحزب منه”.
لم يفصح الجنرال عن نواياه المستقبلية، خلافا لما حدث ظهيرة الثالث أغسطس 2005 حين كشف عزيز ورفاقه عن مسار ما بعد الانقلاب، وعندما استقبل عزيز ولد داداه بعيد السادس من أغسطس خرج الأخير ليقول :”حظيت باستقبال فخامة رئيس المجلس الأعلى للدولة ودار الحديث حول التطورات الأخيرة، وحول الميثاق الذي صدر، وقضايا أخرى تهم البلد وتهم الاستقرار والأمن، وأشكر فخامة الرئيس على هذه المقابلة”. لحظتها كان ولد داداه ربما يشعر بأن الجنرال سيطبق بالفعل تجربة آمادو توماني توري في مالي، ولكن الأيام اللاحقة كشفت أن طموح الجنرال يحتاج مدة أقصر من تلك التي قضاها توري ليعود. فبدأت عرى العلاقات مع ولد داداه وحزبه في الانفصام.
عودة الجفاء…
كانت مدينة نواذيبو المحطة الأخيرة في جولات داخلية للجنرال محمد ولد عبد العزيز، قال هو انها للاطلاع على أوضاع المواطنين ومعاناتهم، وقال معارضوه انها حملة سابقة لأوانها. كما وعد ولد داداه بالكشف عن “أشياء مهمة” حال عودته لنواكشوط قادما من باريس، وعد الجنرال عزيز أيضا بالكشف عن “أشياء مهمة” في مؤتمر صحفي في نواذيبو. اتهم ولد داداه، في مؤتمره الصحفي الجنرال محمد ولد عبد العزيز بالتوجه بالبلاد نحو الهاوية من خلال “التعنت” على الاستمرار في مسار أحادي يستغل له ثروات الدولة.
و أضاف ولد داداه ان “استخدام وسائل بدائية من قبيل السعي لتفكيك الأحزاب لن يوفر مخرجا للجنرال ولن يزيد هذه الأحزاب إلا قوة.”على حد تعبيره
من جهته كشف ولد عبد العزيز في مؤتمره الصحفي أن ولد داداه حذره مرارا من قطع العلاقات مع الاحتلال، وقال:”هناك رئيس حزب يعرف نفسه ولا أريد ذكره بالاسم قال لي في لقاء سابق معي إن علاقات موريتانيا بإسرائيل إستراتيجية ولا نريد قطع علاقاتنا معها”. وأضاف : “لكنه غير موقفه وهو كثيرا ما يغير مواقفه، جاءني في أزمة غزة الأخيرة وطلب مني عدم قطع العلاقات مع الاحتلال معتقدا أنه في حالة قطعنا العلاقات فإن ذلك سيثير علينا الغرب ويخلق لنا مشاكل”.
وقال ولد عبد العزيز : “أحترم ولد داداه كرئيس حزب وكمناضل وأؤكد لكم أنه شجع الانقلاب قبل أن يقع وجاءني عدة مرات يطالبني بالانقلاب ورفضت”. نافيا بشدة وجود خلية شكلها المجلس الحاكم لتفكيك حزب ولد داداه، وقال “لكن أعضاء في التكتل نوابا يطالبون بتفكيك و الحزب وقد اتصلوا بي وطلبت منهم عدم تفكيك الحزب، ونحن لم نحاول تفكيك الحزب ولن يتفكك الحزب بسببنا ولن نعمل على ذلك”.
كانت تلك التصريحات المتبادلة المحطة الأخيرة في مسار علاقة معقدة بين الرجلين، شابها الكثير من الشد والجذب، ولكنها لم تعش أياما وردية كثيرة.
واليوم عاد الرجلان للقاء وربط خيط تواصل في جو مشحون بالاتهامات المتبادلة بعدم الرغبة في الحوار، بعد انتخابات رئاسية تنافس فيها الاثنان بقوة، رغم أن ولد داداه خل ثالثا، واتهم ـ رفقة باقي قوى المعارضة ـ النظام بالاشراف على عملية تزوير “غير نمطية” رغم أن القطاعات الوزارية المعنية أدراها وزارء من المعارضة ضمن الحكومة الائتلافية التي شكلت بعد اتفاق داكار.